حِوَارٌ حَوْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ

(النُّسخةُ 1.76 - الجُزءُ الثالِثُ)

 

جَمعُ وتَرتِيبُ

أَبِي ذَرٍّ التَّوحِيدِيِّ

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

 

حُقوقُ النَّشرِ والبَيعِ مَكفولةٌ لِكُلِّ أحَدٍ

 

اِنتَقِلْ إلى المُقَدِّمةِ أو إلى الجُزءِ:

 

 

تَتِمَّةُ المسألة السابعة والعشرين

 

زيد: مَعْنَى ذلك أنَّه لا يُعْذَرُ بالجهلِ مَن وَقَعَ في الشركِ الأكبرِ؟.

 

عمرو: لا يُعْذَرُ مِن جِهةِ تَسمِيَتِه مُشْرِكًا، وإذا ماتَ على هذه الحالةِ فلا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يُدفَنُ مع المسلمِين في مَقابِرِهم، ولا يُدْعَى له؛ وإذا قامَتْ عليه قَبْلَ مَوْتِه الحُجَّةُ الرِّسالِيَّةُ كانَ مِنَ المُخَلَّدِين في النارِ، وإلَّا فحُكْمُه حُكْمُ أَهْلِ الفَتْرةِ الذِين يُمْتَحَنون يَومَ القِيَامةِ؛ وإذا قامَتْ عليه قَبْلَ مَوْتِه الحُجَّةُ الحَدِّيَّةُ حَلَّ دَمُهُ ومالُه؛ وإليك بَيَانُ ذلك مِمَّا يَلِي:

 

(1)قالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في مُحاضَرةٍ بِعُنْوانِ (مرجئة العصر "1") مُفَرَّغَةٍ على موقِعِه في هذا الرابط: فالإرجاءُ في اللُّغةِ معناه التَّأْخِيرُ والإمْهالُ، ومنه قولُ اللهِ سُبْحانَهُ وتعالَى {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} يَعنِي أَخِّرْهُ؛ طَيِّبٌ، لماذا سُمِّيَ المُرجِئةُ بهذا الاسْمِ؟، لأنَّهم يُؤَخِّرون العَمَلَ عن مُسَمَّى الإيمانِ، فيقولون {الإيمانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ}، أو {هو المَعرِفةُ فَقَطْ}، أو {التَّصدِيقُ فَقَطْ}، أو {التَّصدِيقُ والقَوْلُ} [قُلْتُ: مَقولةُ {الإيمانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ} هي نَفْسُها مَقولةُ {الإيمانُ التَّصدِيقُ والقَوْلُ}، وهي مَقولةُ مُرجِئةُ الفُقَهاءِ (وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ) [قالَ الشيخِ عبدِالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) في شَرْحِه لِكِتابِ (الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام): إنَّ مُرجِئةَ الفُقَهاءِ يُسَمُّون الجَهْمِيَّةَ مُرجِئةً، ولا يُسَمُّون أنفُسَهم مُرجِئةً. انتهى باختصار]؛ وأمَّا مَقولةُ {الإيمانُ المَعرِفةُ فَقَطْ} فَهي مَقولةُ الجَهْمِيَّةُ؛ وأمَّا مَقولةُ {الإيمانُ التَّصدِيقُ فَقَطْ} فَهي مَقولةُ الأَشاعِرةِ والمَاتُرِيدِيَّةِ. وقد قالَ الشيخُ سفر الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في (مَنهَجُ الأشاعِرةِ في العَقِيدةِ "الكَبِيرُ"): فالأشاعِرةُ في الإيمانِ مُرجِئةٌ جَهْمِيَّةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الحوالي-: مَذهَبُ جَهْمٍ [هو الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مُؤَسِّسُ الجَهْمِيَّةِ] أنَّ الإيمانَ هو المَعرِفةُ بِالقَلْبِ؛ ومَذهَبُ الأشاعِرةِ أنَّ الإيمانَ هو التَّصدِيقُ المُجَرَّدُ بِالقَلْبِ؛ فَحَقِيقةُ المَذهَبَين واحِدةٌ، وهي الاكتِفاءُ بِقَولِ القَلْبِ دُونَ عَمَلِه [قَوْلُ القَلْبِ هو التَّصدِيقُ؛ وعَمَلُ القَلْبِ هو الخَوفُ والمَحَبَّةُ والرَّجاءُ والحَيَاءُ والتَّوَكُّلُ والإخلاصُ، وما أَشْبَهُ]، ولا فَرْقَ بين أنْ يُسَمَّى مَعرِفةً أو تَصدِيقًا؛ أمَّا السَّلَفُ فهو عندهم قَولُ القَلْبِ، وقَولُ اللِّسانِ [وهو النُّطْقُ بالشَّهادَتَين]، وعَمَلُ القَلْبِ، وعَمَلُ الجَوارِحِ [ويَشْمَلُ الأفعالَ والتُّرُوكَ، القوليَّةَ والفعليَّةَ]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان على هذا الرابط في مَوقِعِه: والمُرجِئةُ طَوَائفُ، ما هُمْ بِطائفةٍ واحِدةٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الفوزانُ-: وأَخَفُّهم اللِّي [أَيِ الذي] يَقولُ {إنَّ الإيمانَ اِعتِقادٌ بِالقَلْبِ ونُطْقٌ بِاللِّسانِ} [وهو قَولُ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ]، هذا أَخَفُّ أنواعِ المُرجِئةِ، لَكِنَّهم يَشتَرِكون كُلُّهم في عَدَمِ الاهتِمامِ بِالعَمَلِ، كُلُّهم يَشتَرِكون، لَكِنَّ بَعْضَهم أَخَفُّ مِن بَعْضٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ حازم بن أحمد القادري في مقالة بعنوان (مخالفة الأشاعرة للسلف في الإيمان) على هذا الرابط: فالقَولُ هو قَولُ القَلبِ واللِّسانِ، والعَمَلُ هو عَمَلُ القَلبِ والجَوارِحِ؛ وقد أنكَرَ الأشاعِرةُ جَمِيعَ ذلك إلَّا قَولَ القَلبِ، وهَدَموا باقِي الأركانِ. انتهى. وقالَ الشيخُ كمال الدين نور الدين مرجوني (الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والأديان بجامعة العلوم الإسلامية الماليزية) في (العَقِيدةُ الإسلامِيَّةُ والقَضايَا الخِلافِيَّةُ عند عُلَماءِ الكَلامِ): فالقَولُ هو قَولُ القَلبِ واللِّسانِ، والعَمَلُ هو عَمَلُ القَلبِ والجَوارِحِ؛ وقد أنكَرَ الأشاعِرةُ جَمِيعَ ذلك إلَّا قَولَ القَلبِ، وهَدَموا باقِي الأركانِ. انتهى. وقالَ اِبنُ تيميةَ في (مجموع الفتاوى) عَنْ مَقُولةِ {إنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ تَصدِيقِ القَلْبِ وإنْ لم يَتَكَلَّمْ به}: هذا القَولُ لا يُعرَفُ عن أَحَدٍ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ وأَئِمَّتِها، بَلْ أَحمدُ وَوَكِيعٌ وغَيرُهما كَفَّرُوا مَن قالَ بِهذا القَوْلِ. انتهى. وقالَ (موقعُ الإسلام سؤال وجواب) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط: وغالِبُ المُتَأَخِّرِين مِنَ الأشاعِرةِ خَلَطوا مَذهَبَهم بِكَثِيرٍ مِن أُصولِ الجَهمِيَّةِ والمُعتَزِلةِ، بِلْ والفَلاسِفةِ أيضًا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مَقالةٍ بِعُنوانِ (الإرجاءُ عند الأشاعِرةِ) على مَوقِعِه في هذا الرابط: الأَشاعِرةُ والمَاتُرِيدِيَّةُ، هُمْ مِن غُلاةِ المُرجِئةِ، بَلْ تَكفِيرُ السَّلَفِ لِغُلاةِ المُرجِئةِ الجَهمِيَّةِ يَنْزِلُ عليهم. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي أيضًا في (التَّرجِيحُ بَيْنَ أقوالِ المُعَدِّلِين والجارِحِين في أبِي حَنِيفةَ): قَولُ الأشعَرِيَّةِ في الإيمانِ مُقارِبًا لِقَولِ الجَهمِ، بَلْ هو قَولُ جَهمِ على التَّحقِيقِ. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي أيضًا في (الوُجوه في إثباتِ الإجماعِ على أنَّ بِدعةَ الأشاعِرةِ مُكَفِّرةٌ) أيضًا: فَهَذا بَحثٌ في مَسألةٍ ما كانَ يَنبَغِي أنْ تَكونَ مَحَلَّ نِزاعٍ بَيْنَ طَلَبةِ العِلمِ لِوضوحِها، ولَكِنَّنا في أزمِنةٍ غَرِيبةٍ، وهي مَسألةُ كَونِ بِدعةِ الأشاعِرةِ مُكَفِّرةً... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: والحَقُّ أنَّ هذه المَسألةَ -أعنِي اِعتِبارَ بِدعةِ الأشاعِرةِ (خُصوصًا المُتَأَخِّرِين) مُكَفِّرةً- مَسألةٌ إجماعِيَّةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: وكَونُ الأشاعِرةِ عندهم شُبُهاتٌ، فَحَتَّى الجَهْمِيَّة الذِين قالوا بِخَلْقِ القُرآنِ عندهم شُبُهاتٌ، فَهَذا لا يَنفِي عنهم أنَّ قَولَهم مُكَفِّرٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: صَرَّحَ العُلَماءُ بِأنَّ مَذهَبَهم [أَيْ مَذهَبَ الأشاعِرةِ] في الإيمانِ مَذهَبُ جَهْمٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: وَلْيُعْلَمْ أنَّ قَولَ الأشاعِرةِ في الإيمانِ قَولٌ كُفرِيٌّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: فَمَنْ نَسَبِ لِشَيخِ الإسلامِ [اِبْنِ تَيْمِيَّةَ] أنَّه لا يُكَفِّرُ الأشاعِرةَ مُطلَقًا -سَوَاءٌ مَن قامَتْ عليهم الحُجَّةُ أَمْ لم تَقُمْ- فَقَدْ غَلَطَ عليه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: الخُلاصةُ في هذه المَسألةِ أنَّ بِدعةَ الأشاعِرةِ مُكَفِّرةٌ إجماعًا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مَقالةِ له بِعُنوانِ (تَقوِيمُ المُعاصِرِين) على مَوقِعِه في هذا الرابط: قالَ اِبنُ تَيمِيَّةَ [في (التِّسعِينِيَّةُ)] لِعُلَماءِ الأشاعِرةِ في مِصْرَ {يا كُفَّارَ، يا مُرتَدِّين، يا مُبَدِّلِين}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (إسعافُ السائلِ بِأَجوِبةِ المَسائلِ): وكَفَّرَ الشَّيخُ عبدُالرحمن بن حسن الطائفةَ الأشعَرِيَّةَ في عَهدِه [جاءَ في (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأَجوِبةِ النَّجْدِيَّةِ) أنَّ الشيخَ عبدَالرحمن بنَ حسن بن محمد بن عبدالوهاب المُلَقَّبَ بِـ (المُجَدِّدِ الثانِي) قالَ: وهذه الطائفةُ التي تَنتَسِبُ إلى أبي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ أعظَموا الفِرْيَةَ على اللهِ، وخالَفوا أهلَ الحَقِّ مِنَ السَّلَفِ والأئمَّةِ وأتباعِهم، فَهذه الطائفةُ المُنحَرِفةُ عنِ الحَقِّ قد تَجَرَّدَتْ شَياطِينُهم لَصَدِّ الناسِ عن سَبِيلِ اللهِ، فَجَحَدوا تَوحِيدَ اللهِ في الإلَهِيَّةِ، وأجازوا الشِّركَ الذي لا يَغفِرُه اللهُ، فَجَوَّزوا أنْ يُعبَدَ غَيرُه مِن دُونِه، وجَحَدوا تَوحِيدَ صِفاتِه بِالتَّعطِيلِ، فالأئمَّةُ مِن أهلِ السُّنَّةِ وأتباعِهم لَهم المُصَنَّفاتُ المَعروفةُ في الرَّدِّ على هذه الطائفةِ الكافِرةِ المُعانِدةِ، كَشَفوا فِيها كُلَّ شُبهةٍ لَهم، وبَيَّنوا فِيها الحَقَّ الذي دَلَّ عليه كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسولِه، وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ وأئمَّتُها. انتهى باختصار]. انتهى. وقالَ الشَّيخُ خالد بن علي المرضي الغامدي في كِتابِه (تَكفِيرُ الأشاعِرةِ): فَهذا كتابٌ في تَكفِيرِ الأشاعِرةِ الجَهمِيَّةِ، وبَيَانُ قَولِ أهلِ العِلْمِ فِيهم، وتَحقِيقُ إجماعِ السَّلَفِ على كُفرِهم، والرَّدُّ على مَن زَعَمَ خِلافَ ذلك؛ هذا وإنِّي كُنْتُ سابِقًا لا أقولُ بِتَكِفيرِ الأَشاعِرةِ والمَاتُرِيدِيَّةِ، كَما في كِتابِي (نقض عقائد الأشاعرة) تَبَعًا لِمَا رَأَيتُه مِنَ الكَلامِ المَنسوبِ لِلإمامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ، وكُنْتُ أقولُ قَدِيمًا {إنَّ العُذرَ بِالجَهلِ والتَّأوِيلِ في الشِّركِ وإنكارِ الصِّفاتِ خَالَفَ فِيه بَعضُ أهلِ السُّنَّةِ} وذلك على أنَّ المَسأَلةَ خِلافِيَّةٌ (وليس الأمْرُ كذلك)، فَلَمَّا تَأَمَّلتُ في الأدِلَّةِ وكَلامِ السَّلَفِ رَجَعتُ مِن هذا القَولِ وَتَبَرَّأتُ مِنه ولا أُحِلُّ أحَدًا أنْ يَنْقُلَه عَنِّي أو يَنسِبَه لِي، وَلِي في ذلك أُسوَةٌ وهو الإمامُ أحمَدُ حين قالَ عنِ الجَهمِيَّةِ {كُنْتُ لَا أُكَفِّرُهم حَتَّى قَرَأتُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرَآنِ [(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وَقَولَه (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وَقَولَه (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ)، فالقُرآنُ مِن عِلْمِ اللهِ، وَمَن زَعَمَ أَنَّ عٍلْمَ اللهِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَن زَعَمَ أَنَّه لَا يَدْرِي (عِلمُ اللهِ مَخْلُوقٌ أو لَيْسَ بِمَخلوقٍ) فَهُوَ كَافِرٌ]}؛ وأدعو مَن يُخالِفُ في المَسأَلةِ إلى التَّبَصُّرِ في الأدِلَّةِ والاقتِداءِ بِمَنهَجِ السَّلَفِ في تَكفِيرِهم، قالَ الْبُخَارِيُّ {وَإِنِّي لَأسْتَجْهِلُ مَنْ لَا يُكَفِّرُ الجَهمِيَّةَ، إِلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ}، وقالَ أحمَدُ {الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ}، وقالَ الْبَرْبَهَارِيُّ {الجَهمِيُّ كافِرٌ، ليس مِن أهلِ القِبلةِ}، وقالَ الدَّارِمِيُّ {وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَهْمِيَّةِ وَبَيْنَ المُشرِكِين حَتَّى نَجْبُنَ عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِكْفَارِهِمْ؟}؛ فالحَقُّ الذي لا مِريَةَ فيه أنَّ الأشاعِرةَ جَهمِيَّةٌ، والجَهمِيَّةُ كُفَّارٌ غَيرُ مُسلِمِين؛ وقد سَبَقَ وأنْ كَتَبْتُ رِسالةً قَرِيبةً في مَوضوعِها مِن هذا الكِتابِ بِعُنوانِ (القَولُ المَأمونُ بِتَحقَّقِ رِدَّةِ المَأمونِ) [قالَ الشَّيخُ الغامدي في بِدايَةِ هذا الكِتابِ: فَهذا بَحثٌ في تَحقِيقِ القَولِ في كُفرِ المَأمونِ والخُلَفاءِ الآخِذِين بِمَذهَبِ الجَهمِيَّةِ بَعْدَه وتَصحِيحِ تَكفِيرِ الإمامِ أحمَدَ وغَيرِه لَهم، كَتَبْتُه لَمَّا رَأَيْتُ تَمَسُّكَ المُرجِئةِ في عَصرِنا بِهذه الفِريَةِ. انتهى]، حَقَّقْتُ فِيه تَكفِيرَ السَّلَفِ لِلْمَأمونِ... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الغامدي-: اِعلَمْ أنَّ مَدارَ الرِّسالةِ يَقِفُ على أمْرَين؛ (أ)الأوَّلُ، أنَّ الأشاعِرةَ وَقَعوا في مُكَفِّراتٍ عَدِيدةٍ لم يَختَلِفْ أحَدٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ في تَكفِيرِ فاعِلِها وقائلِها ومُعتَقِدِها، وسَنَأْتِي بِها على وَجهِ التَّفصِيلِ مع كَلامِ أهلِ العِلْمِ؛ (ب)الثانِي، وجُوبُ تَكفِيرِ مَن كَفَّرَه اللهُ مِنَ الواقِعِين في فِعْلٍ يَنقُضُ إيمانَهم، ومِنهم الجَهمِيَّةُ وأتباعُهم الأشاعِرةُ الذِين أجمَعَ السَّلَفُ على وُجوبِ تَكفِيرِهم بِأعيَانِهم... إلى أنْ قالَ -أيِ الشَّيخُ الغامدي-: خِتامًا، فالوَصِيَّةَ الوَصِيَّةَ بِاتِّباعِ السُّنَّةِ ومُجانَبةِ البِدعةِ، وها أنتَ تَرَى مَذْهَبَ أئمَّةِ السَّلَفِ بَيْنَ يَدَيْك قد حَقَّقْتُه لك، وعليك أنْ تَتَحَرَّى الأخذَ بِالدَّلِيلِ واتِّباعَ السَّلَفِ أصحابِ القُرونِ المُفَضَّلةِ، واترُكِ المُغالَطةَ ونِسبةَ شَيءٍ لَهم لم يَقولوا بِه وكَلامُهم في تَكفِيرِ مُنكِرِ العُلُوِّ في غايَةِ الظُّهورِ والصَّراحةِ، فَلا تَتَشَبَّهوا بِالجَهمِيَّةِ في تَحرِيفِ الكَلامِ وتَأْوِيلِه وادِّعاءِ أنَّ السَّلَفَ لم يُكَفِّروا أعيَانَهم، وإيَّاكُم وتَوَلِّيَ أعداءِ اللهِ بِالمُداهَنةِ والمُجامَلةِ في دِينِ اللهِ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ أبو بكر القحطاني في (شَرحُ قاعِدةِ "مَن لم يُكَفِّرِ الكافِرَ"): أهلُ العِلْمِ، ما حُكْمُهم في الأشاعِرةِ؟، مِن قَدِيمٍ ويَحكُمون في الأشاعِرةِ بِأنَّهم -يَعنِي (الأصلُ أنَّهم)- قالوا أقوالًا مُكَفِّرةً، لَكِنْ لا يُكَفَّرون إلَّا بَعْدَ إقامةِ الحُجَّةِ. انتهى. وقالَ الشَّيخُ محمدُ بنُ شمس الدين في (مَن كَفَّرَ الأشعَرِيَّةَ؟): فَقَدْ طَلَبَ مِنِّي أحَدُ المَشايِخِ الفُضَلاءِ تَوثِيقَ أقوالِ المُكَفِّرِين لِلأشعَرِيَّةِ، فَأَجبْتُه لِمَا طَلَبَ، ثم بَدَا لِي نَشرُ هذا البَحثِ وإتاحَتُه لِلْجَمِيعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ شمس الدين-: والذِين سَأَنْقُلُ أقوالَهم على نَوعَين، مُصَرِّحٌ بِتَكفِيرِهم بِالاسمِ، وذَاكِرٌ لِمَقالَتِهم مُخبِرٌ بِكُفرِ قائلِها... (إِلَى آخِرِ مَا قَالَ). انتهى. وجاءَ على الموقعِ الرَّسْمِيِّ لِجَرِيدةِ الوَطَنِ المِصرِيَّةِ تحت عُنْوانِ (الأزهَرُ يَبدَأُ حَمْلةً مُوَسَّعةً لِمُواجَهةِ التَّطَرُّفِ بِنَشرِ الفِكرِ الأَشْعَرِيِّ) في هذا الرابط: قالَ مَركَزُ الأزهَرِ العالَمِيُّ لِلفَتْوَى الإلِكْتُرُونِيَّةِ {إنَّ الأَشاعِرةَ يُمَثِّلون أكثَرَ مِن 90% مِنَ المُسلِمِين}. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: فقَضِيَّةُ الإيمانِ قَضِيَّةٌ كبيرةٌ، بعضُهم يَخْتَزِلُها في مسألةِ وُجودِ اللهِ عزَّ وجلَّ (أنَّ اللهَ مَوجودٌ)، إذَا مَوجودٌ [أَيْ إذا كُنْتَ تُقِرُّ أنَّ اللهَ مَوجودٌ]، إذَا تُصَدِّقُ باللهِ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ، لَا [أَيْ أنَّ الاختزالَ المذكورَ غيرُ صَحِيحٍ]، النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ ما على هذا قاتَلَهم [أَيْ قاتَلَ الكُفَّارَ]، ليس على قَضِيَّةِ الإقرارِ بوُجودِ اللهِ، قاتَلَهم على مسألةِ الإقرارِ والالتزامِ والإذعانِ لِشَرْعِ اللهِ، أنَّه لا بُدَّ أنْ تُذْعِنوا لِشَرْعِ اللهِ، و(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لها حُقوقٌ، ولها شُروطٌ، وأنَّ مَن لم يُوَفِّ بهذه الشُّروطِ فليس بمُسلِمٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: المرجئةُ طَبْعًا مُصِيبَتُهم أنَّهم يقولون {الإيمانُ هو التَّصدِيقُ، أَنَّك تُصَدِّقُ بوُجودِه، تُقِرُّ أنَّه هناك إلَهٌ}؛ ومنهم [أَيْ مِنَ المُرجِئةِ] مَن يقولُ أَسْوَأَ مِن هذا، يقولُ {الإيمانُ هو المَعرِفةُ فَقَطْ، أَنَّك تَعرِفُ أنَّ اللهَ مَوجودٌ، تَعرِفُ فَقَطْ، مُجَرَّدُ المَعرِفةِ}؛ وبعضُهم يقولُ {الإيمانُ هو باللِّسانِ، فَقَطْ أَنَّك تَنْطِقُ الشَّهَادَتَين، ولَوْ ما عَمِلْتَ أَيَّ عَمَلٍ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: الآنَ كَمْ مِن مُشرِكٍ يَنْطِقُ الشَّهَادَتَين في العالَمِ؟، الرافِضةُ يَنْطِقون الشَّهَادَتَين، يَنْطِقون الشَّهَادَتَين ولكنَّهم يَعتقِدون بوُجودِ اثْنَيْ عَشَرَ إمامًا مَعصومًا كَلَامُهم [أَيْ كَلَامُ الاِثْنَيْ عَشَرَ هؤلاء] تَشرِيعٌ ويَعْلَمون الغَيْبَ، إلى آخِرِه [أَيْ آخِرِ كُفْرِيَّاتِهم]، فَهَلْ هؤلاء مُسلِمون؟!، فما هذا الجِهَادُ الذي بيننا وبينهم إِذَنْ؟!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: المُرجِئةُ [هُمُ] الذِين أَرْجَأُوا العَمَلَ عنِ الإيمانِ، [أَيْ] أَخَّرُوا العَمَلَ عنِ الإيمانِ، هؤلاء [هُمُ] الذِين يَعتقِدون أنَّه [أَيِ الإيمانُ] {هو التَّصدِيقُ والإقرارُ فَقَطْ}، أو {هو تَصدِيقُ القَلْبِ وعَمَلُ القَلْبِ، وما يَلْزَمُ عَمَلُ الجَوَارِحِ}، أو أنَّ {الإيمانَ قولٌ بلا عَمَلٍ}، أو أنَّ {عَمَلَ الجَوَارِحِ مُكَمِّلٌ للإيمانِ وليس رُكْنًا مِن أركانِه ولا شَرطًا لِصِحَّتِه [قالَ الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي في (نَثْرُ الوُرُودِ): الفَرْقُ بين الرُّكْنِ والشَّرطِ أنَّ الرُّكنَ جُزْءُ الماهِيَّةِ الداخلُ في حَقِيقَتِها (كالرُّكوعِ والسُّجودِ بالنِّسبةِ إلى الصلاةِ)، والشَّرطُ هو ما خَرَجَ عنِ الماهِيَّةِ (كالطَّهارةِ إلى الصلاةِ)؛ ورُبَّما أُطْلِقَ كُلُّ منهما على الآخَرِ مَجَازَا عَلَاقَتُه المُشابَهةُ في تَوَقُّفِ الحُكْمِ على كُلِّ منهما. انتهى]}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: يَعنِي لَوْ واحِدٌ بَسْ [أَيْ فَقَطْ] يقولُ الشَّهَادَتَين، ولا يُصَلِّي، ولا يُزَكِّي، ولا يَصُومُ، ولا يَحُجُّ، ولا يَأمُرُ بالمعروفِ، ولا يَنْهَى عنِ المُنكَرِ، ولا يَتَعَلَّمُ العِلمَ ولا يَعمَلُ [به]، ولا يَدعُو، ولا يَعمَلُ أعمالَ البِرِّ وَلَا الخَيرِ ولا بِرِّ الوالِدَين ولا صِلَةِ الأَرحامِ، ما عنده شيءٌ أَبَدًا غَيْرُ الشَّهَادَتَين، المُرجِئةُ يقولون {هذا مُؤْمِنٌ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لازِمٌ [أَنْ] نَعرِفَ أنَّ المُرجِئةَ مَراتِبُ، يَعنِي في [أَيْ يُوجَدُ] شيءٌ اسْمُه غُلَاةُ المُرجِئةِ [وَهُمْ مُرجِئةُ المُتَكَلِّمِين، وَهُمُ الجَهْمِيَّةُ ومَن تابَعَهم مِنَ المَاتُرِيدِيَّةِ والأَشاعِرةِ، الذِين يقولون {الإيمانُ هو المَعرِفةُ}، أو يقولون {الإيمانُ هو التَّصدِيقُ}]، اللِّي إذا ناقَشْتَه مُمْكِنٌ [أَنْ] تَصِلَ معه إلى أنَّ فِرعَونَ وأبَا جَهْلٍ مُؤْمِنَان؛ وفي [أَيْ يُوجَدُ] مُرجِئةٌ أَخَفُّ [وَهُمْ مُرجِئةُ الفُقَهاءِ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ]، الذِين يَقولون {لا [أَيْ لا يَكْفِي التَّصدِيقُ]، لازِمٌ [أَنْ] يَنطِقَ بِالشَّهَادَتَين، ويُصَدِّقَ ويُؤْمِنَ ويُسَلِّمَ بوُجودِ اللهِ، وأنَّه ما يَقولُ أنَّه أَنَا اللهُ ولا أَنَا إلهٌ مع اللهِ، مَثَلًا}، لكنْ لَمَّا تَجِيءُ [تَتَكَلَّمُ] على الأعمالِ (الصَّلاةِ الزَّكاةِ الصِّيامِ) يقول {هذه ما هي شَرْطٌ للإيمانِ}، ولذلك المُرجِئُ هذا -الذي هو الأَخَفُّ [إرجاءً]- مُمْكِنٌ [أَنْ] يُخَطِّئَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في قِتَالِه مانِعِي الزَّكاةِ، لأنَّه [أَيْ هذا المُرجِئَ] عنده الزَّكاةُ [يَعنِي أعمالَ الجَوارِحِ بالكُلِّيَّةِ، والتي منها الزَّكاةُ] ما هي شَرْطٌ في الإيمانِ، [فهؤلاء المُرجِئةُ يقولون] {لماذا قاتَلَهم [أبو بَكْرٍ]؟، المَفْروضُ كانَ خَلَّاهُمْ [أَيْ تَرَكَ قِتالَهم]، وَهُمْ [أَيْ مَا دَامُوا هُمْ] يُقِرُّون بالشَّهَادَتَين}، يقولون [أَيْ هؤلاء المُرجِئةُ] أنَّه {ما كانَ في [أَيْ ما كانَ يُوجَدُ] داعٍ للقتالِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: دَرَجةٌ [أَيْ طائفةٌ] مِنَ المُرجِئةِ عندهم أنَّ {تارِكَ جِنْسِ العَمَلِ ليس بكافرٍ}، يَعنِي هو لا يَعْمَلُ بِشَيءٍ مِنَ الدِّينِ الْبَتَّةَ [قالَ الشيخُ سفر الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي) نَقْلًا عنِ ابنِ تيميةَ: قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، إلَّا أنْ يُؤَدِّيَها لَا لِأجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الأَمَانَةَ أَوْ يَصْدُقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الأُمُورِ، فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى]، ما عنده إلَّا الشَّهَادَتَان يَنطِقُهما بَسْ، [فهذا الشَّخْصُ ليس بِكافِرٍ عندَ المُرجِئةِ]؛ وبعضُ طوائفِ المُرجِئةِ يقولون {الكُفْرُ لا يكونُ إلَّا بالتَّكذِيبِ أو الاستحلالِ بَسْ [أَيْ فَقَطْ]}، فهذا النَّوعُ مِنَ المُرجِئةِ يقولون {ما [أَيْ لَيْسَ] في شَيءٍ مِنَ الأقوالِ أو الأعمالِ كُفْرٌ بِذاتِه} [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): ومَذهَبُ المُرجِئةِ [يَعنِي مُرجِئةَ الفُقَهاءِ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ] في الإيمانِ يَقتَضِي أنْ تَكونَ الأقوالُ كُفرًا على الحَقِيقةِ بِخِلافِ الأفعالِ. انتهى]، حتى لو قُلْتَ له {سَجَدَ لِصَنَمٍ} يقولُ {ما أُكَفِّرُه}، مَنَعَ الزَّكاةَ، [يقولُ] {ما أُكَفِّرُه}، ما يُصَلِّي أَبَدًا لا يَرْكَعُ للهِ، [يقولُ] {ما أُكَفِّرُه}، ما عندهم شيءٌ مِنَ الأعمالِ أَوِ الأقوالِ تَركُهُ كُفْرٌ؛ وبعضُهم يقولُ {هناك أقوالٌ وأعمالٌ جَعَلَها الشَّرعُ عَلَامةً على الكُفْرِ أو عَلَامةً على الإيمانِ، ولكنْ لَيْسَتْ هي الإيمانَ}، لاحِظْ [قَوْلَهم] {لَيْسَتْ هي الإيمانَ} [جاء في موسوعةِ الفِرَقِ المنتسبة للإسلام (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): وقالَ [أَيِ اِبْنُ حَزْمٍ في كتابِه (الفِصَلُ في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ)] {وأمَّا الأَشْعَرِيَّةُ فقالوا (إِنَّ شَتْمَ مَن أَظْهَرَ الإسلامَ لِلَّهِ تَعالَى ولِرَسولِه بِأَفْحَشِ ما يكونُ مِنَ الشَّتْمِ، وإعلانَ التَّكذِيبِ بِهما بِاللِّسانِ بِلا تَقِيَّةٍ ولا حِكَايَةٍ، والإقرارَ بِأنَّه يَدِينُ بذلك، ليس شَيءٌ مِن ذلك كُفْرًا)، ثم خَشُوا مُبادَرةَ جميعِ أَهْلِ الإسلامِ لهم فَقالوا (لَكِنَّه دَلِيلٌ على أنَّ في قَلْبِه كُفْرًا)}. انتهى. وجاء في الموسوعة العَقَدِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشرافِ الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): قالَ ابنُ حزم [في كِتابِه (الفِصَلُ في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ)] في بَيَانِ مَذهَبِ الجَهْمِيَّةِ ومَن وافَقَهم [أَيْ مِنَ الأَشاعِرةِ] {وقال هؤلاء (إِنَّ شَتْمَ اللهِ وشَتْمَ رسولِ اللهِ ليس كُفْرًا، لكنَّه دَلِيلٌ على أنَّ في قَلْبِه كُفْرًا)}؛ وقالَ [أَيِ ابنُ حزم أيضًا في كتابِه (المُحَلَّى)] {وأَمَّا سَبُّ اللهِ تَعالَى، فَمَا على ظَهْرِ الأرضِ مُسلِمٌ يُخَالِفُ في أنَّه كُفْرٌ مُجَرَّدٌ، إلَّا أنَّ الجَهْمِيَّةَ والأَشْعَرِيَّةَ -وهُما طائفَتَان لا يُعتَدُّ بهما- يُصَرِّحون بأنَّ سَبَّ اللهِ تَعالَى، وإعلانَ الكُفْرِ، ليس كُفْرًا؛ قالَ بعضُهم (ولكنَّه دَلِيلٌ على أنَّه يَعتَقِدُ الكُفْرَ، لَا أَنَّه كافِرٌ بِيَقِينٍ بِسَبِّه اللهَ تَعالَى)، وأَصْلُهم في هذا أَصْلُ سُوءٍ خارِجٌ عن إجماعِ أهلِ الإسلامِ، وهو أنَّهم يقولون (الإيمانُ هو التَّصدِيقُ بالقَلْبِ فَقَطْ، وإنْ أَعلَنَ بالكُفْرِ وعِبَادةِ الأَوْثانِ بغيرِ تَقِيَّةٍ ولا حِكَايَةٍ)}؛ والحاصلُ أنَّ الجَهْمِيَّةَ ومَن وافَقَهم يَحْصُرُون الكُفْرَ في جَهْلِ القَلْبِ أو تَكذِيبِه، ومع ذلك يُكَفِّرون مَن أَتَى المُكَفِّراتِ المُجْمَعَ عليها، كسَبِّ اللهِ، والسُّجودِ للصَّنَمِ، ويقولون {إنَّ الشارعَ جَعَلَ ذلك أَمَارةً على الكُفْرِ، وقد يكونُ صاحبُه مُؤمِنًا في البَاطِنِ}، هذا هو مَسلَكُهم العامُّ في هذه القَضِيَّةِ، يَنفُون التَّلَازُمَ بين الظاهرِ والباطِنِ، ويَزعُمون أنَّ الإيمانَ يكونُ تامًّا صَحِيحًا في القَلْبِ مع وُجودِ كَلِماتِ الكُفْرِ وأعمالِه في الظاهرِ، وأنَّه إنْ حُكِمَ لفاعلِ ذلك بالكُفْرِ ظاهِرًا، فلا يَمنَعُ أنْ يكونَ مؤمنًا باطنًا، سَعِيدًا في الدَّارِ الآخِرةِ. انتهى باختصار. وقالَ ابنُ القيم في (الفوائد): الإِيمَانُ لَهُ ظَاهِرٌ وباطِنٌ، وَظَاهِرُه قَولُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ، وباطِنُه تَصْدِيقُ الْقَلبِ وانْقِيادُه ومَحَبَّتُه؛ فَلَا يَنفَعُ ظَاهِرٌ لَا بَاطِنَ لَهُ وَإِنْ حُقِنَ بِهِ [أَيْ بِالظَّاهِرِ] الدِّمَاءُ وعُصِمَ بِهِ المَالُ والذُّرِّيَّةُ [قالَ الْمَاوَرْدِيُّ (ت450هـ) في (الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي) في بَابِ (تَفْرِيقِ الْغَنِيمَةِ): فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ مَرْقُوقِينَ. انتهى باختصار]، وَلَا يُجْزِئُ بَاطِنٌ لَا ظَاهِرَ لَهُ [قالَ تَعالَى {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وقالَ تَعالَى أيضًا {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}] إِلَّا إِذا تَعَذَّرَ بعَجْزٍ أَو إِكْرَاهٍ وَخَوفِ هَلَاكٍ؛ فَتَخَلُّفُ الْعَمَلِ ظَاهِرًا مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ دَلِيلٌ على فَسَادِ الْبَاطِنِ وخُلُوُّه مِنَ الإِيمَانِ، ونَقْصُه دَلِيلُ نَقْصِه، وقُوَّتُه دَلِيلُ قُوَّتِه. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: جاءَ مَن يُطْلَقُ عليهم مرجئةُ الفُقَهاءِ [وهؤلاء الذِين يَقولون {الإيمانُ اِعتِقادٌ بالقلبِ ونُطْقٌ باللِّسانِ}، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ، وهؤلاء يَختلِفون عن مُرجِئةِ المُتَكَلِّمِين الذِين ظَهَرُوا فيما بَعْدُ، الذِين يَقولون {الإيمانُ هو المَعرِفةُ}، أو يَقولون {الإيمانُ هو التَّصدِيقُ}، وَهُمُ الجَهْمِيَّةُ ومَن تابَعَهم مِنَ المَاتُرِيدِيَّةِ والأَشاعِرةِ] في أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الأُولَى للهِجرَةِ، فكانَ ظُهُورُ بِدعَةِ المُرجِئةِ في أَوَاخِرِ عَصرِ الصَّحابةِ الكِرامِ -رَضِيَ اللهُ عنهم- بَعْدَ وَفاةِ كِبَارِ الصَّحابةِ وذِهابِ جُمْهورِ التابِعِين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: عَهْدُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، و[بَعْدَهُ] حَصَلَتْ فِتْنةُ ابْنِ الأَشْعَثِ، وكانَ لهذا دَخْلٌ في نُشُوءِ تَيَّارِ الإرجاءِ [يَعنِي أنَّ خُروجَ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ على عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وما حَصَلَ بَعْدَهُ مِن ثَوْرةِ ابْنِ الأَشْعَثِ على الْحَجَّاجِ وَعَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، كانَا لَهُما دَخْلٌ في نَشْأَةِ بِدْعةِ الإرجاءِ. يقولُ في هذا الرابط مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر: حَصَلَ الصِّراعُ بين عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وبين يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ [بْنِ أَبِي سُفْيَانَ]، لِرَفْضِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مُبَايَعةَ يَزِيدَ بالخِلَافةِ [أَيْ بَعْدَما تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عامَ 60هـ]، وظَلَّ الأَمْرُ على ذلك إلى أنْ ماتَ يَزِيدُ [وذلك في عامِ 64هـ] فَبَايَعَ الناسُ لابْنِ الزُّبَيْرِ بالخِلَافةِ، فخَرَجَ عليه مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ثم ابْنُه عَبْدُالْمَلِكِ حتى أَعادُوا الخِلَافةَ للبَيْتِ الأُمَوِيِّ [وذلك بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ودُخولِ مَكَّةَ تَحْتَ سِيَادَةِ بَنِي أُمَيَّةَ عامَ 73هـ]؛ قالَ الدكتورُ الصلابي [في كتابِه (الدولَةُ الأُمَوِيِّةُ، عَواملُ الازدهارِ وَتَداعِيَاتُ الانْهِيَارِ)] {كانَ مَقْصِدُ ابْنِ الزُّبَيْرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وَمَنْ مَعَهُ [أَيْ مَقْصِدُهم مِنَ الخُروجِ على يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ]، ومِن بَيْنِهم بعضُ الصَّحابةِ والتابِعِين، كالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وعَبْدِاللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ ومُصْعَبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وغيرهم مِن فُضَلَاءِ عَصْرِهم، هو تَغْيِيرَ الوَاقِعِ بِالسَّيفِ لَمَّا رَأَوْا تَحَوُّلَ الخِلَافةِ إلى وِرَاثَةٍ ومُلْكٍ، ولِمَا أُشِيعَ حَوْلَ يَزِيدَ مِن شائعاتٍ أَعْطَتْ صُورةً سَيِّئَةً للخَلِيفةِ الأُمَوِيِّ في دِمَشْقَ؛ والذي يَنبَغِي أنْ يُفْهَمَ أنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قامَ للهِ... لقد كانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَهْدِفُ مِن وَرَاءِ المُعارَضةِ أنْ تَعُودَ الأُمَّةُ إلى حَيَاةِ الشُّورَى ويَتَوَلَّى الأُمَّةُ حينئذٍ أَفْضَلُها}؛ وقالَ [أَيِ الدكتورُ الصلابي] في ما يَتَعَلَّقُ بخُرُوجِ مَرْوَانَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ {مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ لا يُعَدُّ عندَ كثيرٍ مِنَ المُحَقِّقِين والمُؤَرِّخِين خَلِيفةً، حيث يَعتَبِرونه باغِيًا خَرَجَ على أميرِ المؤمنِين عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ... يقولُ ابنُ كثيرٍ [في البداية والنهاية] (ثُمَّ هو -أي ابْنُ الزُّبَيْرِ- الإمامُ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ [هو مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وكانَ مَوْتُه بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ وفي نَفْسِ العامِ الذي ماتَ فيه يَزِيدُ، أَيْ في عامِ 64هـ] لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَرْشَدُ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَيْثُ نَازَعَهُ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ وَقَامَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ فِي الآفَاقِ وَانْتَظَمَ لَهُ الأَمْرُ)، ويُؤَكِّدُ كُلٌّ مِنِ ابنِ حزم والسيوطي شَرعِيَّةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ويَعتَبِران مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وابنَه عَبْدَالْمَلِكِ باغِيَين عليه خارِجَين على خِلَافَتِه، كما يُؤَكِّدُ الذَّهَبِيُّ [صاحبُ (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)] شَرعِيَّةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ ويَعتَبِرُه أميرَ المؤمنِين}. انتهى باختصار. وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): وَدَخَلَ ابْنُ الأَشْعَثِ الْكُوفَةَ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ [هو خامِسُ حُكَّامِ الدولةِ الأُمَوِيَّةِ، وهو الذي وَلَّى الْحَجَّاجَ الْعِرَاقَ]. انتهى. وقالَ الذَّهَبِيُّ في (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ): أَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَكَانَ مُقَدَّمَ الصَّالِحِينَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَامُوا عَلَى الْحَجَّاجِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الأَشْعَثِ، فَقُتِلَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فِي وَقْعَةِ الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ [يعني وَقْعَةَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ التي قَضَى فيها الْحَجَّاجُ على ثَورةِ ابْنِ الأَشْعَثِ]؛ قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ {اجْتَمَعْتُ أَنَا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، فَكَانَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ أَعْلَمَنَا وَأَفْقَهَنَا}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بنُ مبارك الهاجري في مَقَالةٍ له بِعُنْوانِ (الثورة العربية، وأباطيل الجماعات الوظيفية): فقد كانَ [أَيْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ] يُحَرِّضُ الناسَ على الخُروجِ على الْحَجَّاجِ وَعَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وكان يقولُ [كما ذَكَرَ الطبري في (تاريخ الأمم والملوك)] {قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ في الحُكْمِ وتَجَبُّرِهم في الدِّينِ وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ}، ومِن طُلَّابِ ابْنِ عَبَّاسٍ الذين قادُوا المَعرَكةَ في الخُروجِ على الْحَجَّاجِ الفَقِيهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ [الطَّائِيُّ]، فكان أَبُو الْبَخْتَرِيِّ يَخْطُبُ في الجَماهِيرِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَاجِمِ فيقولُ [كما ذَكَرَ الطبري في (تاريخ الأمم والملوك)] {أَيُّهَا النَّاسُ، قاتِلوهم على دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ لَيُفْسِدُنَّ عليكم دِينَكُمْ ولَيَغْلِبُنَّ على دُنْيَاكُمْ}، ومِن طُلَّابِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضًا الإمامُ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ، كانَ يَحُثُّ الناسَ فيقولُ [كما ذَكَرَ الطبري في (تاريخ الأمم والملوك)] {يا أهلَ الإسلامِ، قاتِلوهم، ولا يَأْخُذْكم حَرَجٌ مِن قتالِهم، فَوَاللَّهِ ما أَعلَمُ قَومًا على بَسِيطِ الأَرْضِ أَعْمَلَ بِظُلْمٍ ولا أَجْوَرَ منهم في الحُكِمِ، فَلْيَكُنْ بهم البِدَارُ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عليُّ بنُ محمد الصلابي (عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) في كتابِه (الدولَةُ الأُمَوِيِّةُ، عَواملُ الازدهارِ وَتَداعِيَاتُ الانْهِيَارِ): فإنَّ عَبْدَالْمَلِكِ [بْنَ مَرْوَانَ] أَوَّلُ خَلِيفةٍ اِنْتَزَعَ الخِلَافةَ انتِزاعًا، وبايَعَه كثيرٌ مِنَ الناسِ بَعْدَ أنْ قَتَلَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، لِيَبْدَأَ عَصْرُ الخَلِيفةِ المُتَغَلِّبِ، وهو ما لم يَكُنْ للأُمَّةِ به عَهْدٌ مِن قَبْلُ، لقد أَجمَعَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عليهم على أَنَّ الإمامةَ إنَّما تَكونُ بعَقْدِ البَيْعةِ بَعْدَ الشُّورَى والرِّضَا مِنَ الأُمَّةِ، كما أَجازوا الاستِخلَافَ بشَرْطِ الشُّورَى ورِضَا الأُمَّةِ بمَنِ اختارَه الإمامُ وعَقْدِ الأُمَّةِ البَيْعةَ له بَعْدَ وَفاةِ مَنِ اختارَه دُونَ إكراهٍ، كما أَجمَعوا على أنَّه لا يَسُوغُ فيها التَّوَارُثُ ولا الأَخْذُ لها بالقُوَّةِ والقَهْرِ، وأنَّ ذلك مِنَ الظُّلْمِ المُحَرَّمِ شَرْعًا؛ قالَ اِبنُ حزم [في كِتابِه (الفِصَلُ في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ)] {لا خِلَافَ بَيْنَ أَحَدٍ مِن أهلِ الإسلامِ أنَّه لا يَجوزُ التَّوَارُثُ فيها}، غَيْرَ أَنَّ الأَمْرَ الواقعَ بَدَأَ يَفْرِضُ نَفْسَه، وصارَ بعضُ الفُقهاءِ -بحُكْمِ الضَّرورةِ- يَتَأَوَّلون النُّصوصَ لإضْفاءِ الشَّرعِيَّةِ على تَوْرِيثِها وأَخْذِها بالقُوَّةِ، لِتُصبِحَ هاتان الصُّورَتان [أَيْ صُورةُ التَّورِيثِ، وصُورةُ الأَخْذِ بالقُوَّةِ] بَعْدَ مُرورِ الزَّمَنِ هما الأَصْلُ الذي يُمارَسُ على أرضِ الواقعِ، وما عداهما نَظَرِيَّاتٌ لا حَظَّ لها مِنَ التَّطبِيقِ العَمَلِيِّ، وأَصبَحَتْ سُنَّةُ هِرَقْلَ وقَيْصَرَ بَدِيلًا عن سُنَّةِ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ؛ وقد أجازَ كثيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ طَرِيقَ الاستيلاءِ بالقُوَّةِ مِن بابِ الضَّرُورةِ -مع إجماعِهم على حُرمَتِها- مُراعاةً لِمَصالحِ الأُمَّةِ وحِفَاظًا على وَحْدَتِهَا، وأَصبَحَ الواقعُ يَفْرِضُ مَفاهِيمَه على الفِقْهِ والفُقَهاءِ، وصارَتِ الضَّرُورةُ والمَصلَحةُ العامَّةُ تَقْتَضِي تَسوِيغَ مِثْلِ هذه الطُّرُقِ [أَيْ طُرُقِ التَّورِيثِ والأَخْذِ بالقُوَّةِ]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصلابي-: إنَّ الاستبدادَ والاستيلاءَ على حَقِّ الأُمَّةِ [أَيْ في اختيارِ مَن يَحْكُمُها] بالقُوَّةِ، وإنْ كانَ يُحَقِّقُ مَصلَحةً آنِيَةً، إلَّا أنَّه يُفْضِي إلى ضَعْفِ الأُمَّةِ مُستَقبَلًا وتَدمِيرِ قُوَّتِها وتَمْزِيقِ وَحْدَتِهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ الاستبدادِ في جَمِيعِ الأَعْصارِ والأَمْصارِ، وإنَّ ما يُخْشَى مِنِ افتراقِ المسلمِين بالشُّورَى خَيْرٌ مِن وَحْدَتِهم بالاستبدادِ على المَدَى البَعِيدِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصلابي-: شارَكَ جمهورٌ غَفِيرٌ مِنَ العلماءِ في حَرَكةِ ابْنِ الأَشْعَثِ هذه، سَوَاءً بتَحرِيضِ الناسِ على المُشارَكةِ فيها، أو بمُشارَكَتِهم المُباشِرةِ في القتالِ مع ابْنِ الأَشْعَثِ ضِدَّ الحَجَّاجِ، وقد استَفاضَتِ المَصادِرُ المُتَقَدِّمةُ في ذِكْرِ تَأْيِيدِ العلماءِ ومُشارَكَتِهم في هذه الحَرَكةِ، كما اجتَمَعَتْ [أَيِ المَصادِرُ المُتَقَدِّمةُ] على كَثْرَةِ عَدَدِ العلماءِ المُشارِكِين ولكنْ على اختِلَافٍ بينهم في تقديرِ هذا العَدَدِ، فيَذْكُرُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ [في كتابه (تاريخ خَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ)] أنَّ عدَدَهم بَلَغَ خَمْسَمِائَةِ عالِمٍ، وَعَدَّ منهم خَمْسَةً وَعِشْرِينَ عالِمًا. انتهى باختصار. وجاءَ في موسوعةِ الفِرَقِ المنتسبة للإسلام (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): وبَعْدَ أنْ قَوِيَتْ شَوكةُ ابْنِ الأَشْعَثِ، وبإزاءِ سِيرَتِه الحَسَنةِ في الناسِ وما أَفاضَه عليهم مِنَ الأُعْطِيَاتِ وعَلَاقَتِه الطَّيِّبةِ بالفُقُهاءِ والقُرَّاءِ، فقد بايَعُوه على خَلْعِ الحَجَّاجِ. انتهى. وقالَ الشيخُ حامد العطار (عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والباحث الشرعي بموقع إسلام أون لاين) في مقالة له بعنوان (أضرار شيوع الفكر الإرجائي) على هذا الرابط: هذا المَذهبُ [يَعنِي الإرجاءَ المُعاصِرَ] يَخْدِمُ الاستبدادَ السِّياسِيَّ، فإنَّه إذا كانَ لا يَجُوزُ الخُروجُ على الحاكِمِ إلَّا [إذا جاءَ] بالكُفْرِ البَوَاحِ، فإنَّ الإرجاءَ يَجْعَلُ الحاكِمَ المُستَبِدَّ مَهْمَا استَبَدَّ وظَلَمَ وطَغَى وبَدَّلَ في دِينِ اللهِ، يَجْعَلُه في أَمَانٍ مِنَ الكُفْرِ بِدَعْوَى عَدَمِ الاستحلالِ، ولذلك قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ [ت 204هـ] {الإِرْجَاءُ دِينٌ يُوَافِقُ الْمُلُوكَ، يُصِيبُونَ بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَيَنْقُصُونَ مِنْ دِينِهِمْ}. انتهى. وقالَ الشيخُ طارق عبدالحليم في (أحداث الشام، بتقديم الشيخ هاني السباعي): فقد قامَتْ مِن قَبْلُ دُوَلٌ اعتِزالِيَّةٌ كدَوْلةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ [وثَلَاثَتُهُمْ مِن حُكَّامِ الدَّولةِ العَبَّاسِيَّةِ]، ثم بادَتْ [أَيْ سَقَطَتْ] على يَدِ الْمُتَوَكِّلِ [عاشِرِ حُكَّامِ الدَّولةِ العَبَّاسِيَّةِ]، وقامَتْ دُوَلٌ على يَدِ الروافِضِ، والتي قَضَتْ [أَيْ سَقَطَتْ] على يَدِ نُورِ الدِّينِ [مَحْمُودِ بْنِ] زَنْكِي وصَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ [هو يُوسُفُ بْنُ أَيُّوب]، وقامَتْ دُوَلٌ على مَذْهَبِ الإرجاءِ، بَلْ كافَّةُ الدُّوَلِ التي قامَتْ [أَيْ بَعْدَ مَرْحَلَةِ الخِلَافةِ الراشدةِ] كانت على مَذْهَبِ الإرجاءِ [وهو المَذهبُ الذي ظَهَرَ في عَصْرِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ التي بِقِيَامِها قامَتْ مَرْحَلَةُ الْمُلْكِ الْعَاضِّ]، إِذْ هو دِينُ المُلوكِ كما قِيلَ، لِتَساهُلِه وإفساحِه المَجَالَ للفِسْقِ والعَرْبَدةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (التنبيهات على ما في الإشارات والدلائل من الأغلوطات): فالإرجاءُ مَذهَبٌ اِنهِزامِيٌّ، مِن حَيْثُ النَّشأةُ والمَبدَأُ، يَدعو إلى الضَّعْفِ والخَوَرِ والاستِكانةِ لِلذُّلِّ والهَوانِ، وهذا يَرتَبِطُ بِتارِيخِه وأجواءِ اِبتِداعِه، قالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ رَحِمَه اللهُ تَعالَى {إِنَّمَا أُحدِثَ الإرْجَاءُ بَعْدَ هَزِيمَةِ ابْنِ الأشْعَثِ} وهَزِيمَتُه كانَتْ في 84هـ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد بنُ إبراهيم السعيدي (رَئيسُ قِسمِ الدِّراساتِ الإسلامِيَّةِ بِكُلِّيَّةِ المُعَلِّمِين بِمَكَّةَ) في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (وَرَقاتٌ حَوْلَ كِتابِ "الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ") على هذا الرابط: دَعوةُ الشيخِ محمدِ بنِ عبدِالوهابِ وأدَبِيَّاتُها التي جَمَعَتْها هذه (الدُّرَرُ) [يَعنِي كِتابَ (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأَجْوِبةِ النَّجْدِيَّةِ)]، فَإنِّها هي الدَّعْوةُ الوَحِيدةُ التي اِستَطاعَتْ تَكوِينَ دوْلةٍ على أساسِ العَصَبِيَّةِ لِلتَّوحِيدِ لا لِغَيرِه، في حِينِ فَشِلَتْ جَمِيعُ الحَرَكاتِ الإسلامِيَّةِ في فِعْلِ ذلك مِن بَعدِ عَهْدِ الخُلَفاءِ الراشِدِينَ حتى يَومِنا هذا، ولو تَتَبَّعْنا التارِيخَ لَوَجَدْنا كُلَّ الدُّوَلِ التي نَشَأَتْ بَعْدَ دَولةِ الخُلَفاءِ الراشِدِينَ لم تَتَكَوَّنْ على أساسِ العَصَبِيَّةِ لِلدِّينِ والتَّوحِيدِ، واختَبِرِ التارِيخَ تَجِدْ صِحَّةَ ما ذَكَرتُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السعيدي-: ولِكَوْنِ تلك الدُّوَلِ الكَثِيرةِ [أَيِ التي نَشَأَتْ بَعْدَ دَولةِ الخُلَفاءِ الراشِدِينَ] لم تقُمْ على عَصَبِيَّةِ التَّوحِيدِ لم يَتَحَقَّقْ منها لِلمُسلِمِينَ نَفْعٌ في جانِبِ إحْيَاءِ السُّنَّةِ وإماتةِ البِدْعةِ وقَتْلِ الخُرافةِ ومَحْوِ مَظاهِرِ الشِّركِ، بَلْ ظَلَّتِ البِدَعُ -بِالرَّغْمِ مِن تَوالِي الدُّوَلِ القَوِيَّةِ- في تَزايُدٍ حتى كادَ يَذهَبُ رَسْمُ التَّوحِيدِ مِن كلِّ بِلادِ الإسلامِ. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: فالمسألةُ مسألةٌ تَرَتَّبَ عليها أعمالٌ، لِأنَّ اللِّي هو على عقيدةِ المُرجِئةِ في بعضِ التَّيَّارات التي تُسَمَّى (إسلامِيَّة)، ما عندهم مُشكِلةٌ [في أنْ] يَلْتَقُوا مع الرافِضةِ، والصُّوفِيَّةِ الغُلَاةِ، إلى آخِرِه، حتى لو عندهم الشركُ الأكبرُ، لِيهْ [أَيْ لماذا]؟ لأنَّهم يَعتقِدون بعقيدةِ المُرجِئةِ [فلا يُكَفِّرون الصُّوفِيَّةَ الغُلَاةَ والرافِضةَ وأَمثالَهم مِنَ المُتَلَبِّسِين بالشركِ أو الكُفْرِ]، بَيْنَمَا أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أَتْباعُ السَّلَفِ الصالحِ (الطائفةُ المنصورةُ)، ما يَرْضَوْنَ بهذا إطلاقًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: الوَاحِدُ إذا كَفَرَ وهو يقولُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، ما هي قِيمةُ الشَّهَادةِ عندئذٍ إذا كَفَرَ كُفْرًا أَكْبَرَ. انتهى باختصار.

 

(2)وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد أيضا في مُحاضَرةٍ بِعُنْوانِ (مرجئة العصر "2") مُفَرَّغَةٍ على موقِعِه في هذا الرابط): أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ [هُمُ] الذِين قالوا إنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، كما دَلَّتْ على ذلك الأدِلَّةُ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا}، وإنَّ الإيمانَ مَراتِبُ وشُعَبٌ، وإنَّ الناسَ يَتَفاوَتون في الإيمانِ، ولكنْ هناك حَدٌّ أَدْنَى مِنَ الإيمانِ، لَوِ الوَاحِدُ ما وُجِدَ عنده يَخْرُجُ مِنَ المِلَّةِ (يَكْفُرُ) [قالَ الشيخُ عبدُالله بنُ صالح العجيري في مَقَالةٍ له بعُنْوانِ (نَظَراتٌ نَقْدِيَّةٌ حَوْلَ بعضِ ما كُتِبَ في تَحقِيقِ مَنَاطِ الكُفْرِ في بابِ الوَلَاءِ والبَرَاءِ) على هذا الرابط: لو أنَّ مُسلِمًا دُعِيَ إلى إهانةِ المُصْحَفِ مُقابِلَ مَبْلَغٍ يُحَصِّلُه فَرَفَضَ، فَزِيدَ له في السِّعرِ فتَرَدَّدَ، ثم زِيدَ فأَقْدَمَ وفَعَلَ، فإنَّا لا نَشُكُّ أنَّه إنَّما رّفَضَ أوَّلًا لقِيَامِ مَعنًى إيمانِيٍّ في قَلبِه مَنَعَه مِنَ الإقدامِ، وتَرَدُّدُه بَعْدَ الزِّيَادةِ مُستَلزِمٌ وَلَا بُدَّ ضَعْفَ هذا المَعنَى في باطِنِه، وإقدامُه في النِّهايَةِ مُستَلزِمٌ وَلَا بُدَّ انْعِدامَ أَصْلِ الإيمانِ المُنَجِّي [قالَ الشيخُ عبدُالعزيز الطريفي (الباحث بوِزَارةِ الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية) في مقالة له على هذا الرابط: فمَن ضَلَّ في فَهْمِ أَصْلِ الإيمانِ ضَلَّ في فَهْمِ أَصْلِ الكُفْرِ، ومَن ضَلَّ في فَهْمِ فُرُوعِ الإيمانِ ضَلَّ في فَهْمِ فُرُوعِ الكُفْرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطريفي-: وإذا اخْتَلَّ التَّأْصِيلُ لَدَى أَحَدٍ في أَبْوابِ الإيمانِ، قابَلَه خَلَلٌ بمِقدارِه في أَبْوابِ الكُفْرِ. انتهى]، فَيُقالُ مِثْلُه فِيمَن قاتَلَ في صَفِّ الكُفَّارِ أَهْلَ الإيمانِ طَوْعًا باختيارِه، أمَّا اِدِّعاءُ أنَّه يُمْكِنُ أنْ يكونَ عنده أَصْلَ إيمانٍ مُنَجٍّ يكونُ به مُؤمِنًا في هذه الحالِ فَقَولٌ لا يَصِحُّ على أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ في بابِ الإيمانِ، بَلْ قائلُه مُتَعَلِّقٌ بشُعْبةِ إرجاءٍ، وهذا أَمْرٌ بَيِّنٌ لِمَن تَدَبَّرَه. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة) تَحتَ عُنوانِ (خُلاصةُ الكَلامِ في قاعِدةِ التَّلازُمِ بَيْنَ الظاهِرِ والباطِنِ): إنَّ الظاهِرَ -أَسَاسًا- مُرتَبِطٌ بِعَمَلِ القَلبِ (مِنَ الإذعانِ والمَحَبَّةِ والخَشيَةِ والتَّوقِيرِ)، أكثَرَ مِمَّا يَرتَبِطُ بِقَولِ القَلبِ (مِن عِلْمٍ ومَعرِفةٍ وتَصدِيقٍ)، فَإنَّ الرَّجُلَ قد يَكونُ عالِمًا ومُصَدِّقًا ومُعتَقِدًا لِلحَقِّ الذي جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، ولَكِنَّ خَشْيَةَ اللهِ في قَلبِه والخَوفَ منه ومَحَبَّتَه ومَحَبَّةَ رَسولِه صلى الله عليه وسلم [وَ]تَوقِيرَه والانقِيَادَ له، لم تَصِلْ في قَلبِه إلى الدَّرَجةِ التي تَنْجُو به مِن ظُلُمَاتِ الكُفرِ والشِّركِ، فالمُشرِكون مثلًا معهم بَعضُ المَحبَّةِ وبَعضُ الطاعةِ وبَعضُ الخَوفِ، ولَكِنَّ هذا لا يَنفَعُهم شَيئًا، فَإنَّ حُبَّهم لِأندادِهم وطاعَتَهم لهم وخَوفَهم منهم يَطْغَى على ما في قُلوبِهم مِن مَحَبَّةِ اللهِ وطاعَتِه وخَوفِه، بَلْ ما في قُلوبِهم مِنَ الحَسَدِ والكِبْرِ وحُبِّ الشَّهَواتِ والمَصلَحةِ الدُّنْيَوِيَّةِ العاجِلةِ جَعَلَ ما في قُلوبِهم مِنَ التَّصدِيقِ والعِلْمِ والمَعرِفةِ وبَعضِ عَمَلِ القَلبِ لا قِيمةَ له ولا نَفْعَ فيه، فَلا يَدخُلون بِذلك في دِينِ اللهِ بِالرَّغْمِ مِمَّا في قُلوبِهم مِنَ التَّصدِيقِ، كَما حَصَلَ لِأبِي طَالِبٍ. انتهى. وجاءَ في كِتابِ (دُروسٌ في العَقِيدةِ) للشيخِ عبدِالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة)، أنَّ الشيخَ سُئِلَ {هناك دَلِيلٌ يَتَمَسَّكُ به القائلون بِعَدَمِ كُفرِ تارِكِ الصَّلاةِ، وهو قَولُه صلى الله عليه وسلم في الحَدِيثِ الطَّوِيلِ (ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)}؟؛ فَأجابَ الشيخُ: ليس في هذا دَلِيلٌ، لِأنَّ مَعْنَى {لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ} أَيْ لم يَعْمَلُوا زِيادةً على التَّوحِيدِ والإيمانِ، والصَّلاةُ شَرْطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ [قالَ الشيخُ صادقُ بنُ محمد البيضاني في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (أقوالُ فُضَلاءِ العَصرِ حَوْلَ "هَلِ العَمَلُ شَرطُ صِحةٍ أو كَمالٍ لِلإيمانِ") على مَوقِعِه في هذا الرابط: قالَ الشيخُ محمدُ بنُ صالح العثيمين {إذا دَلَّ الدَّلِيلُ على أنَّ العَمَلَ يَخرُجُ به الإنسانُ مِنَ الإسلامِ صارَ شَرطًا لِصِحَّةِ الإيمانِ، وإذا دَلَّ على أنَّه لا يَخرُجُ صارَ شَرطًا لِكَمالِ الإيمانِ}. انتهى باختصار]، فَإذا تَرَكَها فَلَيسَ بِمُؤْمِنٍ، فَهؤلاء القَومُ [الذِين لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ] ليس عندهم إلَّا التَّوحِيدُ والإيمانُ، ولا يَتِمُّ الإيمانُ والتَّوحِيدُ إلَّا بِالصَّلاةِ، فَمَن تَرَكَها فَلا يَكونُ عنده شَيءٌ مِنَ التَّوحِيدِ والإيمانِ. انتهى. وجاءَ في (شَرحُ "عَقِيدةِ السَّلَفِ وأصحابِ الحَدِيثِ") لِلشيخِ عبدِالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة)، أنَّ الشَّيخَ سُئِلَ {ما رَدُّكم على مَن قالَ (إنَّ العَمَلَ ليس رُكنًا في الإيمانِ) واحتَجَّ بِحَدِيثِ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ) ولم يُذكَرُ العَمَلُ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ) إذا ماتَ على التَّوحِيدِ والإيمانِ [فَ]لا بُدَّ أنَّه عَمِلَ، [لِأنَّ] الصَّلاةَ شَرطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ ومَن تَرَكَ الصَّلاةَ فَلَيسَ بِمُؤْمِنٍ، لا بُدَّ مِنَ العَمَلِ مع النُّطْقِ بِالشَّهادَتَين، لا بُدَّ مِن عَمَلِ القُلوبِ وعَمَلِ الجَوارِحِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): الأحاديثُ التي تُفِيدُ دُخولَ الجَنَّةِ لِمَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ، أو مَن لم يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ، كَمَا هو ثابِتٌ في بعضِ الأحاديثِ الصحيحةِ عند البخاري وغيرِه، يَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ على مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ زائدةٍ على أَصْلِ التوحيدِ الذي لا يَنْجُو صاحبُه إلَّا به، وكذلك الذي لم يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ، أَيْ لم يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ زائدًا على أَصْلِ الإيمانِ والتوحيدِ الذي لا بُدَّ منه ومِن استِيفائِه؛ وفي قولِه صلى الله عليه وسلم {يقولُ اللهُ تعالى (أَخْرِجُوا مَن كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ)} قالَ ابنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ {وَالْمُرَادُ بِحَبَّةِ الْخَرْدَلِ هُنَا مَا زَادَ مِنَ الأَعْمَالِ عَلَى أَصْلِ التَّوْحِيدِ}. انتهى باختصار. وقالَ اِبنُ عبدالبر في (الاستذكار) في قِصَّةِ الإسرائيلِيِّ الذي أوصَى بِحَرقِ جُثمانِه: وَأَمَّا قَوْلُهُ {لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ}، وَقَدْ رُوِيَ {لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ}، هَذَا شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظِ الْكُلِّ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ، وَقَدْ يَقُولُ الْعَرَبُ {لَمْ يَفْعَلْ كَذَا قَطُّ} يُرِيدُ الأَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لَا يَضَعُ [أَيْ أَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ] عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ} يُرِيدُ أَنَّ الضَّرْبَ لِلنِّسَاءِ كَانَ مِنْهُ كَثِيرًا لَا أَنَّ عَصَاهُ كَانَتْ لَيْلًا وَنَهَارًا عَلَى عَاتِقِهِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): فالعَمَلُ مِنَ الإيمانِ ورُكْنُ فيه؛ ومِنَ الأعمالِ ما هو مِن أَصْلِ الدِّين، يَزُولُ أَصْلُ الإيمانِ بزَوَالِه وتَخَلُّفِه؛ ومنها ما هو مِنَ الإيمانِ الواجبِ، لا يَزُولُ أَصْلُ الإيمانِ بزَوَالِه؛ ومنها ما هو مِنَ الإيمانِ المُستَحَبِّ [قُلْتُ: مَن حَقَّقَ الإيمانَ الواجِبَ فَقَدْ حَقَّقَ الكَمالَ الواجِبَ، ومَن حَقَّقَ الإيمانَ المُستَحَبَّ فَقَدْ حَقَّقَ الكَمالَ المُستَحَبَّ]؛ وهذا هو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، أَصْلُ الإيمانِ يُقابِلُ الإسلامَ [يَعنِي الإسلامَ الحَقِيقِيَّ لا الحُكْمِيَّ] يُقابِلُ الظالِمَ لِنَفْسِه، والإيمانُ الواجبُ يُقابِلُ الإيمانَ يُقابِلُ المُقتَصِدَ، والإيمانُ المُستَحَبُّ يُقابِلُ الإحسانَ يُقابِلُ السابِقَ بالخَيْراتِ، ولا يَزُولُ الإيمانُ بالكُلِّيَّةِ ويَخْرُجُ [أَيِ العَبْدُ] مِنَ الإسلامِ إلَّا بارتكابِ ناقِضٍ يَزُولُ به أَصْلُ الإيمانِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (قواعدُ في التكفير): فَجَرَّأُوا [أَيْ أَهْلُ التَّجَهُّمِ والإرجاءِ] الناسَ على تَرْكِ العَمَلِ، وعَيَّشُوهم على الرَّجاءِ المَحْضِ وعلى أَمَلِ وأَمَانِ الذَّرَّةِ الواحدةِ مِنَ الإيمانِ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. انتهى. وقالَ الشيخُ سفر الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي): قَالَ الإمامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَه اللهُ [في كِتابِ (التَّوحِيدُ)] {هَذِهِ اللَّفْظَةُ (لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي تَقُولُ الْعَرَبُ (يُنْفَى الاسْمُ عَنِ الشَّيْءِ لِنَقْصِهِ عَنِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ)، فَمَعنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ على هذا الأصلِ (لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، لَا عَلَى مَا أَوْجَبَ [اللَّهُ] وأَمَرَ به)، وقد بَيَّنْتُ هذا المَعنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِي}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدالله بن محمد القرني (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في (ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة): فَلا يَصِحُّ الحُكْمُ بِأنَّ حَدِيثَ الشَّفاعةِ [يَعنِي الحَدِيثَ الذي جاءَ فيه {فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ}] الوارِدَ في الجَهَنَّمِيِّينَ (نَصٌّ في أنَّ العَمَلَ كَمَالِيٌّ للإيمانِ لِمَا وَرَدَ فيه مِن أنَّهم دَخَلوا الجَنَّةَ مع أنَّهم لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)، مع أنَّ السَّلَفَ قد أجمَعوا على أنَّ العَمَلَ مِنَ الإيمانِ وأنَّه شَرطٌ لِلنَّجاةِ مِن عَذابِ الْكُفَّارِ [أَيْ مِنَ العَذابِ السَّرْمَدِيِّ الذي يَلْحَقُ بِالْكُفَّارِ]، وَلَمْ يُشْكِلْ هذا الحَدِيثُ [أَيْ حَدِيثُ الشَّفاعةِ] على ما ذَهَبوا إليه، بَلْ فَهِموه بِما يَتَّفِقُ مع ذلك الأصلِ [وهو إجماعُهم على أنَّ العَمَلَ مِنَ الإيمانِ، وأنَّه شَرطٌ لِلنَّجاةِ مِنَ العَذابِ السَّرْمَدِيِّ الذي يَلْحَقُ بِالْكُفَّارِ]، ومِثْلُه حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ [يَعنِي الحَدِيثَ الذي جاءَ فيه {فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، فَيَقُولُ (يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ)، فَيَقُولُ (إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ)، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ}] ونَحوُه مِنَ الأحادِيثِ التي فيها البِشَارةُ بِدُخولِ الجَنَّةِ أو تَحرِيمُ النارِ على مَن قالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، فإنَّها [أَيْ تلك الأحادِيثَ] لَمْ تُشْكِلْ على السَّلَفِ، بَلْ فَهِموها وَفْقَ النُّصوصِ الدالَّةِ على اِشتِراطِ العَمَلِ في الإيمانِ، وكَونِه رُكنًا فيه، وأنَّ النَّجاةَ مِنَ التَّخلِيدِ في النارِ لا تَكونُ بِدُونِه. انتهى باختصار. وجاءَ في هذا الرابط على موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء (عبدالعزيز آل الشيخ وصالح الفوزان وبكر أبو زيد وعبدالله بن غديان) قالَتْ: وأمَّا ما جاءَ في الحَدِيثِ أنَّ قَومًا يَدخُلون الجَنَّةَ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، فَلَيْسَ هو عامًّا لِكُلِّ مَن تَرَكَ العَمَلَ وهو يَقدِرُ عليه، وإنَّما هو خاصٌّ بأولئك لِعُذرٍ مَنَعَهم مِنَ العَمَلِ أو لِغَيرِ ذلك مِنَ المَعانِي التي تُلائمُ النُّصوصَ المُحكَمةَ [يَعنِي ما دَلَّ منها على اِشتِراطِ العَمَلِ في الإيمانِ] وما أجمَعَ عليه السَّلَفُ الصالحُ في هذا البابِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو يحيى بن محمد بن أحمد آل بدر في (القول الحق المبين على من يخاصم في إجماع علماء المسلمين): قالَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ صالح آل الشيخ [وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد] حَفِظَه اللهُ جَوابًا عن سُؤالٍ في حَدِيثِ الشَّفاعةِ {العُلَماء لَهم عِدَّةُ أقوالٍ؛ ولَعَلَّ الأقرَبَ أنَّهم قَومٌ لم يَتَمَكَّنوا مِنَ العَمَلِ؛ أو أنَّ سَيِّئاتِهم أذهَبَتْ حَسَناتِهم في المِيزانِ فَصاروا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ (يَعنِي لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ يُثابون عليه لِأنَّ السَّيِّئاتِ قابَلَتِ الحَسَناتِ)؛ أو عليهم حُقوقٌ فَأُعْطِيَتْ حَسَناتُهم [أَيْ لِأصحابِ الحُقوقِ. وقد قالَ الشيخُ المهتدي بالله الإبراهيمي في (توفيق اللطيف المنان): قالَ عبدُالله بن علي النجدي القصيمي {ورُبَّما فَسَّرَ هذا ما صَحَّ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ يَومًا لِأصحابِه (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ)، قَالُوا (الْمُفْلِسُ فِينَا يا رَسولَ اللهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ)، فَقَالَ (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)، والْمُفْلِسُ هو الذي لا شَيءَ له، فَصارَ هذا العامِلُ الذي اِستَحَقَّ أنْ تَضِيعَ أعمالُه كَأنَّه لا عَمَلَ لَه وكَأنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ}. انتهى باختصار]، ما فِيه عندهم خَيرٌ، ما قَدَّموا خَيْرًا قَطُّ يَخرُجون به مِنَ النارِ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (مَسألةُ الإيمانِ): قد نُقِلَ عن جَماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ القَولُ بِكُفرِ تارِكِ الصَّلاةِ، وحُكِيَ على ذلك إجماعُهم دُونَ أَنْ يُشْكِلَ عليهم هذا الحَدِيثُ [يَعنِي حَدِيثَ الْبِطَاقَةِ] أو يَتَأَوَّلوا النُّصوصَ لِأجلِه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: وقد سُئِلَ الشيخُ اِبنُ عثيمين رَحِمَه اللهُ {هَلْ هناك تَعارُضٌ بَيْنَ أدِلَّةِ تَكفِيرِ تارِكِ الصَّلاةِ وَ[بَيْنَ] حَدِيثِ (لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)؟}، فَأجابَ {لا تَعارُضَ بينهما، فهذا [أَيِ الحَدِيثُ المَذكورُ] عامٌّ يُخَصَّصُ بِأدِلَّةِ تَكفِيرِ تارِكِ الصَّلاةِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: هذا الحَدِيثُ [أَيْ حَدِيثُ (لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)] لا يُفهَمُ إلَّا في ضَوءِ الأحادِيثِ الأُخرَى [يَعنِي الأحادِيثَ الدالَّةَ على اِشتِراطِ العَمَلِ في الإيمانِ] المُقَيِّدةِ والمُبَيِّنةِ له. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: إنَّ الإرجاءَ مَرَّ بمَراحِلَ، هناك تَطَوُّراتٌ حَدَثَتْ على مَذهَبِ المُرجِئةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لَمَّا يقولُ بعضُ العلماءِ في بَحْثِ المُرجِئةِ {إرجاءُ الفُقَهاءِ والعُبَّادِ}، ثُمَّ {إرجاءُ المُتَكَلِّمِين}، فيَقْصِدون إرجاءَ العَمَلِ عنِ الإيمانِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وكانَ لِثَوْرةِ ابْنِ الأَشْعَثِ وظُهورِ الحَجَّاجِ، ومُلَاحَقةِ العلماءِ والبَطْشِ بهم، أَسْوَأِ الأَثَرِ في بُرُوزِ قَرْنِ الإرجاءِ، بَيْنَ صُفُوفِ ناسٍ مِنَ البائِسِين المُستَسلِمِين للواقِعِ؛ وقامَ أَهْلُ السُّنَّةِ بجُهْدٍ مَشكورٍ في مُقاوَمةِ فِكْرةِ هذا الإرجاءِ، ولاحَظَ أهلُ العلمِ كالأَوْزَاعِيِّ، وإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وغيرِهم، لاحَظُوا أنَّ هناك نابِتَةً جديدةً تقولُ {إنَّ الأعمالَ غيرُ الإيمانِ}، فكَأَنَّ هؤلاء عندهم اضْطِرارٌ لقَضِيَّةِ فَصْلِ العَمَلِ عنِ الإيمانِ، ويقولون {في [أَيْ يُوجَدُ] أعمالٌ شَنِيعةٌ، لكنْ أصحابُها مسلمون [قالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر): ولَا شَكَّ أنَّ الإرجاءَ كانَ رَدَّةَ فِعْلٍ على فِتنَةِ الخُروجِ على وُلَاةِ الجَوْرِ وما تَرَتَّبَ عليه مِن سَجْنٍ وقَتْلٍ وابْتِلاءاتٍ، إذْ أَوَّلُ ما ظَهَرَ الإرجاءُ وانتشرَ [كانَ] بَعْدَ هَزِيمةِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الأَشْعَثِ. انتهى]، إذَنْ أَحْسَنُ شَيْءٍ نَفْصِلُ الإيمانَ عنِ العَمَلِ}!!!؛ فانْتَبَه العلماءُ لهؤلاء، وقال الأَوْزَاعِيُّ [فيما رَوَاه اللَّالَكَائِيُّ في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)] رَحِمَه اللهُ {كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَقَتَادَةُ يَقُولَانِ (لَيْسَ مِنَ الأَهْوَاءِ شَيْءٌ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الإِرْجَاءِ)}؛ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ -الذي عاصَرَ فِتنَةَ الحَجَّاجِ- قال [فيما رَوَاه ابنُ سعد في (الطبقات الكبرى)] {الإِرْجَاءُ بِدْعَةٌ، إِيَّاكُمْ وَأَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ}؛ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يقولُ [أيضًا] عنِ المُرجِئةِ {تَرَكُوا هَذَا الدِّينَ أَرَقَّ مِنَ الثَّوْبِ السَّابِرِيِّ}، يَعنِي أنَّه صارَ الدينُ أَمْرُه رَقِيقٌ، أَرَقُّ مِنَ الثَّوْبِ السَّابِرِيِّ، في غايَةِ الرِّقَّةِ، فالدِّينُ مَتِينٌ والدِّينُ عظيمٌ، لكنَّ المُرجِئةَ هؤلاء جَعلوا الدِّينَ مِثْلَ الثَّوبِ الرَّقِيقِ [قالَ الشيخُ محمد بنُ عبدالله الخُضَيري (الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود) في (تفسير التابعين): جاءَ عن مُجَاهِدٍ أنَّ الإرجاءَ أَوَّلُ سُلَّمِ الزَّنْدَقةِ. انتهى. وجاء في موسوعةِ الفِرَقِ المنتسبة للإسلام (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الإِرْجَاءِ فَقَالَ {الْمُرْجِئَةُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ (الإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمِلٍ)، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُؤَاكِلُوهُمْ وَلَا تُشَارِبُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا مَعَهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ}... ثم جاءَ -أَيْ في الموسوعةِ-: قَالَ الزُّهْرِيُّ {مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ الإِرْجَاءِ}، وقال شَرِيكٌ الْقَاضِي وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ {هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ}... ثم جاءَ -أَيْ في الموسوعةِ-: جاءَتِ المُرجِئةُ بعُقولِهم العاجزةِ عن فَهْمِ أُسُسِ العقيدةِ وثَوابِتِها أمامَ الفِتَنِ والأحداثِ الجِسَامِ، فجَنَحُوا إلى فَصْلِ الإيمانِ عنِ العَمَلِ، واتَّسَعَتْ دائرةُ هذا الابتداعِ لِيَجِدَ فيه أتباعُ الفِرَقِ المُنحَرِفةِ مَخْرَجًا لانسِلاخِهم وبُعْدِهم عنِ الدِّينِ الحَقِّ؛ وبسَبَبِ هذا الواقعِ الألِيمِ، أَنْكَرَ علماءُ السَّلَفِ على المُرجِئةِ مَقالَتَهم الضَّالَّةَ، واعتبروها مِنَ البِدَعِ الخَطِرَةِ؛ وكانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يقولُ عنهم {الشَّرُّ مِن أَمْرِهم كَبِيرٌ، فإيَّاك وإيَّاهم}، وذُكِرَ عنده الْمُرْجِئَةُ فَقَالَ {وَاللَّهِ، إنَّهم أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، ورَوَى عبدُالله بنُ أحمد أنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كانَ يقولُ عنِ المُرجِئةِ {إنَّهم يَهُودُ الْقِبْلَةِ} [قالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مقالة على موقعه في هذا الرابط: وَلْيُعْلَمْ أنَّه -أَيْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ- إنَّما أرادَ مُرجِئةَ الفُقهاءِ، وذلك أنَّه لم يُدرِكْ أَصْنافَ المُرجِئةِ الأُخرَى، وإذا كانَ أخَفُّ أَصْنافِ المُرجِئةِ داخِلِين في هذا فَمِن بابٍ أَوْلَى الغُلَاةُ كَمُرجِئةِ الأَشْعَرِيَّةِ والمَاتُرِيدِيَّةِ. انتهى]، وكانَ السَّلَفُ لا يُسَلِّمون عليهم ولا يُجالِسونهم، ويَنْهَوْنَ عن ذلك، ولا يَحْضُرون جَنَائزَهم ولا يُصَلُّون عليهم إذا ماتُوا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ سفر الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في مَقالةٍ له على موقِعه في هذا الرابط: ما وَرَدَ عن كثيرٍ مِنَ التابِعِين وتَلامِذَتِهم في ذَمِّ الإرجاءِ وأَهلِه والتحذيرِ مِن بِدعَتِهم، إنَّما المقصودُ به هؤلاء المُرجِئةُ الفُقَهاءُ [جاءَ في (التَّعلِيقُ المُختَصَرُ على القَصِيدةِ النُّونِيَّةِ) لِلشَّيخِ صالح الفوزان، أنَّ الشيخَ سُئِلَ {ما صِحَّةُ القَولِ بِأنَّ الخِلافَ مع مُرجِئةِ الفُقَهاءِ خِلافٌ لَفظِيٌّ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: هذا كَلامٌ غَيرُ صَحِيحٍ، الخِلافُ بين أهلِ السُّنَّةِ ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ خِلافٌ مَعنَوِيٌّ حَقِيقِيٌّ، وليس هو خِلافًا لَفظِيًّا، إنَّما يَقولُ هذا الذِين يُرِيدون التَّخفِيفَ مِنَ الأمْرِ وتَهدِئةَ الأُمورِ، ولَكِنَّ الذِين يُرِيدون بَيَانَ الحَقِّ لا يَقولون هذا القَولَ. انتهى. وقالَ الشيخُ فالح الحربي (المُدَرِّسُ بِالجامِعةِ الإسلامِيَّةِ) في (البرهان على صواب الشيخ عبدالله الغديان، وخطأ الحلبي، في مسائلِ الإيمانِ): قالَ الشيخُ صالح آل الشيخ في (شرح العقيدة الواسطية) {الخِلافُ بين أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ حَقِيقِيٌّ}. انتهى. وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ عبدِالرحمن البرَّاك (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، سُئِلَ الشيخُ {هَلِ الخِلافُ بين أهلِ السُّنَّة ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ خِلافٌ لَفظِيٌّ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: الخِلافُ بين المُرجِئةِ وأهلِ السُّنَّةِ في الإيمانِ ليس لَفظِيًّا. انتهى. وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ عبدِالرحمن البرَّاك (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)، سُئِلَ الشيخُ {هَلْ مُرجِئةُ الفُقَهاءِ مِن أهلِ السُّنَّةِ؟}؛ فَأجابَ الشيخُ: لا، لَيسوا مِن أهلِ السُّنَّةِ. انتهى. وفي فيديو بعُنْوانِ (ما حُكْمُ قَولِ "إنَّ مُرجِئةَ الفُقَهاءِ مُرجِئةُ أهلِ السُّنَّةِ")، سُئِلَ الشيخُ عبيد الجابري (المُدَرِّسُ بِالجامِعةِ الإسلامِيَّةِ) {هَلْ يَصِحُّ القَولُ بِأنَّ "مُرجِئةَ الفُقَهاءِ مُرجِئةُ أهلِ السُّنَّةِ"؟}؛ فأجابَ الشيخُ: هذا ليس بِصَحِيحٍ، الأئمَّةُ مُجمِعون على تَبدِيعِهم، هُمْ مُبتَدِعةٌ لَكِنَّهم أخَفُّ مِنَ المُرجِئةِ الغالِيَةِ، ولم نَعلَمْ أنَّ أحَدًا مِنَ الأئمَّةِ قالَ {هُمْ مُرجِئةُ السُّنَّةِ}، وإنَّما قِيلَتْ في العَقْدِ الأخِيرِ (عَقْدِنا)، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ!، هذا الذي أَعْلَمُه، هُمْ مُبتَدِعةٌ ضُّلَّالٌ، ومِمَّنْ شَنَّعَ عليهم شَيخُ الإسلامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه الله؛ ثُمَّ هذا فَتْحُ بابٍ خَطِيرٍ، يُمْكِنُ لِقائلٍ أنْ يَقولَ {خَوارِجُ أهلِ السُّنَّةِ، رافِضةُ أهلِ السُّنَّةِ، جَهْمِيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ، مُعتَزِلةُ أهلِ السُّنَّةِ، مَاتُرِيدِيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ، قَدَرِيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ}، فَإذا قِيلَ له {لا}، قالَ {لِماذا تَكِيلون أنتم بِمِكْيَالَيْنِ!، لِماذا (مُرجِئةُ أهلِ السُّنَّةِ) ما أنكَرتُموها وأنكَرتُم علينا (قَدَرِيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ، خَوارِجُ أهلِ السُّنَّةِ)!، ما يُمْكِنُ، البابُ واحِدٌ}، ونحن نَقولُ، البابُ واحِدٌ، كُلُّ المُبتَدِعةِ ضُّلَّالٌ ولا يَجوزُ نِسبَتُهم إلى أهلِ السُّنَّةِ، فَأهلُ السُّنَّةِ بُرَءاءُ مِن مَسالِكِهم بَراءَةَ الذِّئبِ مِن دَمِ يُوسُفَ صلى الله عليه وسلم. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبيد الجابري أيضًا في (تَحذِيرُ المُحِبِّ والرَّفِيقِ مِن سُلوكِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ) رَادًّا على (الشيخِ إبراهيمَ بْنِ عامر الرّحيلي): أَوَّلًا، فَوَصفُك (مُرجِئةُ الفُقَهاءِ) بِـ (مُرجِئةِ أهلِ السُّنَّةِ)، لم نَعْلَمْ حتى الساعةِ مَن سَبَقَكَ إلى ذلك مِن أئمَّةِ السَّلَفِ، وإنَّما قالَ هذا القَولَ فِيما وَقَفْنا عليه الشَّهْرَسْتَانِيُّ، والرَّجُلُ مُخَلِّطٌ أَشْعَرِيٌّ، لا يَصلُحُ عُمْدَةً له في هذا البابِ؛ وثانِيًا، ما أفادَتْه عِبَارَتُك أنَّه (لم يُبَدِّعْهم أَحَدٌ مِنَ الأئمَّةِ) مُجازَفةٌ مِنْك ومُخاطَرةٌ، لِأنَّه في الغايَةِ مِنَ التَّدلِيسِ والتَّلبِيسِ؛ ونحن نُجَلِّي هذه المَسأَلةَ ونُزِيلُ عنها اللَّبْسَ بِنُقُولٍ عن بَعضِ الأئمَّةِ في الحُكْمِ على تلك الفِرقةِ التي حَكَمْتَ عليها بِأنَّهم (مُرجِئةُ أهلِ السُّنَّةِ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجابري-: وإنِ اِحتَجَّ مُحتَجٌّ في الدِّفاعِ عن هذا القَولِ قائلًا {لِمَا تَنقُدُ هذه العِبارةَ (مُرجِئةُ أهلِ السُّنَّةِ)، وقد قالَها مَن قالَها مِن أهلِ العِلْمِ الكِبَارِ؟}؛ فالجَوابُ، يَتَوَجَّهُ إليك يا هذا عِدَّةُ أسئلةٍ؛ أَوَّلًا، هَلْ سَبَقَ إلى هذا القَولِ مَن ذَكَرْتَ أحَدٌ مِن أئمَّةِ السَّلَفِ في القُرونِ المُفَضَّلةِ؟، فَإنْ قُلْتَ {نَعَمْ} وَجَبَ عليك الدَّلِيلُ، وإنْ قُلْتَ {لا} وافَقْتَنا في النَّقدِ شِئتَ أَمْ أَبَيتَ؛ وثانِيًا، هَلْ تَرَى الإرجاءَ بِدعةً أو سُنَّةً؟، فَإنْ قُلْتَ بِالأوَّلِ كُنتَ معي ووَجَبَ عليك التَّسلِيمُ لِلنَّقدِ، وإنْ قُلْتَ بِالثانِي خالَفْتَ إجماعَ السَّلَفِ مِن أئمَّةِ العِلْمِ والدِّينِ والإيمانِ. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مَقالةٍ بِعُنوانِ (نَقدُ كِتابِ "فِرَقٌ مُعاصِرةٌ") على مَوقِعِه في هذا الرابط: مُرجِئةُ الفُقَهاءِ لَيسوا مِن أهلِ السُّنَّةِ، وتَسمِيَتُهم بِـ (مُرجِئةِ أهلِ السُّنَّةِ) بِدعةٌ ومُحدَثٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخليفي-: جاءَ عنِ السَّلَفِ في ذَمِّ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ ما يَدُلُّ على أنَّهم مِن أهل البِدَعِ عندهم، فَإذا قُلْنا {أنَّهم يُهْجَرون وقَولُهم بِدعةٌ} لم يَكُنْ لِقَولِنا {أنَّهم مِن أهلِ السُّنَّةِ} بَعْدَ ذلك مَعنًى. انتهى باختصار]، فَإِنَّ (جَهْمًا) لم يَكُنْ قد ظَهَرَ بَعْدُ، وحتى بَعْدَ ظُهورِه كانَ بخُرَاسَانَ ولم يَعْلَمْ عن عقيدتِه بعضُ مَن ذَمَّ الإرجاءَ مِن علماءِ العِراقِ وغيرِه، الذين كانوا لا يَعرِفون إلَّا إرجاءَ فُقَهاءِ الكُوفَةِ ومَن اتَّبَعَهم، حتى إنَّ بعضَ عُلماء المَغْرِبِ كابْنِ عَبْدِالْبَرِّ لم يَذْكُرْ إرجاءَ الجَهْمِيَّةِ بالمَرَّةِ. انتهى. وقالَ الشيخُ الحوالي أيضًا في مَقالةٍ له على موقِعه في هذا الرابط: كُلُّ ذَمٍّ وَرَدَ في كلامِ السَّلَفِ الصالحِ للمُرجِئةِ أو الإرجاءِ فالمقصودُ به الفُقَهاءُ الْحَنَفِيَّةُ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): إنَّ المُرجِئةَ، في الإطلاقِ، هُمُ القائلون بِأنَّ الإيمانَ قَولٌ، وإنَّهم [هُم] الذِين اِشتَدَّ عليهم النَّكِيرُ [أَيْ نَكِيرُ السَّلَفِ]. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (هَلْ مُرجِئةُ الفُقَهاءِ مِن أهلِ السُّنَّةِ؟) على موقعه في هذا الرابط: إنَّ (المُرجِئةَ) إذا أُطلِقوا إنَّما يُرادُ بِهم (مُرجِئةُ الفُقَهاءِ)، لِأنَّهم أقدَمُ في الظُّهورِ، ولِأنَّ أهلَ العِلْمِ اِعتادوا على تَميِيزِ الجَهمِيَّةِ بِلَقَبِ (الجَهمِيَّةِ) لِأنَّ ضِلالَهم أوسَعُ في مَسائلِ الإيمانِ ثم إنَّ ضَلالَهم [أيْ ضَلالَ الجَهمِيَّةِ] في مَسائلِ الإيمانِ له خُصوصِيَّةٌ يَرفُضُها مُرجِئةُ الفُقَهاءِ. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: الإيمانُ عند أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ حَقِيقةٌ مُرَكَّبةٌ مِنَ التَّصدِيقِ بالقَلْبِ، وعَمَلِ القَلْبِ (مِنَ الخَوفِ والمَحَبَّةِ والرَّجاءِ والحَيَاءِ والتَّوَكُّلِ والإخلاصِ، وهكذا)، وقولِ اللِّسانِ (وهو الشَّهادَتان)، وعَمَلِ اللِّسانِ والجَوَارِحِ (اللِّي هو العباداتُ البَدَنِيَّةُ والعَمَلِيَّةُ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: غُلاةُ المُرجِئةِ ماذا قالوا؟، وَصَلَ بهم الأَمْرُ إلى دَرَجةِ أنهم قالوا {الإيمانُ المَعرِفةُ فَقَطْ}، أنتَ تَعرِفُ اللهَ [إذَنْ] أنتَ مؤمنٌ، لو ما نَطَقْتَ بالشَّهادَتَين ولو ما صَلَّيتَ ولو ما زَكَّيتَ ولو ما صُمْتَ وما حَجَجْتَ ولو ما سَوَّيْتَ [أَيْ وَلَوْ مَا عَمِلْتَ] شيئًا مِن عِبَاداتٍ، أنتَ مؤمنٌ، وبالتَّالي عندما قالَ اللهُ عن فِرعَونَ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}، مَعْناه [أَيْ مَعْنَى الآيَةِ] فِرعَونُ كان يَعرِفُ اللهَ، فلَمَّا تَمْشِي مع غُلاةِ المُرجِئةِ يَطْلَعُ عندهم فِرعَونُ مُؤمِنًا، ويَطْلَعُ عندهم الشَّيْطَانُ مُؤمِنًا، ويَطْلَعُ عندهم أبو جَهْلٍ مُؤمِنًا، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [فبِمُقْتَضَى هَذِهِ الآيَةِ يَطْلَعُ عندهم] كُلُّ كُفَّارِ قُرَيشٍ مُؤمِنِين، هذا [هو] الخَطُّ الأَسْوَأُ مِنَ المُرجِئةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: فإنَّ الإرجاءَ هذا لَمَّا وَصَلَ إلى المُعاصِرِين جاءَتْ طامَّاتٌ، طَوَامٌّ في كُتُبِهم ومَقُولاتِهم المُرجِئةِ المُعاصِرِين، فيقولُ أحدُهم مثلًا {مَن لم يَنْطِقْ بالشَّهادَتَين بغَيرِ سببٍ مِنَ الأسبابِ، ولكنْ مُصَدِّقٌ بقَلْبِه، فالقولُ الراجحُ أنَّه ناجٍ عند اللهِ}، ومعروفٌ أنَّ الشَّهادَتَين هي مُفْتاحُ الإسلامِ، الذي يَنْطِقُ بالشَّهادَتَين دَخَلَ في الدِّينِ، لو واحدٌ ما نَطَقَ بالشَّهادَتَين ما يَدخُلُ في الدِّينِ؛ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رَحِمَه اللهُ قالَ [في مجموع الفتاوى] {مِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنِ اِتَّبَعَهُ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ، لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ -يَعنِي عَمَلَ القَلْبِ وعَمَلَ الجَوارِحِ- مِنَ الإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الإِيمَانِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَيَقْتُلُ الأَنْبِيَاءَ، وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ، وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ، وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ، وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الإِهَانَةِ، قَالُوا (وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ)}، فَوَصَلَ الأَمْرُ بهم إلى هذه الدَّرَجةِ، ولذلك حَكَمَ بَعضُ العُلَماءِ الكِبَارِ على هؤلاء (غُلَاةِ المُرجِئةِ) بِالكُفْرِ؛ المُرجِئةُ الأَوَائلُ [وَهُمْ مُرجِئةُ الفُقَهاءِ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ] لم يَخرُجوا مِنَ المِلَّةِ، أَتَوْا ببِدعَةٍ غَيرِ مُخرِجةٍ [قُلْتُ: جاءَ عن بَعضِ أهلِ الحَدِيثِ تَكفِيرِ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ. فَقَدْ جاءَ في مَوسوعةِ الفِرَقِ المُنتَسِبةِ لِلإسلامِ (إعداد مَجموعةٍ مِنَ الباحِثِين، بِإشرافِ الشيخِ عَلوي بنِ عبدِالقادرِ السَّقَّاف): يَقولُ الْحُمَيْدِيُّ [ت219هـ] {وَأُخْبِرْت أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ (مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ، أو يُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا، إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ، إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْفَرَائِضِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)، فَقُلْت (هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ، وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ)}، وَقَالَ حَنْبَلُ [بْنُ إِسْحَاقَ] {سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ (مَنْ قَالَ هَذَا [يَعنِي القَولَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ {فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا...}] فَقَدَ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَرَدَّ عَلَى أَمْرِهِ، وَعَلَى الرَّسُولِ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ)}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الخليفي في (الوُجوه في إثباتِ الإجماعِ على أنَّ بِدعةَ الأشاعِرةِ مُكَفِّرةٌ): قالَ العَلَّامةُ عبدُالله أبو بُطَين [مُفْتِي الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ ت1282هـ] {ومَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ الإيمانَ تَصدِيقٌ بِالقَلبِ وقَولٌ بِاللِّسانِ وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ، وقَدْ كَفَّرَ جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ مَن أخرَجَ العَمَلَ عنِ الإيمانِ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): إنَّ تَكفِيرَ القائلِين بِأَنَّ {الإيمانَ قَولٌ} مَشهورٌ عن بَعضِ أهلِ الحَدِيثِ، ولا رَيبَ أنَّه يَشمَلُ الْحَنَفِيَّةَ [يَعنِي مُتَقَدِّمِي الحَنَفِيَّةِ] إنْ لم يَكونوا المَعنِيّين، [فَقَدْ] نَقَلَ بَعضُ أهلِ العِلمِ تَكفِيرَ أهلِ الحَدِيثِ لِلقائلِين أنَّ {الإيمانَ قَولٌ}، [وَهُمْ] مُرجِئةُ الفُقَهاءِ ومَن قالَ بِقَولِهم، نَعَمْ، كَفَّرَهم الإمامُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ [ت197هـ]، وَالْحُمَيْدِيُّ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ [ت219هـ]، وأبو مُصْعَبٍ أحمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْريُّ الْمَدَنِيُّ [ت242هـ]، واِبْنُ بَطَّةَ [ت387هـ]، والآجُرِّيُّ [ت360هـ]؛ قالَ الإمامُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ رَحِمَه اللهُ {الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ (الأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمَصَائِبَ وَالأَعْمَالَ) [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): أَيْ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَكتُبْ أعمالَ العِبادِ إلَّا بَعْدَ أنْ وَقَعَتْ، القَدَرِيَّةُ يَقولون {اللهُ تَعالَى لا يَعلَمُ الأعمالَ إلَّا بَعْدَ وُقوعِها، أمَّا قَبْلَ وُقوعِها فَهِيَ لَيسَتْ مَكتوبةً ولا مُقَدَّرةً ولا يَعلَمُها اللهُ}، وهو قَولُ كُفرٍ مُخرِجٌ مِنَ المِلَّةِ. انتهى باختصار]، وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ (الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنَ الْعَمَلِ) [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): يَعنِي {النُّطقُ بِاللِّسانِ يَكفِي، أمَّا العَمَلُ فَلَيسَ بِشَرطٍ}. انتهى]، وَالْجَهْمِيَّةُ يَقُولُونَ (الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ)، وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): يَعنِي {كُلُّ هذه الأقوالِ كُفرٌ}. انتهى]} [الإبانة الكبرى لِابْنِ بَطَّةَ]؛ وقال الإمام التِّرْمِذِيُّ (ت279هـ) رَحِمَه اللهُ {سَمِعْت أَبَا مُصْعَبٍ الْمَدَنِيَّ يَقُولُ (مَنْ قَالَ "الإِيمَانُ قَوْلٌ" يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ)} [الجامع الكبير، تحقيق بشّار عواد]؛ وقالَ الإمامُ الآجُرِّيُّ رَحِمَه اللهُ {مَن قالَ (الإيمانُ قَولٌ دُونَ العَمَلِ)، يُقالُ له (رَدَدْتَ القُرآنَ والسُّنَّةَ وما عليه جَمِيعُ العُلَماءِ، وخَرَجْتَ مِن قَولِ المُسلِمِين، وكَفَرتَ بِاللهِ العَظِيمِ)}، وقالَ رَحِمَه اللهُ أيضًا {وأنَا بَعْدَ هذا أَذكُرُ ما رُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن جَماعةٍ مِنَ الصَّحابةِ وعن كَثِيرٍ مِنَ التابِعِين أنَّ (الإيمانَ تَصدِيقٌ بِالقَلبِ وقَولٌ بِاللِّسانِ وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ)، ومَن لم يَقُلْ عندهم بِهذا فَقَدْ كَفَرَ)} [الشريعة للآجُرِّيِّ]؛ وقالَ الإمامُ أبو عَبدِاللهِ بْنُ بَطَّةَ رَحِمَه اللهُ {اِحذَروا رَحِمَكم اللهُ مُجالَسةَ قَومٍ مَرَقوا مِنَ الدِّينِ، فَإنَّهم جَحَدوا التَّنزِيلَ، وخالَفوا الرَّسولَ، وخَرَجوا عن إجماعِ عُلَماءِ المُسلِمِين، وهم قَومٌ يَقولون (الإيمانُ قَولٌ بِلا عَمَلٍ)... وكُلُّ هذا كُفرٌ وضَلالٌ، وخارِجٌ بِأَهلِه عن شَرِيعةِ الإسلامِ، وَقَدْ أَكفَرَ اللهُ القائلَ بِهذه المَقالاتِ في كِتابِه، والرسولُ في سُنَّتِه، وجَماعةُ العُلَماءِ بِاتِّفاقِهم} [الإبانة الكبرى لِابْنِ بَطَّةَ]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: اِختِلافُ العُلَماءِ في تَكفِيرِ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ [وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الحَنَفِيَّةِ] ثابِتٌ ولا مَعنَى لِإنكارِه. انتهى باختصار]، لَكِنَّ غُلَاةَ المُرجِئةِ أَتَوْا بِبِدعةٍ مُخرِجةٍ؛ وَطَبْعًا عند أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الإيمانُ الذي في القَلْبِ يَستَلزِمُ الظاهِرَ، يَستَلزِمُ العَمَلَ لَا مَحَالةَ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ إيمانٌ صَحِيحٌ بدُونِ عَمَلٍ، لَوْ في [أَيْ لَوْ يُوجَدُ] حَقِيقةً شَيْءٌ داخِلٌ [لَكَانَ] ظَهَرَتْ آثارُه، فَإذا ما ظَهَرَتْ آثارٌ، مَعْنَاه ما في [أَيْ ما يُوجَدُ] شَيْءٌ في الدَّاخِلِ، ادِّعاءٌ ادِّعاءٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: فَأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ فَإنَّهم يَقولون {الإيمانُ مُرَكَّبٌ مِنَ الحَقائقِ الأَرْبَعةِ (قَوْلُ القَلْبِ [وهو التَّصدِيقُ]، وعَمَلُ القَلْبِ [وهو الخَوفُ والمَحَبَّةُ والرَّجاءُ والحَيَاءُ والتَّوَكُّلُ والإخلاصُ، وما أَشْبَهُ. وقد قالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ في (مفتاح دار السعادة): وَالْقَلبُ عَلَيْهِ واجِبان، لَا يَصِيرُ مُؤمِنًا إلَّا بِهما جَمِيعًا، وَاجِبُ الْمَعرِفَةِ وَالْعِلْمِ، وواجِبُ الْحُبِّ والانقِيَادِ والاستِسلامِ، فَكَمَا لَا يَكونُ مُؤمِنًا إِذا لم يَأْتِ بِوَاجِبِ الْعِلْمِ والاعتِقادِ لَا يَكونُ مُؤمِنًا إِذا لم يَأْتِ بِوَاجِبِ الْحُبِّ والانقِيَادِ والاستِسلامِ، بَلْ إِذا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ مَعَ عِلْمِه ومَعرِفَتِه بِهِ كَانَ أعظَمَ كُفرًا وأبْعَدَ عَنِ الإيمانِ مِنَ الْكَافِرِ جَهلًا. انتهى]، وقولُ اللسانِ [وهو النُّطْقُ بالشَّهادَتَين]، وعَمَلُ اللِّسانِ والجَوارِحِ [ويَشْمَلُ الأفعالَ والتُّرُوكَ، القوليَّةَ والفعليَّةَ])، يَزِيدُ بالطاعةِ ويَنْقُصُ بالمَعصِيَةِ}، وهذه [هي] حقيقةُ الإيمانِ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، والعِبَاراتُ التي جاءَتْ عنِ السَّلَفِ في هذا واضِحةٌ جِدًّا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وَلَا إيمانَ لِمَن لا عَمَلَ له، هذه مِنَ القواعدِ، لَا إيمانَ لِمَن لا عَمَلَ له، والارتباطُ بين الإيمانِ والأعمالِ مِثْلُ ارتباطِ الرُّوحِ بالجَسَدِ، والأعمالُ تُسَمَّى إيمانًا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، وهناك ارتباطٌ أساسِيٌّ بين قولِ اللِّسانِ، وقولِ القَلْبِ، وعَمَلِ القَلْبِ، وعَمَلِ الجَوارِحِ [واللِّسانُ مِنَ الجوارحِ]؛ وإذا قالَ قائلٌ {طَيِّبٌ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَيْفَ نَفْهَمُ موضوعَ (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)؟} [قالَ الشيخُ عَبْدُاللَّه بنُ محمد زُقَيْل في مَقالةٍ له بعُنوانِ (شَرحُ حَدِيثِ "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ") على هذا الرابط: قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ {مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ زُقَيْل-: كيفَ نُجِيبُ عنِ الحديثِ الآنِفِ، الذي يُصَرِّحُ بأنَّ النُّطْقَ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يُدْخِلُ الجنةَ؟؛ الجَوابُ، قِيلَ {إنَّ ذلك كانَ قَبْلَ نُزولِ الفَرائضِ، في أوائلِ الدَّعوةِ في مَكَّةَ}، وقِيلَ {هو في حَقِّ مَن قالَها فَمَاتَ بَعْدَها مُوقِنًا بها}، وكان في هذا الجَوَابِ رَدٌّ على المُرجِئةِ؛ غَيْرَ أَنَّهُ [أَيْ هذا الجَوَابَ] لا يَعنِي أنَّ السَّلَفَ كانوا يَظُنُّون أنَّ الإيمانَ قَبْلَ نُزولِ الفَرائضِ كانَ مُجَرَّدًا عنِ العَمَلِ، مُقتَصِرًا على تصديقِ القَلْبِ واللِّسانِ، فهذا ما لا يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ بهم [أَيْ بالسَّلَفِ] وَهُمْ أَعْرَفُ الناسِ بمَعنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وأَعلَمُهم بالواجبِ الثَّقِيلِ الذي تَلَقَّاه المُؤمِنون الأَوَّلُون قَبْلَ نُزولِ الفَرائضِ؛ إنَّ شَهَادةَ التوحيدِ في أَوَّلِ الدعوةِ لم تَكُنْ كَلِمةً تُقالُ باللِّسانِ فَحَسْبُ، ولا يُمْكِنُ أنْ تكونَ كذلك في أيِّ وَقْتٍ مِنَ الأوقاتِ، وإلَّا فَمَا مَعنَى تلك المُعاناةِ القاسِيَةِ التي واجَهَها الصَّحابةُ الأَوَّلُون وما مُوجِبُها؟؛ إنَّما كانَتْ هذه الشَّهَادةُ نَقْلَةً بَعِيدةً، ومَعْلَمًا فاصِلًا بَيْنَ حَيَاتَين لا رَابِطةَ بينهما (حَيَاةِ الكُفْرِ وحَيَاةِ الإيمانِ)، وما يَستَلزِمُ ذلك مِن فَرائضَ ومَشَقَّاتٍ أَعْظَمَ مِنْ فَرِيضةِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، ونحوِها، مِن ذلك فَرِيضةُ التَّلَقِّي الكامِلِ عن اللهِ ورسولِه ونَبْذِ مَوَازِينِ الجاهِلِيَّةِ وقِيَمِها وأَخْلاقِها وأَعرَافِها وتَشرِيعاتِها، ومِن ذلك الوَلَاءُ المُطْلَقُ للهِ ورسولِه، والعَدَاءُ الصارِمُ للكُفَّارِ ولو كانوا آباءً أو إخوانًا أو أَزْواجًا أو عَشِيرةً، ومِن ذلك فَرِيضةُ الصَّبرِ على الأَذَى في اللهِ، التي لا تُطِيقُه إلَّا نُفُوسٌ سَمَتْ إلى قِمَّةِ تَحَمُّلِ الواجباتِ الثَّقِيلةِ، وهذا ونحوُه هو ما كانَ يُعانِيه بِلَالٌ وهو يُسْحَبُ على رَمْضَاءِ مَكَّةَ وتُلقَى عليه الأَثقالُ، و[هو] ما كانَ يُكابِدُه سَعْدُ [بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ] وهو يَرَى أُمَّه تَتَلَوَّى جَوْعًا، فيُقْسِمُ لها لو أنَّ لَهَا مِائَةَ نَفْسٍ فَتَظَلُّ تَخْرُجُ نَفْسًا نَفْسًا حتَّى تَهلِكَ لَمَا رَجَعَ عن دِينِه، و[هو] ما كانَ آلُ يَاسِرٍ يَلْقَوْنه مِن عذابٍ وغيرُهم؛ إنَّ في إمكانِ الإنسانِ أنْ يُصَلِّيَ ما شاءَ ويُنفِقَ ما شاءَ دُونَ أنْ يَنالَه كبيرُ مَشَقَّةٍ، ولكنْ أَيُّ إنسانٍ هذا الذي يَستطِيعُ أنْ يُخالِفَ عادةً اجتماعِيَّةً دَرَجَ عليها المُجتمَعُ والأقارِبُ أَجْيَالًا، ويَتَحَدَّى هؤلاء بمُخالَفَتِها؟، أو يَستطِيعُ أنْ يُقلِعَ عن عادةً نَفْسِيَّةً وَصَلَتْ به حَدَّ الإدمانِ؟، فَمَا بَالُنَا إذا كانَ الأَمْرُ ليس مُجَرَّدَ مُخالَفةِ عادةٍ أو تَقلِيدٍ، وإنَّما هو مُنابَذةٌ تامَّةٌ لكُلِّ عِبَادةٍ جاهِلِيَّةٍ وقِيَمٍ جاهِلِيَّةٍ وشَرِيعةٍ جاهِلِيَّةٍ، ثم هو مع ذلك زَجْرٌ للنَّفْسِ وقَطْعٌ لشَهَواتِها ومُراقَبةٌ شديدةٌ لها؟ أَلَيْسَ في كُلِّ هذا عَمَلٌ يَزِيدُ على مُجَرَّدِ التَّصدِيقِ والنُّطقِ؟، ولِذا رَأَيْنا نَمَاذِجَ كثيرةً خِلَافَ تلك النَّمَاذِجِ التي ضَرَبَتْ صُوَرًا رائعةً للصَّبرِ على الأَذَى، فَوْرَ نُطْقِها بالشَّهادةِ تَرجِعُ إلى بَيْتِها لِتُحَطِّمَ الأَصْنامَ وتَقْطَعَ العَلَائقَ بكُلِّ وَثَنٍ كانتْ تَعبُدُه وتَتَهَيَّأَ لِحَمْلِ ما يَرِدُ عليها مِن أَوَامِرَ إلَهِيَّةٍ، فلَمْ يَكُنِ الأَمْرُ إذَنْ مُجَرَّدَ نُطْقٍ (ولو كانَ معه تَصدِيقٌ)؛ حتى على المَنْطِقِ الجاهِلِيِّ لا يَصِحُّ أنْ نَتَصَوَّرَ إيمانًا بدُونِ عَمَلٍ، وشَهَادةً بِلَا أَثَرٍ في واقعِ الحَيَاةِ، وإلَّا لِمَ كانَ الجاهِلِيُّون يَقتُلون مَوَالِيهِمْ ويُعَذِّبون أبناءَهم وإخوانَهم ويَقْطَعون أرحامَهم؟، ألِمُجَرَّدِ كَلِمةٍ تُقالُ باللِّسانِ أو نَظَرِيَّةٍ لا تَعْدُو الأَذْهانَ؟؛ إنَّ كُلَّ إنسانٍ كانَ يُسْلِمُ في تلك الفَتْرةِ كانَ يَعلَمُ أنَّ نُطْقَه بالشَّهادةِ تُوجِبُ عليه الانْخِلاعَ مِن كُلِّ عِبَادةٍ والإقبالَ على عِبَادةِ اللهِ وَحْدَه، وذلك وَحْدَهُ فيه مِنَ العَمَلِ والصَّبرِ الشيءُ الكثيرُ، خاصَّةً في تلك الظُّرُوفِ التي كانَ فيها الإسلامُ ناشِئًا، وليس للمسلمِين سَنَدٌ ولا قُوَّةٌ ولا أَرْضٌ ولا دَوْلةٌ؛ نَعَمْ لَمْ تُشَرَّعِ الفرائضُ حِينَذَاكَ، لكنَّ البَذْلَ كانَ أكثرَ بكثيرٍ مِن مُجَرَّدِ الصلاةِ والصِّيامِ والْحَجِّ والزكاةِ، إنَّهم كانوا مَأمُورِين بالتَّسلِيم للهِ تَعالَى وْقَبُولِ ما يَأْتِي عنه، والقِيَامِ بهذا الدِّينِ وحَمْلِه وتَبْلِيغِه إلى البَشَرِ، وكَفَى بذلك حِمْلًا ثَقِيلًا وعَمَلًا خَطِيرًا {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، أَفَيَجْرُؤُ أنْ يقولَ إنسانٌ بَعْدَ ذلك {إنَّ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَحْدَها -هَكَذَا بالنُّطْقِ دُونَ عَمَلٍ- تَكْفِي في دُخولِ الجَنَّةِ} يَستَشهِدُ على ذلك بِالأَثَرِ [وهو الحَدِيثُ الآنِفُ الذِّكْرِ]؟، إنَّ مَنْ يَظُنُّ ذلك فقد غَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا، وارتَكَبَ خَطَأً فاضِحًا، إنَّ هذا الدِّينَ دِينُ العَمَلِ، وإنَّ اللهَ تَعالَى سَمَّى العَمَلَ إيمانًا، فقالَ تَعالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أَيْ صَلَاتَكم إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، [فهذه الآيَةُ] نَزَلَتْ فِيمَن كانَ يُصَلِّي إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وماتَ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَ الصَّلاةَ إلى الكَعبَةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ زُقَيْل-: فأَرْسَلَ اللهُ النبيَّ محمدا صلى الله عليه وسلم، فكانَ أَوَّلُ ما أُمِرَ به [أَيْ أَوَّلُ ما أُوحِيَ إِلَيْهِ] القِرَاءةُ باسْمِ رَبِّه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، أَمَرَه بالعِلْمِ الذي بغَيْرِه لا يَأْتِي العَمَلُ، وفي الثانِيَةِ [أَيْ ثانِي ما أُوحِيَ إِلَيْهِ] أَمَرَه بالعَمَلِ فقالَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، فابْتَدَأَ [اللهُ] بالعِلْمِ والعَمَلِ، فَدَلَّ على أنَّ هذا الدِّينَ دِينُ العِلْمِ والعَمَلِ؛ وما كانَ يَخْطُرُ بِبَالِ الصَّحابةِ أنَّ النُّطْقَ أو التَّصدِيقَ كافٍ دُونَ العَمَلِ، لِذا ما سَأَلَه أَحَدٌ [أَيْ ما سَأَلَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم] إنْ كانَ يَكْفِيهِمُ النُّطْقُ بالشَّهَادةِ، فحَمَلوا الأَمانةَ الثَّقِيلةَ، وقاموا بها، وتَرَكوا راحَتَهم ومَتَاعَهم وبَيْعَهم جانِبًا، ورَصَدُوا أَنْفُسَهم للقِيَامِ بتَبْلِيغِ هذا الدِّينِ، بالقُرآنِ لِمَن قَبِلَ، وبالسَّيفِ لِمَن أَعْرَضَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ زُقَيْل-: فما بالُكَ بأُمَّةٍ تُلْقِي كِتابَ رَبِّها وَراءَ ظَهْرِها، وتَعبُدُ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ، ولا يَخْطُرُ على بالِها الجهادُ قَطُّ، وتَستَحِلُّ كَثِيرًا مِنَ المُحَرَّماتِ التي لا خِلَافَ في حُرمَتِها، كالرِّبَا ومُوالَاةِ أعداءِ اللهِ، ولا تَحْكُمُ بشَرْعِ اللهِ تَعالَى، ثم مع ذلك تَحْسَبُ نَفْسَها مُؤمِنةً حَقَّ الإيمانِ لِأنَّها تُصَدِّقُ بقُلُوبِها وتُقِرُّ بأَلْسِنَتِها؟!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ زُقَيْل-: وما دامَ هذا الفِكْرُ [يَعنِي الفِكْرَ الإرجائِيَّ] جاثِمًّا على صَدْرِ هذه الأُمَّةِ فإنَّ آمالَ النَّصرِ والتَمْكِينِ بَعِيدةٌ حتى تَرجِعَ [أَيِ الأَمَّةُ] إلى سِيرةِ الأَوَّلِين. انتهى باختصار]، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) مَعْناها (لا مَعبُودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ)، أَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أُقِرُّ وأَعتَرِفُ وأُذْعِنُ، وكَلِمةُ (أَشْهَدُ) فيها إعلانٌ، كَلِمةُ (أَشْهَدُ) فيها إقرارٌ، كَلِمةُ أَشْهَدُ - وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا- فيها عِلْمٌ وفيها إذعانٌ، فإذا واحدٌ قالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} بلِسانِه، وعَمَلُه يُناقِضُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، قالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} بلِسانِه، ومُتَمَرِّدٌ على {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، هذا لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ شَهَادَتُه صَحِيحةً، الآنَ أنتَ تَجِدُ مَثَلًا الرافِضِيَّ والنُّصَيْرِيَّ وَالدُّرْزِيَّ [قالَ الشيخُ عبدُالله بنُ عبدالعزيز بن حمادة الجبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض) في (تسهيل العقيدة الإسلامية): الدُّرُوزُ والنُّصَيْرِيُّون فِرقَتان تُوجَدان في بِلادِ الشام، ومِن عَقائدِ النُّصَيْرِيِّين أنَّهم يُؤَلِّهون عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ومِن عَقائدِ الدُّرُوزِ أنَّهم يُؤَلِّهون الحاكِمَ بأمْرِ اللهِ العُبَيْدِيَّ [هو الْمَنْصُورُ بْنُ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ الفاطِمِيِّ، ت411هـ]، ولهذا فقد ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ أنَّهم مُرتَدُّون خارِجون مِنَ المِلَّةِ، وأنَّهم في حَقِيقةِ الأمْرِ لَيْسوا مِنَ المُسلِمِين وإنِ اِنْتَسَبوا إلى الإسْلامِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو قَتَادَةَ الفلسطينيُّ في مقالةٍ له على هذا الرابط: النُّصَيْرِيَّةُ يُلَقِّبون أَنْفُسَهم اليومَ بالعَلَوِيِّين. انتهى] يَقولون {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} لكنْ ما قِيمَتُها؟!، بعضُ الناسِ عندهم قُصورٌ في فَهْمِ الأَمْرِ، فإذا ناقَشْتَه في القَضِيَّةِ، تقولُ له {هؤلاء ناقَضُوها}، يقولُ لك {طَيِّبٌ، (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)، (لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)}، الآنَ المنافقون يقولون {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ [بْنِ سَلُولَ] يَقولُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، ماذا تَقولون [أَيْ في عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ]؟، هذا [مُنافِقٌ] نِفَاقًا أَكْبَرَ، طَعَنَ في الدِّينِ، وشَكَّكَ في الإسلامِ، وأَثارَ الشُّبُهاتِ، وآذَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في عِرْضِهِ [وقد أَنْزَلَ اللهُ تَعالَى في عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}]، وفي دِينِه، وفي أَصْحابِه، إِيشْ تقولون؟، تَقْدِرُ تُنْكِرُ أنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يقولُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}؟، هل تُطَبِّقُ عليه حَدِيثَ {مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ}، هل تُطَبِّقُ عليه حَدِيثَ {مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ}، {لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}؟... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: جَعْلُ النَّجاةِ مِنَ النارِ ودُخولِ الجَنَّةِ على مُجَرَّدِ التَّلَفُظِ [أَيْ بالشَّهادَتَين] قُصورٌ عظيمٌ، فإنَّ مَن تَلَفَّظَ وناقَضَ كأَنَّه لم يَتَلَفَّظَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لو راجَعْنا كلامَ العلماءِ في قَضِيَّةِ شُروطِ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} سنَجِدُ (العِلْمَ، اليَقِينَ، القَبُولَ، الانْقِيَادَ، الصِّدقَ، الإخلاصَ، المَحَبَّةَ)، وهذه شُروطٌ مُستَنِدةٌ إلى أَدِلَّةٍ [قالَ الشيخُ عبدُالرزاق بنُ عبدالمحسن البدر (عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية) في (فقه الأدعية والأذكار): باستِقْراءِ أهلِ العلمِ لنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ تَبَيَّنَ [لَهُمْ] أنَّ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لا تُقْبَلُ إلَّا بِسَبْعةِ شُروطٍ، وهي؛ (أ)العلمُ -بمعناها نَفْيًا وإثباتًا- المُنافِي للجَهْلِ؛ (ب)اليَقِينُ المُنافِي للشَّكِّ والرَّيْبِ؛ (ت)الإخلاصُ المُنافِي للشِّرْكِ والرِّيَاءِ؛ (ث)الصِّدْقُ المُنافِي للكَذِبِ؛ (ج)المَحَبَّةُ المُنافِيَةُ للبُغْضِ والكُرْهِ؛ (ح)الانْقِيَادُ المُنافِي للتَّرْكِ؛ (خ)القَبُولُ المُنافِي للرَّدِّ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمود المصري في مَقَالةٍ له بعنوان (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ") على هذا الرابط: وقد ذَكَرَ العلماءُ لكلمةِ الإخلاصِ شُروطًا، لا تَصِحُّ [أَيْ كلمةُ الإخلاصِ] إلَّا إذا اجْتَمَعَتْ [أَيِ الشُّروطُ] واستَكمَلَها العَبْدُ، والتَزَمَها بدُونِ مُناقَضةٍ لشيءٍ منها، وليس المُرادُ مِن ذلك عَدَّ ألفاظِها وحِفْظَهَا، فَكَمْ مِن عامِيٍّ اجْتَمَعَتْ فيه والتَزَمَها، ولو قِيلَ له عَدِّدْها لم يُحْسِنْ ذلك؛ فقد نَبَّهَ الشيخُ حَافِظٌ الحَكَمِيُّ رَحِمَه اللهُ في كتابِه (معارج القَبول)، قالَ رَحِمَه اللهُ {لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّ أَلْفَاظِهَا وَحِفْظَهَا، فَكَمْ مِنْ عَامِّيٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَالْتَزَمَهَا، وَلَوْ قِيلَ لَهُ (اُعْدُدْهَا) لَمْ يُحْسِنْ ذَلِكَ، وَكَمْ حَافِظٍ لِألْفَاظِهَا يَجْرِي فِيهَا كَالسَّهْمِ وَتَرَاهُ يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا يُنَاقِضُهَا، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ}؛ وهذه الشُّروطُ مأخوذةٌ بالتَّتَبُّعِ والاستقراءِ للأدِلَّةِ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فالعلماءُ المُحَقِّقون اِسْتَقْرَأُوا نُصوصَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فوَجَدوا أنَّ كلمةَ التوحيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قُيِّدَتْ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ بقُيُودٍ ثِقَالٍ (وهي هذه الشُّروطُ)، لا تَنْفَعُ [أَيْ كلمةُ التَّوحيدِ] قائِلَها إلَّا بِهَا. انتهى. وقالَ الشيخُ أُسَامَةُ بْنُ عَطَايَا العُتَيْبِي في مُحاضَرةٍ بعنوان (شَرحُ شُروطِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ") مُفَرَّغٌ بعضُها على هذا الرابط وبعضُها على هذا الرابط: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وهذه هي كلمةُ التَّوحيدِ التي بَعَثَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الأنبياءَ والمُرسَلِين لدعوةِ النَّاسِ إليها، وهي الكَلِمةُ الطَّيِّبةُ، وهي مِفْتَاحُ الخَلَاصِ مِنَ الشَّقَاوَةِ في الدُنْيَا والآخِرةِ؛ وهذه الكلمةُ لها رُكْنان وشُروطٌ؛ فالرُّكْنان هُمَا النَّفْيُ والإثباتُ؛ الرُكْنُ الأَوَّلُ [هو] النَّفْيُ، (لَا إِلَهَ) تَنْفِي جميعَ المَعبوداتِ سِوَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ (إِلَّا اللَّهُ) هو الرُكْنُ الثاني، وهو الإثباُت، فيه إثباتُ الأُلُوهِيَّةِ للهِ عَزَّ وجَلَّ؛ والشُروطُ سَبْعَةٌ أو ثَمَانِيَةٌ، والمُرادُ بالشُّروطِ الأُمُورُ التي تَلْزَمُ لِصَحَّةِ قَولِ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وحتى يَنْتَفِعَ قائلُها بها [قالَ الشيخُ (محمد مصطفى الشيخ) في مقالةٍ له بعنوان (نظرات حول شروط "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ") على هذا الرابط: الانتفاعُ المشروطُ بها إنَّما هو في الآخِرةِ، أمَّا أحكامُ الدُّنْيَا فَمَبْناها على الظَّاهرِ، وَلَهَا شُروطُها الظاهرةُ وهي طُرُقُ ثُبوتِ الحُكْمِ بالإسلامِ [قلتُ: وهذه الطُّرُقُ سَيَأتِيك بَيَانُها لاحِقًا في سُؤالِ زَيدٍ لِعَمرٍو (ما هي طُرُقُ ثُبوتِ الحُكْمِ بالإسلامِ؟)]، فَمَتَى أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ ولم يَنْقُضْهما بِنَاقِضٍ، فَقَدْ {حُرِّمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ}. انتهى]، فلَيْسَ مَن قالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} يَدخُلُ في الإسلامِ [يَعنِي الإسلامَ الحَقِيقِيَّ لا الحُكْمِيَّ] بمُجَرَّدِ أنْ قالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وهو لم يَأْتِ بشُروطِها التي دَلَّ عليها الكِتابُ والسُنَّةُ، والمُرادُ بالشَّرطِ هو اللازِمُ، فيَلْزَمُ لِصَحَّةِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) والاِنتفاعِ بقولِها أنْ تكونَ أَيُّها القائِلُ لها قد تَوَفَّرَتْ فيك عِدَّةُ شُروطٍ، فما هي هذه الشُّروطُ؟؛ الشَّرطُ الأَوَّلُ، العِلمُ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، العِلمُ بهذه الكَلِمةِ ومَعْناها [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (المباحث المشرقية "الجزء الأول"): إنَّ العِلمَ بِمَعنَى الشَّهادَتَين شَرطُ صِحَّةٍ لِلْإيمانِ، فَلا رَيْبَ أنَّه إذا اِنتَفَى الشَّرطُ اِمتَنَعَ وُجودُ المَشروطِ ضَرورةً، وهو ما أفاضَ العُلَماءُ في بَيَانِه. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): العِلمُ بالتَّوحيدِ شَرطٌ لصِحَّتِه، لأنَّ جاهلَ التَّوحيدِ كفاقِدِه، وفاقِدُ التَّوحيدِ لا يَعتَقِدُه، ومَن لا يَعتَقِدُ التَّوحيدَ لا يَكونُ مُؤمِنًا ولا مُسلِمًا، وهو كافِرٌ بِلا خِلَافٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ أحمدُ الحازمي في (شَرحُ مصباح الظلام): وهذا مُجْمَعٌ عليه بين المُسلِمِين، أنَّه لا يَصِحُّ تَوحِيدٌ ولا نُطْقٌ بِكَلِمةِ التوحيدِ إلَّا لِمَن عَلِمَ مَعناها. انتهى]؛ الشَّرطُ الثاني، اليَقِينُ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، بأنْ يقولَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بها، فيَطْمَئِنُّ قَلْبُه، ويَتَيَقَّنُ فؤادُه، أنَّه لا مَعبُودَ بِحَقٍّ في الوُجودِ إلَّا اللهُ سُبْحانَه وتَعالَى، فلا يُوجَدُ في قَلْبِه ذَرَّةُ شَكٍ باِستحقاقِ اللهِ وَحْدَه دُونَ ما سِوَاه للعِبَادةِ، فهذا اليَقِينُ لا يُبْقِي في القَلْبِ شَكًا، فإذا وُجِدَ الرَّيْبُ والشَّكُّ في القَلْبِ لم يَنْتَفِعْ بقولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وليس المُرادُ بالشَّكِّ الذي يَنْفِي صِحَّةَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الوَسوَسةَ والخَوَاطِرَ التي يُوَسْوِسُ بها الشَّيْطانُ للإنسانِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يَأْتِي ويُشَكِّكُ المُسلِمَ في دِينِه، فَقَلْبُ المُؤمِنِ يَرْفُضُ هذه الوَسْوَسةَ ويَشْمِئزُّ منها، وَقَلْبُ المُنافِقِ والكافرِ يَشْرَبُها ويُحِبُّها ورُبَّما نَطَقَ بها، فلَيْسَتِ الوَساوِسُ هي الشَّكَّ، لكنِ الشَّيْطانُ يَستَخدِمُ هذه الوَساوِسَ ليُثِيرَ الشَّكَّ في القَلْبِ، فَقَلْبُ المُؤمِنِ يَستَنكِرُ هذه الوَساوِسَ وهذا دَلِيلٌ على قُوَّةِ الإيمانِ واليَقِينِ [قالَ الشيخُ أحمدُ الخالدي في (الإيضاح والتبيين في حكم من شك أو توقف في كفر بعض الطواغيت والمرتدين، بِتَقدِيمِ الشيخِ عَلِيِّ بْنِ خضير الخضير): ومَن عَزَمَ على الكُفرِ كَأَنَّه أجازَ الكُفرَ ورَآه أمرًا سائِغًا، بِخِلافِ الوَساوِسِ الشَّيطانِيَّةِ التي لا تَستَقِرُّ ولا تَثبُتُ ولا يَطمَئنُّ معها القَلبُ ولا يَركَنُ إليها. انتهى]، فلَيْسَتِ الوَسْوَسةُ والتَّشكِيكاتُ بالتَّذكِيراتِ الشَّيْطانِيَّةِ مِمَّا يَنْقُضُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، إلَّا إذا تَرَكَ اليَقِينَ وَقَلْبُه أَحَبَّ هذه الشُّكُوكَ ولم يَعُدْ يُؤمِنُ، فحينئذٍ يكونُ كافِرًا، ففَرِّقوا بين الوَسْوَسةِ وبين الشَّكِّ الذي يُنافِي صِحَّةَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)؛ الشَّرطُ الثالثُ، القَبُولُ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ولِمَا تَضَمَّنَتْه هذه الكَلِمةُ قَبُولًا باطِنًا وظاهِرًا، فيَقْبَلُ بقَلْبِه أنَّ اللهَ هو المَعبودُ وَحْدَه المُستَحِقُّ للعِبَادةِ دُونَ ما سِوَاه، ويَقْبَلُ بلِسَانِه فيَقُولُها عن قَبُولٍ، فمِن شُروطِ صِحَّةَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) القَبولُ بهذه الكِلَمةِ بالقَلْبِ وباللِّسانِ؛ الشَّرطُ الرابعُ، الاِنْقِيَادُ، أَمَّا إذا لم يَنْقَدْ فلا يَصِحُّ منه قولُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [قالَ الشيخُ محمد بنُ إبراهيم الحمد (عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بكلية الشريعة وأصول الدين، في جامعة الإمام محمد بن سعود) في كتابِه (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ): وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الاِنْقِيَادِ وَالْقَبُولِ، أَنَّ الْقَبُولَ إِظْهَارُ صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، أَمَّا الاِنْقِيَادُ فَهُوَ الاِتِّبَاعُ بِالأَفْعَالِ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد ويلالي في مَقَالةٍ له على هذا الرابط: الْقَبُولُ يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ، والاِنْقِيَادُ يَتَعَلَّقُ بِالأَفْعَالِ. انتهى. وقال الشيخ (محمد مصطفى الشيخ) في مقالةٍ له بعنوان (معنى القبول والانقياد في شروط "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ")، وهي مُكَوَّنةٌ مِن جُزْأَين، الجزءُ الأَوَّلُ في هذا الرابط والجزءُ الثاني في هذا الرابط: الاِنْقِيَادُ هو البابُ الذي منه يَدخُلُ العَبْدُ في الدِّينِ، دِينِ الإسلامِ، إذْ هو -أَيِ الاِنْقِيَادُ- مَعْنَى لَفْظِ (الإسلام)، لأنَّ (أَسْلَمَ) أَيِ (استَسلَمَ وانْقادَ)، وهو مَعْنَى لَفْظِ (الدِّين)، لأنَّ (دانَ) أَيْ (خَضَعَ وذَلَّ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ محمد مصطفى-: أصلُ الإيمانِ التصديقُ والاِنْقِيَادُ، تَصدِيقُ الخَبَرِ والاِنْقِيَادُ للأمْرِ؛ ونحن في زَمانِنا حين نُرِيدُ أنْ نَصِفَ مَن أَتَى بأصلِ دِينِ الإسلامِ (حقيقةً لا ادِّعاءً) ودَخَلَ في الطاعةِ، نقولُ عنه {إنَّه التَزَمَ} و{صارَ (مُلْتَزِمًا)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ محمد مصطفى-: إنَّه مِنَ المَعلومِ أنَّ مَن أَعْلَنَ التِزامَه في واقِعِنا إنَّما هو قد أَعْلَنَ التِزامَه بشرائعِ الإسلامِ ودُخولَه في أهلِ الطاعةِ للهِ ورسولِه، وهذا لا يَعْنِي تَحقِيقَه لمَرتَبةِ الإيمانِ الواجبِ -وهي المَرتَبةُ الأعلى مِن مَرتَبةِ أَصْلِ الإيمانِ، والأَقَلُّ مِن مَرتَبةِ الإيمانِ المُستَحَبِّ-، فإنَّ كَوْنَه مُلْتَزِمًا أو حتى طالِبَ عِلْمٍ أو داعِيَةٌ، لا يَمْنَعُه -في دائرةِ الأعمالِ- مِنَ الوُقوعِ في كَبَائِرِ الذُّنوبِ، كالغِيْبةِ والسَّرِقةِ والزِّنَى وخِيَانةِ الأمَانةِ وغيرِ ذلك، فَضْلًا عنِ الصغائرِ، ولا مِن تَرْكِ الواجباتِ مِن طَلَبِ العلمِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عنِ المُنكَرِ والجهادِ وغيرِها، لكنْ فَيْصَلُ التَّفرِقةِ بينه وبين (المسلمِ غيرِ المُلْتَزِمِ!) أنَّ الأَوَّلَ أَقَرَّ بالتَّوحيدِ وبمُقتَضاه مِنَ الخُضوعِ والاِنْقِيَادِ والالتِزامِ، أمَّا الثاني (وهو المسلمُ العامِّيُّ) فقد استحقَّ اسمَ (الإسلامِ) حُكْمًا لظاهِره الذي لَنَا مِن تَلَفُّظٍ للشَّهادَتَين أو ما دُونِها مِن عَلَائِمِ الإسلامِ الظاهرةِ. انتهى باختصار]؛ الشَّرطُ الخامِسُ، الصِّدقُ في قولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، أَيْ أنْ يقولَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} صادِقًا لا كاذِبًا [قالَ الشيخُ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر (عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية) في (فقه الأدعية والأذكار): والصِّدقُ هو أنْ يُوَاطِئَ القَلْبُ اللِّسانَ. انتهى]؛ الشَّرطُ السادِسُ، الإخلاصُ في قولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وهذا يُنافِي الرِّيَاءَ، فلا يَقُولُها لِأجْلِ إرضاءِ النَّاسِ وسَمَاعِ (أو رُؤْيَةِ) ما يُحِبُّ منهم، لا يَقُولُ هذه الكَلِمةَ لِأجْلِ غيرِ اللهِ؛ الشَّرطُ السابِعُ، مَحَبَّةُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، المَحَبَّةُ لهذه الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ ولِمَا دَلَّتْ عليه ولِمَا تَضَمَّنَتْه مِنْ مَعَانٍ [قالَ ابنُ القيم في (مدارج السالكين): قَالَ تَعَالَى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فَجَعَلَ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وَتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ، فَعُلِمَ انْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ، فَانْتِفَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُتَابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ وَثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، بِدُونِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ؛ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ، وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَتَى كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْبَتَّةَ. انتهى]، ولا بُدَّ لِصِحَّةِ هذه (المَحَبَّةِ) أنْ يُبْغِضَ ما يُناقِضُها، فيُحِبُّ اللهَ وَحْدَهُ، ويَكْفُرُ [أَيْ بالطَّوَاغِيتِ] ويُبْغِضُ الطَّوَاغِيتَ وما يُعْبَدُ مِن دُونِ اللهِ (من رَضِيَ بهذه العبادةِ [قالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): قَيْدُ (الرِّضَا) لا بُدَّ منه لِنُخْرِجَ بذلك الملائكةَ والأنبياءَ والصالحِين، الذِين يُعْبَدون مِن دُونِ اللهِ])، وهذه (المَحَبَّةُ) تكونُ بالقَلْبِ ويَظْهَرُ أَثَرُها في اللِّسانِ والجَوَارِحِ، وكما تُلاحِظون أنَّ (الكُفْرَ بالطَّاغُوتِ) داخِلٌ في اِشتراطِ (المَحَبَّةِ) لهذه الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ، فلا تَصِحُّ (المَحَبَّةُ) لِـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) إلَّا بِبُغْضِ ما يُناقِضُها، فالإسلامُ مَبْنِيٌّ على الوَلَاءِ والبَرَاءِ، مُوَالَاةِ أَهْلِ الإيمانِ ومُناصَرَتِهم ومَحَبَّتِهم، وعَدَاوةِ وبُغْضِ أَهْلِ الكُفْرِ ومُجَافَاتِهم ومُجَانَبَتِهم، لذلك عَدَّ بعضُ العلماءِ (الكُفْرَ بالطَّاغُوتِ) شَرْطًا ثامِنًا لِأهَمِّيَّتِه، وإلَّا فهو في الحقيقةِ داخِلٌ في هذا الشَّرطِ السابعِ الذي هو (المَحَبَّةُ) [قالَ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين): وَالطَّاغُوتُ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ، فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مَنْ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَوْ يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذِهِ طَوَاغِيتُ الْعَالَمِ إذَا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْتَ أَكْثَرَهُمْ عَدَلُوا مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَعَنِ التَّحَاكُمِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إلَى التَّحَاكُمِ إلَى الطَّاغُوتِ، وَعَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ إلَى طَاعَةِ الطَّاغُوتِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ النَّاجِينَ الْفَائِزِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد بنُ عبدالوهاب: اعلمْ رَحِمَك اللهُ تعالَى أنَّ أَوَّلَ ما فَرَضَ اللهُ على ابْنِ آدَمَ الكُفرُ بالطاغوتِ والإيمانُ باللهِ -قالَ تعالَى {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}-، والدليلُ قولُه تعالَى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ فأمَّا صِفَةُ الكُفرِ بالطاغوتِ فهو أنْ تَعتقِدَ بُطلانَ عِبَادةِ غيرِ اللهِ، وتَتْرُكَها وتُبْغِضَها، وتُكَفِّرَ أَهْلَها وتُعادِيهم؛ وأمَّا مَعْنَى الإيمانِ باللهِ فهو أنْ تَعتقِدَ أنَّ اللهَ هو الإلَهُ المعبودُ وَحْدَه دُونَ مَنْ سِوَاه، وتُخْلِصَ جميعَ أنواعِ العبادةِ كُلِّها للهِ، وتَنْفِيَها عن كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاه، وتُحِبَّ أهلَ الإخلاصِ وتَوالِيهم، وتُبْغِضَ أهلَ الشركِ وتُعادِيَهم؛ وهذه مِلَّةُ إبراهيمَ التي سَفِهَ نَفْسَه مَن رَغِبَ عنها، وهذه هي الأُسْوَةُ التي أَخْبَرَ اللهُ بها في قولِه {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. انتهى من (مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان). وقالَ الشيخُ ناصرُ بنُ يحيى الحنيني (الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة) في مقالة له على هذا الرابط: إنَّ قَضِيَّةَ الوَلَاءِ للمؤمنِين والبَراءةِ مِنَ الكافِرِين مُرْتَبِطةٌ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ارْتِباطًا وَثِيقًا، فإنَّ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تَتَضَمَّنُ رُكْنَيْنِ؛ الأَوَّلُ، النَّفْيُ، وهو نَفْيُ العُبُودِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، والكفرُ بكُلِّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ؛ والثانِي، الإثباتُ، وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ؛ والدَّلِيلُ على هذيْنِ الرُّكْنَيْنِ قولُه تعالى {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ ومِنَ الكُفرِ بِالطَّاغُوتِ الكفرُ بأَهْلِه كما جاءَ في قولِه تعالى {كَفَرْنَا بِكُمْ}، وقولِه {إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، إذْ لا يُتَصَوَّرُ كُفْرٌ مِن غيرِ كافرٍ، ولا شِرْكٌ مِن غيرِ مُشْرِكٍ، فوَجَبَ البَرَاءةُ مِنَ الفِعْلِ والفاعلِ حتى تَتَحَقَّقَ كلمةُ التوحيدِ (كلمةُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"). انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بنُ سعيد القحطاني (أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى) في (الولاء والبراء في الإسلام، بتقديمِ الشيخِ عبدِالرزاق عفيفي "نائبِ مفتي المملكة العربية السعودية، وعضوِ هيئة كبار العلماء، ونائبِ رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"): قالَ تَعالَى {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، فلا يَكُونُ مؤمنًا مَن لا يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ (وهو كُلُّ مَتْبُوعٍ أو مَرْغُوبٍ أو مَرْهُوبٍ مِن دُونِ اللهِ)، فقَبُولُ الإيمانِ والاسْتِمْساكُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى مُستَلزِمٌ للكُفرِ بِالطَّاغُوتِ كما نَصَّتْ على ذلك الآيَةُ الكَرِيمةُ. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): فَلَنْ يَثْبُتَ لك الإيمانُ ولا عَقْدُ الإسلامِ حتى تَكْفُرَ بالطاغوتِ وتُعادِيه وتُكَفِّرَه، وتَتَبَرَّأَ منه ومِن جُنودِه وعَساكِرِه وتَكْفُرَ بهم وبقَوانِينِهم وتشريعاتِهم. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): مِن شُروطِ صِحَّة التَّوحيدِ الكفرُ بالطاغُوتِ، إذْ لا إيمانَ إلَّا بعدَ الكفرِ بالطاغُوتِ ظاهِرًا وباطِنًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطرطوسي-: الطاغُوتُ هو كُلُّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ (ولو في وَجْهٍ مِن أَوْجُهِ العبادةِ)، وهو راضٍ بذلك، فمَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ مِن جِهَةِ الرُّكُوعِ والسُّجودِ وصَرْفِ النُّسُكِ فهو طاغُوتٌ، ومَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ مِن جِهَةِ الدُّعاءِ والطَّلَبِ فهو طاغُوتٌ، ومَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ مِن جِهَةِ الخَوفِ والرَّجاءِ فهو طاغُوتٌ، ومَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ مِن جِهَةِ الطاعةِ والتَّحاكُمِ [إليه] فهو طاغُوتٌ، ومَن عُبِدَ مِن دونِ اللهِ مِن جِهَةِ المَحَبَّةِ والوَلَاءِ والبَرَاءِ فهو طاغُوتٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطرطوسي-: لا بُدَّ أنْ نَعرِفَ صِفةَ الكُفرِ بالطاغُوتِ، وكيف يكونُ الكُفرُ به، لِيَعلَمَ كُلُّ واحدٍ مِنَّا هَلْ هو مِمَّن يَكْفُرون بالطاغُوتِ حَقِيقةً، أَمْ أنَّه يَكْفُرُ بالطاغُوتِ زَعْمًا بِاللِّسانِ فَقَطْ!؛ أقول، الكُفرُ بالطاغُوتِ ليس بالتَّمَنِّي ولا بِزَعْمِ اللِّسانِ مِن غيرِ بُرْهانِ أو عَمَلٍ، وصِفَتُه أنْ يُكْفَرَ به اعتقادًا وقَولًا وعَمَلًا؛ (أ)صِفَةُ الكُفْرِ الاعتقاديِّ بالطاغُوتِ أنْ يُضْمَرَ له العَدَاوةُ والبَغضاءُ والكُرْهُ في القَلْبِ، ويُعتَقَدَ كُفْرُه وكُفْرُ مَن يَدخُلُ في عبادتِه مِن دونِ اللهِ تعالى، وهذا الحَدُّ مِنَ الكُفرِ بالطاغُوتِ لا يُعذَرُ أحَدٌ بتَرْكِه، لأنَّه أَمْرٌ مَقدُورٌ عليه يستطيعُ كُلُّ امْرِئٍ أنْ يَأتِيَ به مِن دونِ أَدْنَى ضَرَرٍ أو حَرَجٍ، لا سُلطانَ لِبَشَرٍ يُمْكِنُه مِنَ الحَيلُولةِ بينه وبين اعتقادِه هذا، لا يُعذَرُ أحَدٌ بالإكراهِ فيما يُضْمِرُ أو يَعتَقِدُ، لأنَّ الإكراهَ سُلطانُه على الجَوَارِحِ الظاهرةِ لا الجَوَارِحِ الباطِنةِ، فهو أَمْرٌ لا بُدَّ منه لأنَّ خِلَافَه يَقتَضِي الرِّضَا بالكُفرِ (الرِّضَا القَلْبِيَّ بالطاغُوتِ وإجرامِه وكُفْرِه)، والرِّضَا بالكُفْرِ كُفْرٌ بلا خِلَافٍ؛ (ب)صِفَةُ الكُفْرِ القَولِيِّ بالطاغُوتِ، يكونُ ذلك بإظهارِ كُفْرِه وتَكفِيرِه باللِّسانِ، وإظهارِ البَرَاءةِ منه ومِن دِينِه وأَتْباعِه وعَبِيدِه، وبَيَانِ ما هُمْ عليه مِن باطلٍ وشَعوَذةٍ وكُفْرٍ، كما قالَ تَعالَى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، حيث لا بُدَّ مِن مُواجَهَتِهم بهذه الكلمةِ الساطعةِ -والواضحةِ الدَّلَالةِ والمَعانِي مِن غيرِ الْتِوَاءٍ أو تَلَجْلُجٍ أو ضَعْفٍ- التي تَصِفُ حَقِيقةَ حالِهم وما هُمْ عليه {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، يَا أَيُّهَا المُشرِكون المُجرِمون}، وقالَ تَعالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}؛ (ت)صِفةُ الكُفْرِ بالطاغوتِ عَمَلًا، يَكونُ ذلك باعتزالِه واجتنابِه وجهادِه، وجهادِ أَتْباعِه وجُنودِه، وقِتالِهم إنْ أَبَوْا إلَّا القِتالِ، وعَدَمِ اتِّخاذِهم أَعْوانًا وأَولِيَاءَ؛ وبَعْدُ، هذه صِفةُ الكُفرِ بالطاغُوتِ فمَن أَتَى بها كاملةً غيرَ مَنقوصةٍ فهو الذي يَكونُ قد كَفَرَ بالطاغُوتِ وقد وَفَّى الشَّرطَ حَقَّه، ومَن لم يَأْتِ بها بهذه الصِّفةِ المُتَقَدِّمُ ذِكْرُها [مع تَوَفُّرِ القُدرةِ على فِعْلِ ذلك] لا يَكونُ قد كَفَرَ بالطاغُوتِ وإنْ زَعَمَ بلِسانِه أَلْفَ مَرَّةٍ أنَّه كافرٌ بالطاغوتِ، وإنْ كُنْتُ أَعْجَبُ فأَعْجَبُ لأُنَاسٍ يَزْعُمون بأَلْسِنَتِهم الكُفرَ بالطاغُوتِ، ويَستَهجِنون أنْ يكونوا مِن عَبِيدِ الطَّوَاغِيتِ، وفي نَفْسِ الوَقتِ في لِسانِ الحالِ والعَمَلِ -ورُبَّما في لِسانِ القَالِ كذلك- تَرَاهُمْ يُوالُون الطَّوَاغِيتَ ويُكْثِرون الجِدَالَ عنهم ويَذُودُون عنهم، ويَدخُلُون في خِدمَتِهم ونُصرَتِهم وجُيُوشِهم والتَّحاكُمِ إليهم، ومنهم مَن يُعادِي المُوَحِّدِين لِأجْلِهم!، فهؤلاء لم يُحَقِّقوا شَرطَ الكُفْرِ بالطاغُوتِ مَهْمَا زَعَمُوا بلِسانِهم خِلَافَ ذلك، فَواقِعُهم ولِسانُ حالِهم يُكَذِّبُهم ويَرُدُّ عليهم زَعْمَهم وادِّعاءَهم. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العُتَيْبِي-: قامَ بعضُ المَفْتُونِين بِبَلْبَلةِ الشَّبابِ حين طَرَحَ لهم قَضِيَّةَ هذه الشُّروطِ، هَلْ هي شُروطُ صِحَّةٍ أَمْ شُروطُ كَمَالٍ؟، وتَفَلْسَفَ هذا الرَّجُلُ وجَعَلَ بعضَها للصِّحَّةِ وبعضَها للكَمَالِ، وهذا قولٌ باطلٌ، فهذه الشُّروطُ السَّبْعةُ لا يَصِحُّ قولُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) إلَّا بها إجماعًا، وقد ذَكَرْتُ لكم النُّصوصَ على اِشتراطِها، فهي شُروطٌ لِصِحَّةِ قولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العُتَيْبِي-: زَعَمَ بعضُهم أنَّ شُروطَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أكثرُ مِن سَبْعةٍ، فجَعَلَ مِن شُروطِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الخوفَ، والرجاءَ، ونحوَ ذلك، ولكنْ شُروطُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هي سَبْعةٌ، لا نَحتاجُ إلى زِيَادةٍ، والعُلماءُ رَحِمَهم اللهُ تَلَقَّوْا هذا الحَصْرَ بالقَبُولِ، وما مِن زِيَادةٍ عليه إلَّا وهي داخِلَةٌ في هذا العَدَدِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): شُروطُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وُجُودُها شَرطٌ لِصِحَّةِ التَّوحيدِ وشَرطٌ لِوُجُوده، إذا انْتَفَى واحِدٌ منها انْتَفَتْ معه (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مُباشَرةً وانْتَفَى الانتفاعُ بها، ولكنْ وُجُودُ هذا الشَّرطِ مُنفَرِدًا لا يَستَلزِمُ ولا يُفِيدُ تَحَقُّقَ ووُجُودَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، ولِتَحقِيقِها وتَحَقُّقِ الانتفاعِ بها لا بُدَّ مِن استيفاءِ جميعِ شُروطِها وأركانِها مِن دونِ انتقاصِ شيءٍ منها. انتهى باختصار]، يَعنِي مَثَلًا الرِّضَا [قُلْتُ: الظاهِرُ أنَّ الشيخَ المنجد عَنَى بـ (الرِّضَا) هُنَا شَرْطَيِ (القَبُولِ والانْقِيَادِ)] {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، فنَجِدُ أنَّ التسليمَ والتحكيمَ -يَعْنِي تحكيمَ اللهِ ورسولِه وتحكيمَ الشَّرعِ، والتسليمَ- هذا أساسِيٌّ في الإيمانِ، فاللِّي ما عنده تحكيمٌ وتسليمٌ، أو يَرْفُضُ التحكيمَ والتسليمَ، ما هو مؤمنٌ، وبالتَّالِي تكونُ شَهادةُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ما لها قِيمةٌ لأَنَّها [حينئذٍ] مُجَرَّدُ لَفْظَةٍ، لو جِبْتَ [أَيْ أَحْضَرتَ] واحِدًا أَعْجَمِيًّا وقُلْتَ له {قُلْ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)}، فقالَ وَرَاءَك {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، لا يَعْرِفُ معناها، كأنَّه قالَ {أَبْجَدْ هَوَّزْ سَعْفَصْ قَرَشَتْ}، لَمَّا نَقولُ {أَشْهَدُ}، يَعْنِي (أنا أَعْلَمُ وأُقِرُّ وأُذْعِنُ)، فإذا واحِدٌ ما يَعرِفُ إِيشْ يَعْنِي [الذي قالَه]، كَلَامٌ، كلامٌ بَسْ [أَيْ وَلَكِنْ] هو لا يَفْقَهُه، ولا يُسَلِّمُ بمعناه، لا يَشْهَدُ به [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الجَوابُ المَسبوكُ "المَجموعةُ الثانِيَةُ"): قالَ العُلَماءُ {يَصِحُّ إسلامُ الكافِرِ بِجَمِيعِ اللُّغاتِ، ويُشتَرَطُ أنْ يَعرِفَ مَعْنَى الكَلِمةِ، فَلَوْ لُقِّنَ العَجَمِيُّ الشَّهادةَ بِالعَرَبِيَّةِ فَتَلَفَّظَ بها وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لم يُحكَمْ بِإسلامِه، ولَوْ تَكَلَمَ العَجَمِيُّ بِكَلِمةِ الكُفرِ بِالعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا لا يُحكَمُ بِكُفرِه}. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لو واحدٌ قالَ {أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} سنَحْكُمُ له بالإسلامِ، لكنْ إذا ناقَضَها خَلَاصٌ [أَيْ إذا ناقَضَها سنُكَفِّرُه]؛ لَمَّا أُسَامَةُ [بْنِ زَيْدٍ] قَتَلَ الرَّجُلَ، النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ أنكرَ عليه أنَّه قَتَلَه، قالَ [أَيْ أُسَامَةُ] {إِنَّمَا قَالَهَا اتِّقَاءَ السَّيْفِ}، قالَ [صلى الله عليه وسلم] {شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟}، يَعْنِي لو واحدٌ فِعْلًا قَالَهَا اتِّقَاءَ السَّيْفِ، هلْ هو مُؤْمِنٌ؟ لا لا، لكنْ مِن قواعدِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّه لَمَّا الواحدُ يقولُ {أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} نحن نَحْكُمُ له بالدُّخولِ في الإسلامِ [قالَ ابنُ تيميةَ في (الصارم المسلول): ولا خِلَافَ بين المسلمِين أنَّ الحَرْبِيَّ إذا أسْلَمَ عند رُؤيَةِ السَّيفِ وهو مُطْلَقٌ أو مُقَيَّدٌ [قَالَ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ (ت694هـ) في (غاية الإحكام في أحاديث الأحكام): الأسِيرُ مِنَ الكفارِ، يَتَخَيَّرُ الإمامُ فيه بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ (القَتْلِ والاسترقاقِ والمَنِّ والفِدَاءِ)، فإذا أَسْلَمَ في الأَسْرِ اُعْتُدَّ بإسلامِه وسَقَطَ قَتْلُه، وبَقِيَ الْخِيَارُ فيما بَقِيَ] يَصِحُّ إسلامُه وتُقْبَلُ تَوبَتُه مِنَ الكفرِ، وإنْ كانتْ دَلَالةُ الحالِ تَقتَضِي أنَّ باطنَه بخِلَافِ ظاهِرِه. انتهى. وذكرَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي -في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ")- أنَّ المُرتَدَّ رِدَّةً مُغَلَّظَةً، وكذلك الزِّندِيقَ، لا يُرْفَعُ عنهما السَّيفُ بقولِهما (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، فقالَ: المُرتَدُّ رِدَّةً مُغَلَّظَةً، وهو الذي يُتْبِعُ رِدَّتَه حَرْبًا لِلَّهِ ولِرَسولِه ولِلْمؤمنِين، فَيَزْدادَ بِذلك كُفْرًا على كُفْرٍ، فَمِثْلُ هذا لا تُقبَلُ تَوبَتُه بَعْدَ القُدرةِ عليه [أَيْ في حالةِ ما إذا أَعْلَنَ تَوبَتَه بَعْدَ أنْ قُدِرَ عليه]، ولا يُستَتَابُ، ولو تَابَ وجَهَرَ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لا يُقبَلُ منه، ولا يَرتَفِعُ عنه السَّيفُ ولا حَدُّ القَتْلِ [قالَ ابنُ تيميةَ في (الصارم المسلول): فهذه سُنَّةُ النبيِّ (عليه الصلاةُ والسلامُ) وخُلَفائه الراشدِين وسائرِ الصحابةِ تُبَيِّنُ لك أنَّ مِنَ المُرتَدِّين مَن يُقتَلُ ولا يُستَتَابُ ولا تُقبَلُ تَوبَتُه، ومنهم مَن يُستَتَابُ وتُقبَلُ تَوبَتُه؛ فمَن لم يُوجَدْ منه إلَّا مُجَرَّدُ تَبدِيلِ الدِّينِ وتَرْكِه، وهو مُظْهِرٌ لذلك -أَيْ مُظْهِرٌ للكُفْرِ، بخِلَاف المُنافِقِ-، فإذا تابَ قُبِلَتْ تَوبَتُه؛ ومَن كان مع رِدَّتِه قد أصابَ ما يُبِيحُ الدَّمَ (مَن قَتْلِ مُسلِمٍ وقَطْعِ الطريقِ وسَبِّ الرسولِ والافتراءِ عليه ونحوِ ذلك) وهو في دارِ الإسلامِ غيرُ مُمْتَنِعٍ بفِئَةٍ، فإنَّه إذا أَسْلَمَ يُؤخَذُ بذلك المُوجِبِ للدَّمِ فيُقتَلُ للسَّبِّ وقَطْعِ الطريقِ مع قَبُولِ إسلامِه. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عليُّ بنُ نايف الشحود في (موسوعة الدين النصيحة): يُقتَلُ المُرتَدُّ مِن غيرِ استِتَابةٍ إنْ قُدِر عليه، إذا كانتْ رِدَّتُه مُغَلَّظةً، لأنَّ الرِّدَّةَ تَنقَسِمُ إلى قِسمَين؛ مُغَلَّظةٌ، وهي ما تكونُ مصحوبةً بمُحارَبةِ اللهِ، ورسولِه، وأَولِيائِه مِنَ العلماءِ العاملِين، والمُبالَغةِ في الطَّعْنِ في الدِّينِ، والتَّشكِيكِ في الثَّوابِتِ؛ ومُجَرَّدةٌ، وهي التي لم تُصْحَبْ بمُحارَبةٍ، ولا طَعْنٍ وتَشكِيكٍ في الدِّينِ؛ وكُلُّ الآثارِ التي وَرَدَتْ في استِتَابةِ المُرتَدِّ مُتَعَلِّقةٌ بالرِّدَّةِ المُجَرَّدةِ؛ قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رَحِمَه اللهُ -في (الصارم المسلول)- {إنَّ الرِّدَّةَ على قِسمَين، رِدَّةٌ مُجَرَّدةٌ، ورِدَّةٌ مُغَلَّظةٌ، وكِلَاهما قد قامَ الدَّلِيلُ على وُجوبِ قَتْلِ صاحبِها، والأَدِلَّةُ الدَّالةُ على سُقُوطِ القَتْلِ بالتَّوبةِ لا تَعُمُّ القِسمَين، بلْ إنَّما تَدُلُّ على القِسمِ الأَوَّلِ -الرِّدَّةِ المُجَرَّدةِ- كما يَظهَرُ ذلك لِمَن تَأَمَّلَ الأدِلَّةَ على قَبولِ تَوبةِ المُرتَدِّ، فيَبْقَى القِسمُ الثاني -الرِّدَّةُ المُغَلَّظةُ- وقد قامَ الدَّلِيلُ على وُجوبِ قَتْلِ صاحِبِها، ولم يَأْتِ نَصٌّ ولا إجماعٌ على سُقوطِ القَتلِ عنه، والقياسُ مُتَعَذِّرٌ مع وُجودِ الفَرقِ الجَلِيِّ، فانْقَطَعَ الإلحاقُ، والذي يُحَقِّقُ هذه الطَّرِيقةَ أنَّه لم يَأْتِ في كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ أنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَدَّ بأَيِّ قَولٍ أو أَيِّ فِعْلٍ كانَ فإنَّه يَسقُطُ عنه القتلُ (إذا تابَ بَعْدَ القُدرةِ عليه)، بَلِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ قد فَرَّقَ بين أنواعِ المُرتَدِّين}. انتهى باختصار]، قال ابن تيمية في [مجموع] الفتاوى {يُفَرَّقُ في المُرتَدِّ بين الرِّدَّةِ المُجَرَّدةِ (فَيُقْتَلُ إلَّا أنْ يَتُوبَ)، وبين الرِّدَّةِ المُغَلَّظةِ (فيُقْتَلُ بلا استِتابةٍ)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطرطوسي: الزِّندِيقُ هو المُنافِقُ الذي يُظْهِرُ كُفْرَه، فإنْ قامَتْ عليه البَيِّنةُ القاطِعةُ واستُتِيبَ أَنْكَرَ وَجَحَدَ، والراجِحُ في الزِّندِيقِ أنَّه يُقْتَلُ مِن غَيرِ اِستِتابةٍ مَهْمَا تَظاهَرَ بِالإسلامِ وقالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الجواب المسبوك "المجموعة الأولى"): وأعمالُ الجَوارِحِ تُعرِبُ عَمَّا في الضَّمائرِ، والأصلُ مُطابَقةُ الظاهِرِ لِلباطِنِ، ولم نُؤْمَرْ أنْ نُنَقِّبَ عنِ القُلوبِ ولا أنْ نَشُقَّ البُطونَ، لا في بابِ الإيمانِ ولا في بابِ الكُفرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ الأصلَ في الكَلامِ حَمْلُه على ظاهِرِ مَعناه، ما لم يَتَعَذَّرِ الحَمْلُ لِدَلِيلٍ يُوجِبُ الصَّرْفَ، لِأنَّنا مُتَعَبِّدون بِاعتِقادِ الظاهِرِ مِن كَلامِ اللهِ وكَلامِ رَسولِه وكَلامِ الناسِ. انتهى. وقالَ ابنُ تيميةَ في (مجموع الفتاوى): وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ مَنْ يَقْتُلُهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْتُمُ النِّفَاقَ، قَالُوا، وَلَا تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ، لِأنَّ غَايَةَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ يُظْهِرُ مَا كَانَ يُظْهِرُ، وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الإِيمَانَ وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَلَوْ قُبِلَتْ تَوْبَةُ الزَّنَادِقَةِ لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى تَقْتِيلِهِمْ وَالْقُرْآنُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالتَّقْتِيلِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (زنادقة العصر): لا مَخْرَجَ ولا مَنْجاةَ للزِّندِيقِ مِمَّا هو فيه إلا بِشَرطٍ، وهو أنْ يَتُوبَ وتكونُ تَوبَتُه (قَبْلَ القُدرةِ عليه مِن قِبَلِ جُنْدِ الحَقِّ)، بحيث يَأْتِي طَوَاعِيَةً -صادِقًا راغِبًا بالتَّوبةِ والإِيَابِ إلى الحَقِّ- مِن تِلْقاءِ نَفْسِه مِن غيرِ خَوفٍ ولا إكراهٍ، فيَعْتَرِفُ بما كان منه مِن كُفْرٍ وزَندَقةٍ، مُعلِنًا على المَلأِ تَوبَتَه وبَرَاءَتَه مِمَّا كان عليه مِنَ الباطلِ، فإنَّ تَوبَتَه قَبْلَ القُدرةِ عليه، وعَزمَه على إصلاحِ ما كان قد أَفْسَدَ وأَساءَ، مع اعتِرافِه بما كان منه مِن كُفْرٍ وزَندَقةٍ لَهِيَ عَلَامةٌ قَوِيَّةٌ تَدُلُّ على صِدقِ تَوبَتِه وإِيَابِه إلى الحَقِّ، ورَغْبَتِه في الإصلاحِ؛ فمِثُلُ هذا، الراجِحُ فيه أنَّ تَوبَتَه تَنْفَعُه، وتَدْرَأُ عنه أَسْيَافِ الحَقِّ، وتَلْزَمُ له حُقوقُ أُخُوَّةِ الإسلامِ، لقولِه تَعالَى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ قالَ ابنُ القيم في (الإعلام) {لَوْ أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى السُّلْطَانِ ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الإِسْلَامِ وَعَلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحَةِ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ يُقْتَلْ}. انتهى. وقالَ ابنُ القيم في (إعلام الموقعين): وَهَا هُنَا قَاعِدَةٌ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا قَبِلَ تَوْبَةَ الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ مِنْ كُفْرِهِ بِالإِسْلَامِ لِأنَّهُ -أَيْ ما أَعْلَنَه مِن تَوبَةٍ- ظَاهِرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأنَّهُ مُقْتَضٍ لِحَقْنِ الدَّمِ وَالْمُعَارِضُ مُنْتَفٍ؛ فَأَمَّا الزِّنْدِيقُ فَإِنَّهُ قَدْ أَظْهَرَ مَا يُبِيحُ دَمَهُ، فَإِظْهَارُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِلتَّوْبَةِ وَالإِسْلَامُ لَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِدَمِهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً وَلَا ظَنِّيَّةً، أَمَّا انْتِفَاءُ الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الظَّنِّ فَلِأنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا صَحِيحًا إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ، فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَاطِنِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ظَاهِرٍ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبَاطِنَ بِخِلَافِهِ، وَلِهَذَا اِتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ، وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْعُدُولُ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ -أَيْ شَخْصٌ- إقْرَارًا عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ {هَذَا ابْنِي} لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَالْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ إنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهَا إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا؛ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَهَذَا الزِّنْدِيقُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ، وَتَكْذِيبِهِ وَاسْتِهَانَتِهِ بِالدِّينِ، وَقَدْحِهِ فِيهِ، فَإِظْهَارُهُ الإِقْرَارَ وَالتَّوْبَةَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ يُظْهِرُهُ قَبْلَ هَذَا، وَهَذَا الْقَدْرُ-أَيِ الذي أَظْهَرَه مِنَ الإقرارِ والتَّوبةِ- قَدْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهُ بِمَا أَظْهَرَهُ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، فَلَا يَجُوزُ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ إلْغَاءَ الدَّلِيلِ الْقَوِيِّ وَإِعْمَالَ الدَّلِيلِ الضَّعِيفِ الَّذِي قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُ دَلَالَتِهِ؛ وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفُ يُقَاوِمُ دَلِيلُ إظْهَارِهِ لِلإِسْلَامِ بِلِسَانِهِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَدِلَّةَ زَنْدَقَتِهِ وَتَكَرُّرَهَا مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَإِظْهَارَهُ كُلَّ وَقْتٍ لِلاسْتِهَانَةِ بِالإِسْلَامِ وَالْقَدْحِ فِي الدِّينِ وَالطَّعْنِ فِيهِ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ، مَعَ اسْتِهَانَتِهِ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ؟، وَلَا يَنْبَغِي لِعَالِمٍ قَطُّ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي قَتْلِ مِثْلِ هَذَا، وَلَا تُتْرَكُ الأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ لِظَاهِرٍ قَدْ تَبَيَّنَ عَدَمُ دَلَالَتِهِ وَبُطْلَانُه، وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ عَنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ. انتهى باختصار]. انتهى باختصار. قلتُ: ومِمَّن لا يُرْفَعُ عنهم السَّيْفُ بقولِهم (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، مَن كانَ في كُفْرِه (أو في رِدَّتِه) مُقِرًّا بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وكذلك مَن تَكَرَّرَتْ رِدَّتُه؛ وقد قالَ الشيخُ هيثم فهيم أحمد مجاهد (أستاذ العقيدة المساعد بجامعة أم القرى) في (المدخل لدراسة العقيدة) {الكافرُ المُرتَدُّ الذي خَرَجَ مِنَ الإسلامِ مِن غيرِ بابِ الامتناعِ عنِ النُّطقِ بالشَّهادَتَين، فهذا الكافرُ المُرتَدُّ لو ارتَدَّ مَثَلًا مِن بابِ تَرْكِ الصلاةِ، أو بَدَّلَ شريعةِ اللهِ وحارَبَ المُسلِمِين على ذلك، فلا تُقْبَلَ منه الشَّهادَتان، ولا بُدَّ مِنَ الدُّخولِ في الإسلامِ مِن البابِ الذي خَرَجَ منه، لأنَّه أثناءَ رِدَّتِه وأثناءَ كُفرِه لم يَمتَنِعْ عنِ النُّطقِ بالشَّهادَتَين، كحَالِ المُرتَدِّين في زَمَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه وعنِ الصَّحابةِ أَجْمَعِين، فقد قاتَلَهم الصَّحابةُ بالإجماعِ، مع أنَّهم كانوا يُصَلُّون ويَصومون ويَحُجُّون ويَقْرَءُونَ القُرآنَ ويقولون (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، مع ذلك قاتَلَهم الصَّحابةُ وحَكَموا عليهم بالكُفرِ والرِّدَّةِ واستَحَلُّوا دِماءَهم وأموالَهم ونِسَاءَهم، وهذا قِتالُ رِدَّةٍ وكُفْرٍ بالإجماعِ، فلا بُدَّ مِنَ التفريقِ عند النُّطقِ بالشَّهادَتَين بين الكافرِ الأَصلِيِّ وبين الكافرِ المُرتَدِّ، فالكافرُ الأَصلِيُّ تُقْبَلَا منه ويُعْصَمُ بهما دَمُه وَمَالُه وَعِرْضُه ما لم يَأْتِ بِنَاقِضٍ يَنْقُضُهما، والكافرُ المُرتَدُّ لا تُقْبَلَا منه، لأنَّه لم يَمتَنِعْ عن قولِهما أثناءَ رِدَّتِه، وعليه الدُّخولُ في الإسلامِ مِنَ البابِ الذي خَرَجَ منه، ومَن لم يَفْهَمْ هذا الفَرْقَ ويَضْبِطْه بِفَهْمِ الصَّحابةِ يَضِلَّ ويَزِيغَ عنِ الحَقِّ، نَسألُ اللهَ حُسنَ الفَهْمِ والثَّباتِ وحُسنَ الخاتِمةِ}. انتهى باختصار. وقد قالَ الشيخُ منصور البُهُوتِيُّ (ت1051هـ) في (شرح منتهى الإرادات): وَلَا تُقْبَلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا -كَتَرْكِ قَتْلٍ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ تَوْرِيثٍ وَنَحْوِهَا- تَوْبَةُ زِنْدِيقٍ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، وَالزِّنْدِيقُ لَا يُعْلَمُ تَبَيُّنُ رُجُوعِهِ وَتَوْبَتِهِ، لِأنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ [أَيْ مِنَ النِّفاقِ]، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفِي الْكُفْرَ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الدُّنْيَا تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}، وَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، وَلِأنَّ تَكْرَارَ رِدَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالإِسْلَامِ. انتهى باختصار]، ثم تَصَرُّفاتُه كَيْفَ ماشِيَةٌ؟، إذا سَبَّ اللهَ ورسولَه، أو استهزأَ بالدِّينِ، دَعَسَ [أَيْ دَاسَ] على المُصحَفِ، أَلْقاه في القاذُوراتِ، رَفَضَ تَحكِيمَ الشريعةِ، إلى آخِرِه، هذا نَسَفَها نَسْفًا، ولذلك الشَّهادةُ أيضًا مُرْتَبِطةٌ بقَضِيَّةِ الاستمرارِ عليها، يعني لو واحِدٌ أَتَى بها وناقَضَها أُلْغِيَتْ، ما عادَ لها قِيمةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: المُرجِئةُ المُعاصِرون سَبَبٌ في بَلَاءِ الأُمَّةِ، لأنَّهم يقولون {إنَّه لا بُدَّ أنْ تَحْكُموا بالإسلامِ للذي يقولُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مَهْمَا فَعَلَ، رَفَضَ تحكيمَ الشَّرعِ، طَعَنَ في الدِّينِ، سَبَّ اللهَ ورسولَه، استهزأَ بالأحكامِ الشرعِيَّةِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لو قالَ لك واحِدٌ {أَنْتُمْ على كَيْفِكُمْ [أَيْ تَتِّبَعُون أهَوَاءَكُمْ]، تُدْخِلون اللِّي تَبْغُون في الإسلامِ، وتُطَلِّعون [أَيْ وتُخْرِجون] اللِّي ما تَبْغُون، على كَيْفِكُمْ؟}، نقولُ، لا، نحن لَمَّا نقولُ {إذا واحِدٌ قالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وهو كارِهٌ ما أَنْزَلَ اللهُ، ما لَها قِيمَةٌ الشَّهادةُ} إنَّما نقولُ بِأَدِلَّةٍ {كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: طَيِّبٌ، الآنَ لَمَّا نَجِيءُ إلى قَضِيَّةِ الإرجاءِ المُعاصِرِ هذا، الآنَ في واقِعِنا ماذا فَعَلَ مِنَ المَصائبِ؟؛ هؤلاء الذِين يؤمنون بفِكْرةِ الإرجاءِ، ويَبْنُون مَواقِفَهم على الإرجاءِ، ويَنشُرون فِكْرَ الإرجاءِ في الكُتُبِ، والمواقعِ (الشَّبَكاتِ)، إلى آخِرِه، إنَّهم يُضَلِّلون ويُلَبِّسون كثيرًا، إنَّهم يَقِفُون حَجَرَ عَثْرةٍ أمامَ الناسِ والتَّوبةِ، لأنَّ نَشْرَ فِكْرةِ الإرجاءِ هي عِبارةٌ عن تَثْبِيطٍ لِمَن أرادَ [التَّوبةَ]، يَعْنِي نَزْعَ تَأْنِيبِ الضَّمِيرِ؛ وكذلك عندما يَنشُرون فِكْرَ الإرجاءِ، يَعْنِي أنَّهم يقولون للناسِ {إنَّ قَضِيَّةَ الإذْعانِ والاستسلامِ ما هي شَرْطٌ}، فأدَّى الفِكْرُ الإرجائِيُّ إلى إحداثِ التَّمَرُّدِ على شَرْعِ اللهِ عند المُراهِقِين والمراهقاتِ والشَّبابِ والفَتَيَاتِ، لأنَّ المُرجِئَ يقولُ للفَتَيَاتِ والشَّبابِ والمُراهِقِين والمراهقاتِ {أنتم مؤمنون كُمَّلٌ، لأنَّ الإيمانَ ما يَتَجَزَّأُ ولا يَتَبَعَّضُ، وأنتَ [أَيُّهَا الشَّابُّ أو الفَتَاةُ] تقولُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، خَلَاصٌ [أَيْ يَكْفِيك ذلك]، أنتَ مؤمنٌ، إيمانُك إيمانٌ كامِلٌ}، فذاك الشابُّ والفَتَاةُ، بَعْدَ هذا ما هو المانعُ في قَضِيَّةِ الانْزِلاقِ عنده في أَوْحالِ المَعاصِي والشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ؟؛ لَمَّا يقولُ المُرجِئةُ {العَمَلُ ما له عَلَاقةٌ بالإيمانِ، الإيمانُ في القَلْبِ، والعَمَلُ ما له عَلَاقةٌ بالإيمانِ}، أَيُّ حافِزٍ سيَدْفَعُ الشَّبابَ والفَتَيَاتِ، الكِبَارَ أو الصِّغَارَ، إلى العَمَلِ الصالحِ إذا ما له عَلَاقةٌ بالإيمانِ؟، لأنَّه [أَيِ الشَّابَّ والفَتَاةَ والكبيرَ والصغيرَ] سيقولُ {أَنَا أَبْغَي الإيمانَ اللِّي يُنَجِّيني مِنَ النارِ}، سيقولُ [أَيِ المُرجِئُ] له {مَا دَامَ عندك إيمانٌ، مَا دَامَ عندك مَعرِفةٌ باللهِ، مَا دَامَ عندك تصديقٌ قَلْبِيٌّ، مَا دَامَ عندك الإيمانُ القَلْبِيُّ، خَلَاصٌ، يَكْفْي}، سيقولُ له {طَيِّبٌ، العَمَلُ شَرْطٌ؟، يَعْنِي [هَلِ] الطاعاتُ لها عَلَاقةٌ بالإيمانِ؟}، سيقولُ له {لا}، سيقول {طَيِّبٌ، أَنَا إذا ارتكبتُ مَعَاصٍ [أَيًّا كان نَوْعُ المَعْصِيَةِ] سيَزُولُ الإيمانُ مِن عندي؟}، سيقولُ له {لا}؛ إِيشْ أَثَرُ هذه على عامَّةِ الناسِ؟، لَمَّا تَنْشُرُ أفكارًا مِثْلَ هذه، ما هي أَثَرُها على عامَّةِ الناسِ؟، ولَمَّا تَقُولُ لِوَاحِدٍ {جِنْسُ العَمَلِ ما هو لازِمٌ في الإيمانِ}، يَعْنِي لو واحِدٌ ما عَمِلَ أَبَدًا أَيَّ عَمَلٍ مِن أعمالِ الإسلامِ، يقولُ الشَّهادَتَين [فَقَطْ]، بَلْ حتى بعضُهم ما يَشتَرِطُ الشَّهادَتَين، يقولُ {يَكْفِي الإيمانُ القَلْبِيُّ}، هذا المَبْدَأُ، نَشْرُه سَيَعْمَلُ عَلَى إيجادِ مُسلمِين بلا هُوِيَّةٍ، عَلَى إيجادِ مسلمِين بالاسمِ، ولذلك لَوْ واحِدٌ فَكَّرَ وقالَ {يا جَمَاعةُ، أَنَا فَكَّرتُ في وَضْعِنا ومَشاكِلِنا، وَجَدْتُ أنَّ وَضْعَنا ومَشاكِلَنا أَنَّه في [أَيْ يُوجَدُ] كثيرٌ مِنَ الناسِ يَنتَسِبون للإسلامِ، بَسْ [أَيْ وَلَكِنْ] ما عندهم مِنَ الإسلامِ إلَّا الاسمُ، مِن أَيْنَ أَتَتْ هذه الفِكْرةُ [أَيْ حالةُ وُجودِ مُنْتَسِبِين للإسلامِ ليس عندهم منه إلَّا الاسمُ]، مَنِ الذي نَشَرَ، مَنِ اللِّي ابْتَكَرَها (اخْتَرَعَها)، كيفَ وَصَلَتْ؟}، نقولُ، هذا هو الإرجاءُ، هذه عقيدةٌ قَدِيمةٌ ماشِيَةٌ [أَيْ مُستَمِرَّةٌ]، في [أَيْ يُوجَدُ] نَاسٌ تَشْتَغِلُ في الأُمَّةِ مِن زَمَانٍ على الخَطِّ هذا، وعَمَلُ الجَوَارِحِ [عندهم] ما هو رُكْنٌ لصِحَّةِ الإيمانِ [قلتُ (لِكُلِّ داعِيَةٍ): اعْلَمْ أيُّها الدَّاعِيَةُ أنَّك عندما تَذْكُرُ للعامَّةِ الأحادِيثَ المُصَرِّحةَ بأنَّ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يُدْخِلُ الجَنَّةَ، وتَغْفَلُ عن ذِكْرِ النُّصوصِ التي تُوَضِّحُ نَواقِضَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وشُروطَ صِحَّتِها، وتَذْكُرُ آيَاتِ الرَّحْمةِ والرَّجاءِ والثَّوَابِ والتَّرغِيبِ والبِشَارةِ، وتَغْفَلُ عن ذِكْرِ آياتِ الانتِقامِ والتَّهْدِيدِ والعِقَابِ والتَّرهِيبِ والنِّذَارةِ، وتَذْكُرُ قَولَه تَعالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} مَبْتُورًا عَمَّا قَبْلَه وهو {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} ومَبْتُورًا عَمَّا بَعْدَه وهو {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}، وتَذْكُرُ قَولَه تَعالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وتَغْفَلُ عن ذِكْرِ قَولِه صلى الله عليه وسلم لِقُرَيْشٍ وهو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ {أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ} [قالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في فتوى له على هذا الرابط: فهذه المَقالةُ وإنْ كانتْ رَدَّةَ فِعْلٍ على استهزائهم، إلَّا أَنَّها مَقالةُ حَقٍّ لا مِريَةَ فيها، وقد تَحَقَّقَتْ في بَدْرٍ وغيرِها، وليستْ هي قَطْعًا مِن جِنْسِ رُدُودِ الفِعْلِ الغَضَبِيَّةِ غيرِ المُنضَبِطةِ بضَوابِطِ الشَّرْعِ، التي تَصْدُرُ عن سائرِ الناسِ، فالنبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي أيضًا في خُطْبَةٍ له مُفَرَّغَةٍ على هذا الرابط: فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخاطِبُ قَوْمَه -الساخِرِين المُستَهزِئِين به المُحارِبِين له- بهذا الخِطابِ {لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ}، يقولُ لهم ذلك بِقُوَّةِ المُؤْمِنِ الواثقِ بِرَبِّه في زَمَنِ الاستضعافِ، في حين لم يَكُنْ معه على ذلك الأمْرِ إلَّا حُرٌّ وعَبْدٌ [يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَ]، في زَمَنٍ يَأْتِيه عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ لِيَتَّبِعَه فيقولُ له رسولُ اللهِ {إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ اِرْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي ظَهَرْتُ فَأْتِنِي}، وهو مع هذه الحالةِ مِنَ الاستضعافِ وفي تلك الحالةِ مِن عَداوةِ الناسِ له، تَرَاه يُخاطِبُهم بكُلِّ وُضوحٍ وصَرَاحةٍ {لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ}، يقولُ ذلك ثِقَةً بوَعْدِ اللهِ ونَصْرِه. انتهى]، وقَولِه صلى الله عليه وسلم {بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي}، وتَغْفَلُ عن ذِكْرِ أنَّ مِن أسمائِه صلى الله عليه وسلم (الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ) [قالَ الذَّهَبِيُّ في (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ): ومِن أَسْمائِه الضَّحُوكُ والْقَتَّالُ]، وتَذْكُرُ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ التي دَخَلَتِ الجَنَّةَ في كَلْبٍ سَقَتْه، وتَغْفَلُ عن ذِكْرِ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ التي دَخَلَتِ النارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها ولم تُطْعِمْها، اعْلَمْ أيُّها الدَّاعِيَةُ أنَّك بذلك تَنْشُرُ عَقِيدةَ الإرجاءِ مِن حيث لا تَدْرِي؛ واعْلَمْ أيضا أيُّها الدَّاعِيَةُ أنَّك إذا أَنَارَ اللهُ لك بَصِيرَتَك وعَرَفْتَ أنَّ حالةَ الانْحِطاطِ التي وَصَلَتْ إليها الأُمَّةُ اليومَ، سَبَبُها هو التَّحَوُّلُ مِن مَرْحَلَةِ الخِلَافةِ الراشِدةِ إلى مَرْحَلَةِ الْمُلْكِ الْعَاضِّ -فَمَرْحَلَةِ المُلْكِ الجَبْرِيِّ- التي تَحَصَّنَتْ بالإرجاءِ، فأصبحَ الإرجاءُ سِيَاجًا يَحْمِيها مِن أَنْ تَعُودَ الأُمَّةُ لِتَعِيشَ مَرَّةً أُخرَى مَرْحَلَةَ الخِلَافةِ الراشِدةِ، وإذا عَرَفْتَ أيُّها الدَّاعِيَةُ أنَّه لا سَبِيلَ للأُمَّةِ إلى النُّهوضِ مِن حالةِ الانْحِطاطِ هذه بدُونِ القَضَاءِ على جُرْثُومةِ الإرجاءِ الخَبِيثةِ التي هي السِّيَاجُ الحامِي للمُلْكِ الجَبْرِيِّ الذي يَعِيشُه المسلمون الآنَ، فإنَّك أيُّها الدَّاعِيَةُ إذا عَرَفْتَ ذلك تكونُ عندئذٍ خائِنًا لِدِينِك وأُمَّتِك، وخائِنًا لِلَّهِ ورَسولِه، إذا لم تَجْعَلْ دَعْوَتَك قائمةً ودائِرةً ومُدَنْدِنةً حَوْلَ فَضْحِ وتَعْرِيَةِ المُرجِئةِ وبَيَانِ تَضلِيلِهم وتَلْبِيسِهم وبَيَانِ أَثَرِهم في الأُمَّةِ، حتى يَتِمَّ القَضاءُ على جُرْثُومةِ الإرجاءِ الخَبِيثةِ، فإنَّه حينئذٍ يَنْهَدِمُ السِّيَاجُ الذي تَحَصَّنَ به الْمُلْكِ الْعَاضِّ -فَالمُلْكِ الجَبْرِيِّ-، وحينئذٍ تَعِيشُ الأُمَّةُ مَرَّةً أُخرَى مَرْحَلَةَ الخِلَافةِ الراشِدةِ، مُتَهَيِّئَةً لِسِيَادةِ العالَمِ مِن جَدِيدٍ. وقالَ الشيخُ عبدُالله بن زيد آل محمود (رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر): إنَّ لِفَسادِ الدِّينِ عَوامِلَ ساعدتْ على ضَعْفِه ثم على ضَعْفِ أَهْلِه، وكُلُّ ما كان أَصْلًا لِلْفَسادِ فإنَّه يكونُ سَبَبًا في دُخولِ الضَّعْفِ منه على العِبَادِ، وقد اخْتَلَفَ المؤرِّخون في سببِ دُخولِ هذا الضَّعْفِ وبِدايتِه، فَقِيلَ... وقيل {إنَّه مِن أَجْلِ التخصيصِ بالوِلَايَةِ [يعني مَرْحَلَةَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ، وهي المَرْحَلَةُ التي قَضَتْ على اخْتِيارِ حاكِمِ المسلمِين بالشُّورَى] لِمَن ليس بِكُفْءٍ، ونَبْذِ المُشاوَرةِ الشرعيَّةِ التي أَمَرَ اللهُ بها}، وقِيلَ {إنَّه مِن أَجْلِ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ}، أيِ الأُمَراءِ المُستبِدِّين [وهؤلاء لم يَظهروا في مَرْحَلَةِ الخِلَافةِ الراشدةِ التي كان يَتِمُّ فيها اخْتِيارُ حاكِمِ المسلمِين بالشُّورَى، ولكِنْ ظهروا في مَرْحَلَةِ الْمُلْكِ الْعَاضِّ] الذِين الْتَوُوا عن طَرِيقِ الحقِّ القَوِيمِ والصِّراطِ المُستقِيم، وتَنَكَّبُوا طَرِيقَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخُلَفائِه وأصحابِه، وألزموا الناسَ بمُخالَفةِ شريعةِ الدِّينِ، فَتَبِعَهم الناسُ على ضلالِهم وفَسَادِ اعتِقادِهم، حتى صارَتِ البِدْعةُ سُنَّةً والمُنْكَرُ معروفًا، وهو نَفْسُ ما خافَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أُمَّتِه، حيث قال {وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ}، ولعلَّ هذه [أَيْ مَقُولةَ {إنَّه مِن أَجْلِ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ}] هي أَعْظَمُها [أَيْ أَعْظَمُ المَقُولاتِ التي قِيلَتْ في سببِ دُخولِ الضَّعْفِ على الدِّينِ وأَهْلِه] ضَرَرًا وأَشَدُّها خَطَرًا ومنه بَدَأَ هذا النَّقْصُ الواقِعُ حتى اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ. انتهى باختصار من (مجموعة رسائل الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود). وذَكَرَ الشيخُ عبدُالعزيز بنُ ناصر الجُلَيِّلُ (المشرف على المكتب العلمي في دار طيبة للنشر والتوزيع) في (الميزان في الحكم على الأعيان) بعضَ صفاتِ المُرجِئةِ، فكانَ منها: (أ)التَّساهُلُ في أَخْذِ أَحكامِ الدِّينِ وشَرائعِه بِحُجَّةِ قَواعِدِ (التَّيسِيرِ ورَفْعِ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ)، بدُونِ الأَخْذِ بضَوابِطِها؛ (ب)التَّهوِينُ مِن شَأْنِ (الأَمْرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عنِ المُنكَرِ)، أو تَرْكُه بِحُجَّةِ أنَّ في ذلك فِتْنةً وفُرْقةً؛ (ت)لَمْزُ الدُّعاةِ والمُحتَسِبِين والمُجاهِدِين، الصادِقِين، ورَمْيُهم بالغُلُوِّ وبِدعةِ الخَوارِجِ ونَشْرِ الفِتنةِ. انتهى. وقالَ الشيخُ سالم الطويل في فيديو بعنوان (قولُ العامَّة "الإيمانُ في القَلْبِ" مِن رَواسِبِ مَذهَبِ المُرجِئةِ الباطلِ): ضَلَّ المُرجِئةُ ضَلَالًا مُبِينًا عندما قالوا {أَنَّ الأعمالَ ليستْ مِنَ الإيمانِ}، وعندهم أنَّ الإنسانَ مُمْكِنٌ أنْ يكونَ مُؤمِنًا ولو تَرَكَ جميعَ الأعمالِ ولا يَعمَلُ للهِ أَبَدًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطويل-: كيفَ يُقالُ بأنَّ العَمَلَ، اُتْرُكْه وتكونُ مُؤمِنًا؟!، هذا مِنَ الضَّلَالَ المُبِينِ الذي بَثَّه [أَيِ المرجئةُ] في الأُمَّةِ، حتى وُجِدَ طَبَقةٌ كبيرةٌ مِن عامَّةِ المسلمِين مَن يَدَعُ حتى الصلاةَ التي هي عَمُودُ الإسلامِ، فيَهْدِمَ دِينَه ويَهْدِمَ إسلامَه ويقولَ {الإيمانُ بالقَلْبِ}. انتهى باختصار. وجاءَ في كتابِ (المنتقى مِن فتاوى الشيخ صالح الفوزان)، أنَّ الشيخَ سُئل: ما قَولُكم لِمَن إذا قِيلَ له {اتَّقِ اللهَ في نَفْسِك مِن بعضِ المَعاصِي، مِثْلِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وشُرْبِ الدُّخَانِ وإسبالِ الثِّيَابِ}، يقولُ {الإيمانُ في القَلْبِ، وليس الإيمانُ في تَربِيَةِ اللِّحْيَةِ وتَرْكِ الدُّخَانِ ولا في إسبالِ الثِّيَابِ}، ويقولُ {إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أَجْسامِكم -يَقْصِدُ اللِّحْيَةَ والدُّخَانَ وإسبالَ الثِّيَابِ- ولكنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكم}، أَرجُو مِن فَضِيلَتِكم الإجابةَ لِيَعلَمَ مَن يقولُ {إنَّ الإيمانَ في القَلْبِ}؟. فأجابَ الشيخُ: هذه الكَلِمةُ كثيرًا ما يَقُولُها بعضُ الجُهَّالِ أو المُغالِطِين، ولا يَكْفِي الإيمانُ بالقَلْبِ دُونَ نُطْقٍ باللِّسانِ وعَمَلٍ بالجَوَارِحِ، لأنَّ هذا مَذهَبُ المُرجِئةِ مِنَ الجَهْمِيَّةِ وغيرِهم، وهو مَذهَبٌ باطلٌ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ الإيمانِ بالقَلْبِ والقَولِ باللِّسانِ والعَمَلِ بالجَوَارِحِ. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ [فيما رَوَاهُ عبدُالله بن أحمدَ في (السُّنَّة)] عَنِ الإِرْجَاءِ لَمَّا سُئِلَ، قَالَ {يَقُولُونَ (الإِيمَانُ قَوْلٌ)، وَنَحْنُ نَقُولُ (الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ)، وَالْمُرْجِئَةُ أَوْجَبُوا الْجَنَّةَ لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُصِرًّا بِقَلْبِهِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ، وَسَمَّوْا تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَنْبًا بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الْمَحَارِمِ، وَلَيْسَ بِسَوَاءٍ، لِأنَّ رُكُوبَ الْمَحَارِمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ مَعْصِيَةٌ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ وَلَا عُذْرٍ [هُوَ] كُفْرٌ}، هذا كَلامٌ مُهِمٌّ جِدًّا، يَعْنِي عند أَهْلِ السُّنَّةِ في [أَيْ يُوجَدُ] فَرْقٌ بين فِعْلِ الواجِبِ وتَرْكِ المُحَرَّمِ، لو سَوَّيْتَ [أَيْ عَمِلَتَ] الواجِباتِ وارتَكَبْتَ مُحَرَّماتٍ أنتَ [حينئذٍ] مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، لكنْ لو ما سَوَّيْتَ واجِباتٍ أَصْلًا، لا تكونُ مُؤمِنًا أَصْلًا ولو تَرَكْتَ كُلَّ المُحَرَّماتِ، يَعْنِي لو واحِدٌ قالَ {أنا ما أُصَلِّي ولا أُزَكِّي ولا أَصُومُ ولا أَحُجُّ، ولا أَصِلُ رَحِمًا، ولا آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَنْهَى عنِ المُنكَرِ، ولا أَتَعَلَّمُ دِينِ اللهِ ولا أُعَلِّمُه ولا أَعْمَلُ به، ولا...، بَسْ [أَيْ ولكنْ] أنا ما أَزْنِي ولا أَشْرَبُ الخَمْرَ ولا أَكْذِبُ ولا أَرْشُو ولا أَسرِقُ ولا...}، نقولُ {لَسْتَ مُؤمِنًا، لَسْتَ مُؤمِنًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وأهلُ السُّنَّةِ يَحكُمون على تاركِ العَمَلِ بالكُلِّيَّةِ، يَحكُمون عليه بالكُفرِ، وتَرْكُه لِلعَمَلِ بالكُلِّيَّةِ دَلِيلٌ على أنَّه كَذَّابٌ في قَولِه {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، لو كانَ صادِقًا لظَهَرَ آثارُها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: [جاءَ] في فتوى لِلَّجْنَةِ الدائمةِ [المُكَوَّنةِ مِنَ الشيوخِ بكر أبي زيد وصالح الفوزان وعبدالله بن غديان وعبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ] {المُرجِئةُ يُخْرِجون الأعمالَ عن مُسَمَّى الإيمانِ، ويقولون (الإيمانُ هو التَّصدِيقُ بالقَلْبِ)، أو (التَّصدِيقُ بالقَلْبِ والنُّطْقُ باللِّسانِ فَقَطْ)، وأَمَّا الأعمالُ فإنَّها عندهم شَرطُ كَمَالٍ} [هُنَا يَقْطَعُ الشَّيخُ المنجدُ كلامَ اللَّجْنةِ الدائمةِ للبُحوثِ العِلمِيَّةِ والإفتاءِ، لِيُعَلِّقَ عليه]؛ ما الفَرْقُ بين شَرطِ الصِّحَّةِ وشَرطِ الكَمالِ؟؛ شَرطُ الصِّحَّةِ إذا فُقِدَ انْتَفَى [أَيِ الإيمانُ] كُلُّه، لَمَّا يقولُ {هذا شَرطٌ في صِحَّةِ الإيمانِ}، مَعْناه إذا انْتَفَى [أَيِ الشَّرطُ] انْتَفَى الإيمانُ؛ لكنْ لو قُلْتَ {هذا مِن كَمَالِ الإيمانِ}، لَوِ انْتَفَى [أَيِ الشَّرطُ] ما انْتَفَى أَصْلُ الإيمانِ، لكنْ نَقَصَ الإيمانُ، نَقَصَ لكنْ ما انْتَفَى؛ المُرجِئةُ يَقولون عنِ الأعمالِ أنَّها شَرطُ كَمَالٍ [قالَ الشَّيخُ صالح الفوزان في (التَّعلِيقُ المُختَصَرُ على القَصِيدةِ النُّونِيَّةِ): والمُرجِئةُ أربَعُ طَوائفَ، وهناك فِرقةٌ خامِسةٌ ظَهَرَتِ الآنَ وَهُمُ الذِين يَقولون {إنَّ الأعمالَ شَرطٌ في كَمالِ الإيمانِ الواجِبِ أو الكَمالِ المُستَحَبِّ} [قُلْتُ: والحَقُّ أنَّ الأعمالَ شَرطٌ في أصلِ الإيمانِ]. انتهى باختصار. وجاءَ في كِتابِ (رَفْعُ اللائمةِ عن فَتْوَى اللَّجنةِ الدائمةِ، بتقديمِ الشيوخِ ابنِ جبرين "عضوِ الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء"، وصالح الفوزان "عضوِ هيئةِ كِبار العلماءِ، وعضوِ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ"، وعبدِالعزيز الراجحي "الأستاذِ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة"، وسعدِ بنِ عبدالله الحميد "الأستاذِ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض"، والشيخِ المُحَدِّثِ عبدِالله السعد) أنَّ الشيخَ اِبْنَ باز سُئلَ عَمَّنْ يَقولُ {إنَّ العَمَلَ داخِلٌ في الإيمانِ، لَكِنَّه شَرْطُ كَمالِه}؛ فَأجابَ الشيخُ: لا، لا، ما هو بِشَرْطِ كَمالٍ، هو جُزْءٌ مِنَ الإيمانِ، هذا قَولُ المُرجِئةِ. انتهى. وقالَ الشيخُ ربيع المدخلي (رئيسُ قسمِ السُّنَّةِ بالدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في مَقالةٍ بِعُنوانِ (مُتَعالِمٌ مَغرورٌ يَرمِي جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ وأئمَّتَهم بِالإرجاءِ) على مَوقِعِه في هذا الرابط: فَأهلُ السُّنَّةِ يَقولون {إنَّ العَمَلَ مِنَ الإيمانِ}، ولا يَقولون {شَرْطُ كَمالٍ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: إن أهلَ السُّنَّةِ لا يَحْصُرُون الكُفرَ في الجُحودِ والتَّكذِيبِ دُونَ القَولِ والعَمَلِ [قَالَ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ (ت756هـ) فِي (فَتَاوَى السُّبْكِيِّ): التَّكْفِيرُ حُكْمٌ شَرْعِيٌ،ّ سَبَبُهُ جَحْدُ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوِ الْوَحْدَانِيَّةِ أَوِ الرِّسَالَةِ، أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَكَمَ الشَّارِعُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَحْدًا. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: ونَدِينُ اللهَ بِأنَّ الكُفرَ يَكونُ بِالجُحودِ بِالقَلبِ، وبِالقَولِ مِثلَ مَن يَسُبُّ اللهَ، أو يَسُبُّ الرَّسولَ أو غَيْرَه مِنَ الأنبِياءِ، أو يَسُبُّ الدِّينَ، أو يُكَذِّبُ بِآيَةٍ مِنَ القُرآنِ، ونَحوِ ذلك مِمَّا يَكفُرُ به القائلُ بِلِسانِه، وأنَّه [أَيِ الكُفرَ] يَكونُ بِالفِعْلِ (بِالجَوارِحِ) كَمَن يَسجُدُ لِلصَّنَمِ، أو يَمْتَهِنُ المُصْحَفَ بِرِجْلِه، أو يَتَعَمَّدُ الصَّلاةَ لِغَيرِ القِبلةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: لِلإيمانِ ثَلاثةُ أركانٍ، الاعتِقادُ بِالقَلبِ، والقَولُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بِالجَوارِحِ. انتهى باختصار. وجاءَ في كِتابِ (الإجاباتُ المُهِمَّةُ في المَشاكِلِ المُدْلَهِمَّةُ) لِلشيخِ صالح الفوزان، أنَّ الشيخَ سُئِلَ {ما حُكْمُ مَن تَرك جَمِيعَ العَمَلَ الظاهِرَ بالكُلِّيَّةِ لَكِنَّه نَطَقَ بِالشَّهادَتَين ويُقِرُّ بِالفَرائضِ لَكِنَّه لا يَعمَلُ شَيئًا الْبَتَّةَ، فَهَلْ هذا مُسلِمٌ أَمْ لا؟، عِلمًا بِأنَّ ليس له عُذرٌ شَرعِيٌّ يَمنَعُه مِنَ القِيامِ بِتلك الفَرائضِ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: هذا لا يَكونُ مُؤمِنًا، مَن كانَ يَعتَقِدُ بِقَلبِه ويُقِرُّ بِلِسانِه ولَكِنَّه لا يَعمَلُ بِجَوارِحِه (عَطَّلَ الأعمالَ كُلَّها) مِن غَيرِ عُذرٍ، هذا ليس بِمُؤمِنٍ، لِأنَّ الإيمانَ -كَما ذَكَرْنا وكَما عَرَّفَه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ- قَولٌ بِاللِّسانِ واعتِقادٌ بِالقَلبِ وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ، لا يَحصُلُ الإيمانُ إلَّا بِمَجموعِ هذه الأُمورِ، فَمَن تَرَكَ واحِدًا مِنها فَإنَّه لا يَكونُ مُؤمِنًا. انتهى. وقالَ الشيخُ عصامُ بنُ عبدالله السناني (أستاذُ الحديثِ بكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة القصيم) في (أقوالُ ذَوِي العِرفانِ في أنَّ أعمالَ الجَوارِحِ داخِلةٌ في مُسَمَّى "الإيمانِ"، بِمُراجَعةِ الشيخِ صالح الفوزان): الشَّافِعِيُّ رَحِمَه اللهُ قالَ {وَكَانَ الإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، [وَ]مَن بَعْدَهم مِمَّنْ أَدْرَكْنَاهُمْ، أنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ، لَا يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِالآخَرِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السناني-: الشَّيخُ اِبنُ باز رَحِمَه اللهُ قالَ {العَمَلُ عند الجَمِيعِ شَرطُ صِحَّةٍ، جِنسُ العَمَلِ لا بُدَّ منه لِصِحَّةِ الإيمانِ عند السَّلَفِ جَمِيعًا، لِهذا، الإيمانُ عندهم قَولٌ وعَمَلٌ واعتِقادٌ، لا يَصِحُّ إلَّا بها مُجتَمِعةً}. انتهى باختصار. وجاءَ في المَوسوعةِ العَقَدِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف) تحت عنوان (إجماعُ أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ العَمَلَ جُزءٌ لا يصِحُّ الإيمانُ إلَّا به): حَكَى الإجماعَ على أنَّ العَمَلَ جُزءٌ لا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا بِه غَيرُ واحِدٍ مِن عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ، وبَيانُ ذلك فِيما يَلِي؛ (أ)قالَ الشَّافعيُّ {كانَ الإجماعُ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعِين، ومَن بَعْدَهم مِمَّن أدرَكْناهم، يَقولون (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ، لا يُجزِئُ واحِدٌ مِنَ الثَّلاثةِ إلَّا بِالآخَرِ)}؛ (ب)قالَ الحُمَيْدِيُّ [ت219هـ] {أُخْبِرْتُ أَنَّ قومًا يَقولون (إِنَّ مَن أقَرَّ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحَجِّ، ولم يَفعَلْ مِن ذلك شَيئًا حتى يَمُوتَ، أو يُصَلِّي مُستَدبِرَ القِبلةِ حتى يَمُوتَ، فَهو مُؤمِنٌ ما لم يَكُنْ جاحِدًا، إذا كانَ يُقِرُّ بِالفَرائِضِ واستِقبالِ القِبلةِ)!، فَقُلْتُ، هذا الكُفْرُ الصُّراحُ، وخِلافُ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفِعْلِ المُسْلِمِين}؛ (ت)قالَ الآجُرِّيُّ [ت360هـ] {بَلْ نَقولُ -والحَمدُ لِلَّهِ- قَولًا يُوافِقُ الكِتابَ والسُّنَّةَ وعُلَماءَ المُسلِمِين الذِين لا يُستَوحَشُ مِن ذِكْرِهم، وقد تَقَدَّم ذِكْرُنا لهم، إنَّ الإيمانَ مَعرِفةٌ بِالقَلبِ تَصدِيقًا يَقِينًا، وقَولٌ بِاللِّسانِ، وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ، ولا يَكونُ مُؤمِنًا إلَّا بِهذه الثَّلاثةِ، لا يُجزِئُ بَعْضُها عن بَعضٍ}، وقالَ أيضًا {اِعلَموا -رَحِمَنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّ الذي عليه عُلَماءُ المُسلِمِين، أنَّ الإيمانَ واجِبٌ على جَمِيعِ الخَلْقِ، وهو تَصدِيقٌ بِالقَلبِ، وإقرارٌ بِاللِّسانِ، وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ، ثمَّ اِعلَموا أنَّه لا تُجزِئُ المَعرِفةُ بِالقَلبِ والتَّصدِيقُ إلَّا أنْ يَكونَ معه الإيمانُ بِاللِّسانِ نُطقًا، ولا تُجزِئُ مَعرِفةٌ بِالقَلبِ ونُطقُ اللِّسانِ حتى يَكونَ عَمَلُ الجَوارِحِ، فَإذا كَمَلَتْ فيه هذه الخِصالُ الثَّلاثُ كانَ مُؤمِنًا، دَلَّ على ذلك القُرآنُ والسُّنَّةُ وقَولُ عُلَماءِ المُسلِمِينَ}؛ (ث)قالَ اِبْنُ بَطَّةَ الْعُكْبَرِيُّ [ت387هـ] {الإيمانِ تَصدِيقٌ بِالقَلْبِ، وإقرارٌ بِاللِّسانِ، وعَمَلٌ بِالجَوارِحِ والحَرَكاتِ، لا يَكونُ العَبدُ مُؤمِنًا إلَّا بِهذه الثَّلاثِ}؛ (ج)قالَ اِبنُ تيميَّةَ {إنَّ الإيمانَ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ قَولٌ وعَمَلٌ، كما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وأجمَعَ عليه السَّلَفُ، فَإذا خَلا العَبدُ عنِ العَمَلِ بِالكُلِّيَّةِ لم يَكُنْ مُؤمِنًا، والقَولُ الذي يَصِيرُ به مُؤمِنًا قَولٌ مَخصوصٌ وهو الشَّهادَتانِ؛ وإنَّ حَقِيقةَ الدِّينِ هو الطَّاعةُ والانقِيادُ، وذلك إنَّما يَتِمُّ بِالفِعلِ لا بِالقَولِ فَقَطْ، فَمَن لم يَفعَلْ لِلَّهِ شَيئًا فَما دانَ لِلَّهِ دِينًا، ومَن لا دِينَ له فهو كافِرٌ}؛ (ح)قالَ مُحمَّدُ بنُ عبدِالوَهَّابِ {لا خِلافَ بَيْنَ الأُمَّةِ أنَّ التَّوحِيدَ لا بُدَّ أنْ يَكونَ بِالقَلْبِ، الذي هو العِلمُ، واللِّسانِ الذي هو القَولُ، والعَمَلِ الذي هو تَنفِيذُ الأَوامِرِ والنَّواهِي، فَإنْ أَخَلَّ بِشَيءٍ مِن هذا لَم يَكُنِ الرَّجُلُ مُسلِمًا؛ فَإنْ أَقَرَّ بِالتَّوحِيدِ، ولم يَعمَلْ به، فَهو كافِرٌ مُعانِدٌ، كفِرعَونَ وإبليسَ}، وقالَ أيضًا {اِعلَمْ رَحِمَك اللهُ أنَّ دِينَ اللهِ يَكونُ على القَلْبِ بِالاعتِقادِ وبِالحُبِّ والبُغضِ، ويَكونُ على اللِّسانِ بِالنُّطقِ وتَرْكِ النُّطقِ بِالكُفْرِ، ويَكونُ على الجَوارِحِ بِفِعلِ أركانِ الإسلامِ وتَرْكِ الأفعالِ التي تُكَفِّرُ، فَإذا اِختَلَّتْ واحِدةٌ مِن هذه الثَّلاثِ كَفَرَ وارتَدَّ}؛ (خ)جاء في كِتابِ (التَّوضِيحُ عن تَوحِيدِ الخَلَّاقِ [لِلشَّيخِ سليمان بْنِ عبدِالله بن محمد بن عبدالوهاب، الْمُتَوَفَّى عامَ 1233هـ]) {فَأهلُ السُّنَّةِ مُجمِعون على أنَّه مَتَى زالَ عَمَلُ القَلْبِ فَقَطْ، أو هو مع عَمَلِ الجَوارحِ، زالَ الإيمانُ بِكُلِّيَّتِه؛ وإن وُجِدَ مُجَرَّدُ التَّصدِيقِ فَلا يَنفَعُ مُجَرَّدًا عن عَمَلِ القَلْبِ والجَوارِحِ مَعًا أو أحَدِهما}؛ (د)قالَ عبدُالرَّحمنِ بنُ حَسَن [بن محمد بن عبدالوهاب] {فَلا يَنفَعُ القَولُ والتَّصدِيقُ بِدونِ العَمَلِ، فَلا يَصدُقُ الإيمانُ الشَّرعيُّ على الإنسانِ إلَّا بِاجتِماعِ الثَّلاثةِ، التَّصدِيقُ بِالقَلْبِ وعَمَلُه، والقَولُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بالأركانِ، وهذا قَولُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ سَلَفًا وخَلَفًا}؛ (ذ)قالَ عبدُاللَّطيفِ بنُ عبدالرَّحْمنِ بنِ حَسَن [بن محمد بن عبدالوهاب] {ولا شَكَّ أنَّ العِلمَ والقَولَ والعَمَلَ مُشتَرَطٌ في صِحَّةِ الإتيانِ بِهما [أَيْ بِالشَّهادَتَين]، وهذا لا يَخفَى على أحَدٍ شَمَّ رائحةَ العِلْمِ}... ثم جاءَ -أَيْ في الموسوعةِ-: فالتَّوحِيدُ يَقومُ على عِبادةِ اللهِ وَحْدَه بِالقَلْبِ واللِّسانِ والجَوارِحِ، بَلْ حَقِيقةُ الدِّينِ هو الطَّاعةُ والانقِيادُ، ولا يَتِمُّ هذا إلَّا بِالعَمَلِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بَقاءُ التَّوحِيدِ في قَلْبِ مَن عاشَ دَهْرَه لا يَسجُدُ لِلَّهِ سَجْدةً ولا يُؤَدِّي له فَرضًا ولا نَفْلًا؟!؛ وقد بانَ مِن خِلالِ النُّقولاتِ السَّابقةِ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ مُجمِعون على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، أو قَولٌ بِاللِّسانِ واعتِقادٌ بِالجَنانِ وعَمَلٌ بِالجَوارحِ والأركانِ، وأنَّ هذه الثَّلاثةَ لا يُجزِئُ بَعْضُها عن بَعضٍ، ولا يَنفَعُ بَعْضُها دُونَ بَعَضٍ، وأنَّ العَمَلَ تَصدِيقٌ لِلقَولِ، فَمَن لم يُصَدِّقِ القَولَ بِعَمَلِه كانَ مُكَذِّبًا. انتهى باختصار. وفي شَرْحِ الشيخِ عبدِالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) لِكِتابِ (الإيمان، لأبي عبيد القاسم بن سلام)، قالَ الشيخُ: الذي يَدَّعِي أنَّه مُؤْمِنٌ بِقَلبِه، فَمِن لَوازِمِ ذلك أنْ يَعمَلَ، فإذا لم يَعمَلْ ما صَحَّ إيمانُه. انتهى. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان في (دُروسٌ في شَرحِ نَواقِضِ الإسلامِ): فإذا كانَ لا يُصَلِّي، ولا يَصومُ، ولا يُؤَدِّي الزَّكاةَ، ولا يَحُجُّ، ولا يُؤَدِّي الواجِباتِ، ولا يَتَجِنَّبُ المُحرَّماتِ، فَهذا لا رَغبةَ له في العَمَلِ فَهذا يَكفُرُ. انتهى. وجاءَ في كِتابِ (زَهرةُ البَساتِينِ مِن مَواقِفِ العُلَماءِ والرَّبَّانِيِّين) لِلشَّيخِ سيد بنِ حسين العفاني، أنَّ الشيخَ ابنُ عثيمين سُئِلَ {يَقولُ البَعضُ (إذا تَرَكَ عَمَلَ الجَوارِحِ بِالكُلِّيَّةِ خَرَجَ مِن الإيمانِ، ولَكِنْ لا يَقتَضِي [ذلك] عَدَمَ اِنتِفاعِه بِأصلِ الإيمانِ والشَّهادَتَين، بَلْ يَنتَفِعُ بِهما، فَما قَولُ فَضِيلَتِكم؟}؛ فأجابَ الشيخُ: هذا ليس بِصَوابٍ، إنَّه لن يَنتَفِعَ بِإيمانِه مع تَرْكِ الصَّلاةِ التي دَلَّتِ النُّصوصُ على كُفرِ تارِكِها. انتهى باختصار. وجاءَ في كِتابِ (زَهرةُ البَساتِينِ) أيضًا أنَّ الشيخَ ابنَ عثيمين سُئلَ {هَلْ أعمالُ الجَوارِحِ شَرطٌ في أصلِ الإيمانِ وصِحَّتِه، أَمْ أنَّها شَرطٌ في كَمالِ الإيمانِ الواجِبِ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: تَختَلِفُ، فَتارِكُ الصَّلاةِ مَثَلًا كافِرٌ إذْ فِعْلُ الصَّلاةِ مِن لَوازِمِ الإيمانِ. انتهى. وسُئِلَ موقعُ الإسلام سؤال وجواب الذي يُشْرِفُ عليه الشيخُ محمد صالح المنجد في هذا الرابط {بَعضُ الناسِ يَرَوْنَ أَنَّ أعمالَ الجَوارِحِ شَرطُ كَمالٍ لِلإيمانِ، ولَيسَتْ مِن أركانِه الأصلِيَّةِ، أو بَتَعبِيرٍ آخَرَ (لَيسَتْ شَرطًا في صِحَّتِه)، وقد كَثُرَ اِختِلافُ الناسِ حَولَ هذه المَسأَلةِ، فَنَرجو تَبيِينَ مَدَى صِحَّةِ هذا الكَلامِ؟}؛ فأجابَ المَوقِعُ: الذي دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ وأجمَعَ عليه السَّلَفُ الصالِحُ أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، وأنَّه لا إيمانَ إلَّا بِعَمَلٍ، كَما أنَّه لا إيمانَ إلا بِقَولٍ، فَلا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا بِاجتِماعِهما، وهذه مَسأَلةٌ مَعلومةٌ عند أهلِ السُّنَّةِ، وأمَّا القَولُ بِأنَّ العَمَلَ شَرطُ كَمالٍ فَهذا قد صَرَّحَ به الأشاعِرةُ ونَحوُهم، ومَعلومٌ أنَّ مَقالةَ [أَيْ مَذهَبَ] الأشاعِرةِ في الإيمانِ هي إحدَى مَقالاتِ المُرجِئةِ... ثم قالَ -أَيِ المَوقِعُ-: وقالَ شيخُ الإسلامِ اِبنُ تيميةَ رَحِمَه اللهُ [في (مَجموعُ الفَتَاوَى)] {الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إيمَانًا ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ، وَيَعِيشُ دَهْرَهُ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، وَلَا يَصُومُ [مِنْ] رَمَضَانَ، وَلَا يُؤَدِّي لِلَّهِ زَكَاةً، وَلَا يَحُجُّ إلَى بَيْتِهِ، فَهَذَا مُمْتَنِعٌ، وَلَا يَصْدُرُ هَذَا إلَّا مَعَ نِفَاقٍ فِي الْقَلْبِ وَزَنْدَقَةٍ لَا مَعَ إيمَانٍ صَحِيحٍ}... ثم قالَ -أَيِ المَوقِعُ-: وكَلامُ أهلِ السُّنَّةِ في هذه المَسأَلةِ مُستَفِيضٌ، ومِنه ما أفتَتْ به اللَّجنةُ الدائمةُ [لِلبُحوثِ العِلمِيَّةِ والإفتاءِ] في التَّحذِيرِ مِن بَعضِ الكُتُبِ التي تَبَنَّتْ مَقالةِ {أنَّ عَمَلَ الجَوارِحِ شَرطُ كَمالٍ لِلإيمانِ}، وصَرَّحَتِ اللَّجنةُ أنَّ هذا مَذهَبُ المُرجِئةِ؛ فَعَمَلُ الجَوارِحِ عند أهلِ السُّنَّةِ رُكنٌ وجُزءٌ مِنَ الإيمانِ، لا يَصِحُّ الإيمانُ بِدُونِه، وذِهابُه يَعنِي ذِهابَ عَمَلِ القَلبِ، لِما بينهما مِنَ التَّلازُمِ، ومَن ظَنَّ أنَّه يَقومُ بِالقَلبِ إيمانٌ صَحِيحٌ، دُونَ ما يَقتَضِيه مِن عَمَلِ الجَوارِحِ، مع العِلْمِ به والقُدرةِ على أدائه، فَقَدْ تَصَوَّرَ الأمرَ المُمتَنِعَ، ونَفَى التَّلازُمَ بين الظاهِرِ والباطِنِ، وقالَ بِقَولِ المُرجِئةِ المَذمومِ. انتهى. وفي فيديو لِلشيخِ صالح العبود (رَئيسُ الجامِعةِ الإسلامِيَّةِ بِالمَدِينةِ المُنَوَّرةِ) بِعُنوانِ (رَدُّ الشيخِ صالح العبود على مَقالِ "مُتَعالِمٌ مَغرورٌ")، قالَ الشيخُ: أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يَعتَقِدون أنَّ الإيمانَ لا يُسَمَّى إيمانًا حَقِيقةً إلَّا إذا تَوَفَّرَتْ فيه الشُّروطُ الثَّلاثةُ (اِعتِقادٌ بِالقَلبِ ونُطقٌ بِاللِّسانِ وعَمَلٌ بِالأركانِ)، هذه كُلٌّ مِنها رُكْنٌ لِلإيمانِ، إذا سَقَطَ رُكنٌ لا يُسَمَّى صاحِبُه مُؤمِنًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العبود-: مِنِ اِعتَقَدَ ونَطَقَ بِلِسانِه ولم يَعمَلْ، إنَّما يَعتَبِرُه بَعضُ الشُّذَّاذِ أنَّه مُسلِمٌ، وهو ليس مُسلِمًا؛ العَمَلُ رُكْنٌ والنُّطقُ رُكْنُ والاعتِقادُ رُكْنُ، لا كَما يَقولُه المُرجِئةُ والأشعَرِيَّةُ، اِعتِقادُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ المُسَمَّى الشَّرعِيَّ لِلإيمانِ هو ما تَكَوَّنَ مِنَ الأركانِ الثَّلاثةِ (اِعتِقادُ الحَقِّ بِالقَلبِ، والنُّطقُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بِمُقتَضاه بِالأركانِ). انتهى باختصار. وفي نَفْسِ الفيديو المَذكورِ سُئِلَ الشيخُ صالح العبود {هُنَالِكَ مَن يَقولُ أنَّ السَّلَفَ لهم قَولٌ آخَرُ، وهو عَدَمُ كُفرِ تارِكِ عَمَلِ الجَوارِحِ بِالكُلِّيَّةِ، فَهَلْ هذا القَولُ صَحِيحٌ؟}؛ فَأجابَ الشيخُ: سَلَفُه الأشاعِرةُ، الذِين يَقولون {إنَّ العَمَلَ شَرطُ كَمالٍ}. انتهى. وفي نَفْسِ الفيديو المَذكورِ أيضًا سُئِلَ الشيخُ صالح العبود {القَولُ بِأَنَّ تارِكَ عَمَلِ الجَوارِحِ بِالكُلِّيَّةِ لا يَكفُرُ، هَلْ هو مِن أقوالِ السَّلَفِ أمْ مِن أقوالِ المُرجِئةِ؟}؛ فَأجابَ الشيخُ: هو مِن أقوالِ السَّلَفِ الفاسِدِ، ليس مِن أقوالِ السَّلَفِ الصالِحِ، ليس مِن أقوالِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، هذا اِعتِقادٌ فاسِدٌ، اِعتِقادُ الضُّلَّالِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. انتهى باختصار. وفي نَفْسِ الفيديو المَذكورِ أيضًا سُئِلَ الشيخُ صالح العبود {اِنتَشَرَ بين الناسِ مَقالٌ عُنوانُه "مُتَعالِمٌ مَغرورٌ يَرمِي جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ وأئمَّتِهم بِالإرجاءِ"، اِنتَصَرَ فيه صاحِبُه [وهو الشيخُ ربيع المدخلي] لِلقَولِ بِعَدَمِ كُفرِ تارِكِ العَمَلِ بِالكُلِّيَّةِ، مُستَدِلًّا بِأحادِيثِ الشَّفاعةِ و(أنَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)، فَما رَأْيُ فَضِيلَتِكم في ذلك؟}؛ فَأجابَ الشيخُ: المَعروفُ عند عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ مُسَمَّى (الإيمانِ الشَّرعِيِّ) لا يُطلَقُ إلَّا على الاعتِقادِ والقَولِ والعَمَلِ، الاعتِقادِ بِالقَلبِ والنُّطقِ بِاللِّسانِ والعَمَلِ بِالجَوارِحِ، هذه أركانٌ، إذا تَخَلَّفَ رُكنٌ مِنها لا يُسَمَّى مَن زَعَمَ أنَّه التَزَمَ رُكنَين أو رُكنًا، لا يُسَمَّى مُؤمِنًا، فَهذا هو الذي أَعرِفُه وأَعتَقِدُه وعليه العُلَماءُ المُحَقِّقون مِثلُ شَيخِ الإسلامِ اِبنِ تيميةَ وغَيرِه، وعُلماؤنا أيضًا (هَيئةُ كِبارِ العُلَماءِ) هذا الذي نَستَفِيدُه مِن شُروحِهم ومِمَّا سَمِعْناه منهم، والشيخُ عبدُالعزيز بن باز رَحِمَه اللهُ وهَيئةُ كِبارِ العُلَماءِ الأحياءُ المَوجودون كُلُّهم على هذا المُعتَقَدِ (مُعتَقَدِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ)؛ أمَّا الذي يَقولُ {إنَّ مَن تَرَكَ العَمَلَ بِالكُلِّيَّةِ لا يُحكَمُ بِكُفرِه} فَهذا مُخالِفٌ لِلنُّصوصِ؛ والذي يَستَدِلُّ بِأحادِيثِ الشَّفاعةِ هو اِستَدَلَّ اِستِدلالًا خاطِئًا، مِثلَ {أنَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ}، نَعَمْ، لم يَكُنْ لهم مَجَالٌ لِعَمَلِ ما تَقتَضِيه عَقِيدَتُهم، الذِين يُخرِجُهم اللهُ مِنَ النارِ لا بُدَّ أنْ يَكونوا حَقَّقوا الإيمانَ في قُلوبِهم ولم تُمْكِنْهم الفُرصةُ لِعَمَلِ ما يَقتَضِيه هذا الإيمانُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العبود-: إنَّ صاحِبَ المَقالِ [وهو الشيخُ ربيع المدخلي] لا تُؤخَذُ العَقِيدةُ عن مِثْلِه، فَهذا في الحَقِيقةِ جاهِلٌ جَهلًا مُطْبِقًا، ومِثلُه لا يُؤخَذُ عنه الاعتِقادُ، وإنَّما يُؤخَذُ الاعتِقادُ عنِ الأئمَّةِ المُجمَعِ على هِدايَتِهم ودِرايَتِهم كالإمامِ مالِكٍ والإمامِ الشَّافِعِيِّ والإمامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العبود-: هذا [أَيْ كَلامُ الشيخِ ربيع المدخلي] اِشتَملَ على مُغالَطاتٍ واضِحةٍ، ولا شَكَّ أنَّ كَلامَه كَلامٌ خَطِيرٌ، كَلامُه مُشتَمِلٌ على مُغالَطاتٍ ودَعاوٍ ليس له عليها دَلِيلٌ، هذا المَقالُ [يَعنِي مَقالَ الشيخِ ربيع المدخلي] مُتَضارِبٌ مُتَناقِضٌ مُغالِطٌ، هذا مَقالٌ لا شَكَّ أنَّني أَشمَئِزُّ مِنه، وفيه رائحةُ الإرجاءِ الخَبِيثِ، وأَسأَلُ اللهَ أنْ يَهدِي ضالَّ المُسلِمِين وأنْ يَرُدَّ شارِدَهم إلى رُشدِه. انتهى باختصار]، هذا عند بَعضِهم، وبَعضُهم يَقولُ {أَبَدًا، ما لها عَلَاقةٌ أَصْلًا بِالإيمانِ}؛ قالَتِ اللَّجْنةُ [هنا يَستَكمِلُ الشَّيخُ نَقْلَ فَتْوَى اللَّجْنةِ] {فمَن صَدَّقَ بقَلْبِه ونَطَقَ بلِسانِه فهو مُؤمِنٌ عندهم، ولو فَعَلَ ما فَعَلَ مِن تَرْكِ الواجِباتِ وفِعْلِ المُحرَّماتِ، ويَستَحِقُّ دُخولَ الجَنَّةِ ولو لم يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ} [هنا يَقْطَعُ الشَّيخُ المنجدُ كلامَ اللَّجْنةِ، لِيُعَلِّقَ عليه]؛ وهذه مُصِيبةٌ على سُلوك الأفرادِ، لو نُشِرَ هذا المذهبُ، أَنَّهُ أنتَ تَستَحِقُّ الجَنَّةَ لو ما عَمِلتَ خَيرًا قَطُّ، لو ما عَمِلتَ شَيئًا مِنَ الدِّينِ، بَسْ [أَيْ فَقَطْ] أنَّك مُصَدِّقٌ بوُجودِ اللهِ، مُعتَرِفٌ أَنَّه في [أَيْ يُوجَدُ] اللهُ، خَلَاصٌ [أَيْ يَكْفِيك ذلك]، أنتَ في الجَنَّةِ، لماذا [إِذَنْ] يَقومُ الناسُ لصلاةِ الفَجرِ مِنَ النَّومِ؟، لماذا يُقاوِمون أَنْفُسَهم ويُخرِجون زَكَاةً؟، لماذا يَجُوعون في نَهَارِ رَمَضَانَ؟، لماذا يُقاوِمُ شَهْوَتَه في الزِّنَى وفي الْخَمْرِ؟، ما الذي أَحْسَنُ مِن ذلك بالنِّسبَةِ للذي يُرِيدُ يَتَّبِعُ هَوَاه؟!، ما في [أَيْ ما يُوجَدُ] أَحْسَنُ له مِن دِينِ المُرجِئةِ، تَخَيَّلْ لَمَّا يَنتَشِرُ هذا في الأُمَّةِ؛ طَيِّبٌ، الكُفرُ عندكم يا أَيُّها المُرجِئةُ إِيشْ هو؟، يقولون {الكُفرُ [هو] التَّكذِيبُ، والاستحلالُ القَلْبِيُّ، بَسْ [أَيْ فَقَطْ]}، يَعْنِي لو واحِدٌ تاركٌ كُلَّ الأعمالِ، بَسْ [أَيْ ولكِنَّه] يقولُ {أَنَا مُقِرٌّ يا جَماعةُ، أَنَا ما أَجْحَدُ}، فيَقولَ له المُرجِئُ {أنتَ مُؤمِنٌ}، فَنَقُولَ له {مَتَى يَكْفُرُ؟، ما عندكم شَيْءٌ اسْمُه (كُفْرٌ) أبدًا؟!}، فيَقولَ {لا، في [أَيْ يُوجَدُ] عندنا، اللِّي يَستَحِلُّ الحَرامَ، ويَجْحَدُ الواجِباتِ، هذا هو الكافرُ بَسْ [أَيْ فَقَطْ]}؛ قالتِ اللَّجْنةُ في جَوَابِها [هنا يَستَكمِلُ الشَّيخُ نَقْلَ فَتْوَى اللَّجْنةِ] {ولا شَكَّ أنَّ هذا قَولٌ باطِلٌ وضَلالٌ مُبِينٌ، مُخالِفٌ للكِتَابِ والسُّنَّةِ وما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ سَلَفًا وخَلَفًا، وأنَّ هذا يَفْتَحُ بابًا لأَهْلِ الشَّرِّ والفَسادِ للانْحِلالِ مِنَ الدِّينِ، وعَدَمِ التَّقَيُّدِ بالأَوامرِ والنَّواهِي، وعَدَمِ الخَوفِ مِنَ اللهِ، ويُعَطِّلُ جانِبَ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ والأَمْرَ بالمَعروفِ والنَّهْيَ عنِ المُنكَرِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: يقولون [أَيْ مرجئةُ العَصْرِ] {الكُفرُ لا يكونُ إلَّا في القَلْبِ}، يَعْنِي لو واحِدٌ تَلَفَّظَ بكَلِمةِ الكُفرِ ما نَحكُمُ عليه بالكُفرِ، لو دَعَسَ [أَيْ دَاسَ] على المُصْحَفِ وأَلْقاه في القُمَامةِ وحَطَّه في النَّجاساتِ ما نَحْكُمُ عليه، لو سَبَّ اللهَ ورسولَه باللِّسانِ ما نَحْكُمُ عليه بالكُفرِ، ما نَحْكُمُ إلَّا إذا جَحَدَ بقَلْبِه، فالآنَ، تَصَوَّرِ الآنَ إِيشْ يَفْتَحُ هذا ويُجَرِّئُ الناسَ على سَبِّ الدِّينِ، وعلى انتقادِ الأحكامِ، وعلى استهدافِ الشريعةِ، ويقولُ في النِّهَايَةِ {أنا مُؤمِنٌ بقَلْبِي}!، ولَمَّا يَأْتِي ناسٌ مِنَ الغَيُورِين يقولون {هذا يُطَبَّقُ عليه حَدُّ الرِّدَّةِ}، فَيَأْتِيَ المُرجِئةُ يقولون {لا لا لا، كيفَ يُطَبَّقُ عليه حُكْمُ الرِّدَّةِ، هذا ما جَحَدَ بقَلْبِه، وهو الآنَ لَمَّا سَأَلْناه قالَ (أنا مُؤمِنٌ، أنا مُسلِمٌ، أنا أَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، بَسْ [أَيْ ولكنْ] أَرَى الصِّيَامَ يُعَطِّلُ الإنْتاجَ وما له داعٍ، والصَّلاةُ [ما لها داعٍ]، الإسلامُ المُعامَلةُ، الدِّينُ المُعامَلةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَهَمُّ شيءٍ الدِّينُ المُعامَلةُ، الدِّينُ النَّظَافةُ، النَّظَافةُ هي الإيمانُ، النَّظَافةُ، الصِّحَّةُ، التَّقْنِيَةُ، البِيئَةُ)}، واللهِ صارَ الآنَ في [أَيْ يُوجَدُ] إسلامٌ جَدِيدٌ، إسلامٌ جَدِيدٌ له الأركانُ الخَمْسةُ (البِيئَةُ، التَّقْنِيَةُ، الصِّحَّةُ، النَّظَافةُ، المُعامَلةُ)، هذه أركانُ الإسلامِ الجَدِيدِ، [فإذا قُلْتَ لهذا الذي يَدَّعِي الإسلامَ] {الصلاةُ؟! الصِّيَامُ؟!}، [قالَ هذا الذي يَدَّعِي الإسلامَ] {لا، هذا بَيْنَه وبَيْنَ اللهِ، ما لَنَا دَخْلٌ، رَبُّه يُحاسِبُه}!، إذا سَبَّ [أَيْ هذا الذي يَدَّعِي الإسلامَ] الدِّينَ وسَبَّ اللهَ وسَبَّ الرسولَ، وقالَ {الجِهادُ وَحْشِيَّةُ، والصَّومُ يُعَطِّلُ الإنتاجَ، والأَمْرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عنِ المُنكَرِ لَقَافَةٌ [أَيْ فُضُولٌ وتَطَفُّلٌ]، إِيشْ لك وإِيشْ للناسِ يا أَخِي، إِيشْ دَخَّلَكَ فيهم؟، كُلُّ واحِدٍ له ربٌّ يُحاسِبُه}، فالمُرجِئةُ يقولون عن هذا {هذا مُؤمِنٌ}، هو الآنَ يَنتَقِدُ الشَّرِيعةَ، هو يَتَّهِمُ حَدَّ اللهِ، يَتَّهِمُ أنَّ هذه الآيَةَ التي أَنزَلَها اللهُ وَحشِيَّةٌ، الحُدودُ هذه {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَحشِيَّةٌ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} تَخَلُّفٌ، حَدُّ الرِّدَّةِ أَكبَرُ عُدْوَانٍ على الحُرَّيَّاتِ، يَبْغِي يَطْلَعُ [أَيْ يَخْرُجُ] مِنَ الدِّينِ، يَبْغِي يَدْخُلُ في الدِّينِ، إِيشْ دَخَّلَكَ أنتَ؟؛ وبالتَّالي يُصْبِحُ الدِّينُ بَوَّابَةً بدُونِ بَوَّابٍ، الذي يُرِيدُ يَدْخُلُ يَدْخُلُ، والذي يُرِيدُ يَطْلَعُ يَطْلَعُ، والذي يُرِيدُ يَكْفُرُ يَكْفُرُ، والذي يُرِيدُ يُسْلِمُ يُسْلِمُ، والذي يُرِيدُ يَجْحَدُ يَجْحَدُ، والذي يُرِيدُ يُقِرُّ يُقِرُّ؛ ولذلك صارَتْ قَضِيَّةُ أنَّ الكُفْرَ لا يكونُ إلا بالقَلْبِ هذه نَتِيجَتُها، هذه نَتِيجَتُها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: والإمامُ ابنُ القيم رَحِمَه اللهُ يقولُ في النُّونِيَّةِ [المُسَمَّاةِ (الكافِيَةُ الشَّافِيَةُ)] {وَكَذَلِكَ الإرْجَاءُ حِينَ تُقِرُّ بِالْ *** مَعْبُودِ تُصْبِحُ كَامِلَ الإِيمَانِ *** فَارْمِ الْمَصَاحِفَ فِي الحُشُوشِ وَخَرِّبِ الْ *** بَيْتَ الْعَتِيقَ وَجِدَّ فِي الْعِصْيَانِ *** وَاقْتُلْ إِذَا مَا اسْطَعْتَ كُلَّ مُوَحِّدٍ *** وَتَمَسَّحَنْ بِالقَسِّ وَالصُّلْبَانِ *** وَاشْتُمْ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ وَمَنْ أَتَوْا *** مِن عِنْدِهِ جَهْرًا بِلَا كِتْمَانِ *** وَإِذَا رَأَيْتَ حِجَارَةً فَاسْجُدْ لَهَا *** بَلْ خِرَّ لِلأَصْنَامِ وَالأَوْثانِ *** وَأَقِرَّ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ *** هُوَ وَحْدَهُ البَارِي لِذِي الأَكْوَانِ *** وَأَقِرَّ أَنَّ رَسُولَهُ حَقًا أَتَى *** مِنْ عِنْدِهِ بِالْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ *** فَتَكُونَ حَقًا مُؤْمِنًا وَجَمِيعُ ذَا *** وِزْرٌ عَلَيْكَ وَلَيْسَ بِالكُفْرَانِ *** هَذَا هُوَ الإِرْجَاءُ عِنْدَ غُلَاتِهِمْ *** مِنْ كُلِّ جَهْمِيٍّ أَخِي الشَّيْطَانِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: بعضُ المُعاصِرِين مِنَ المُرجِئةِ والحَرَكاتِ الاِلْتِفافِيَّةِ قالوا {نَطْلَعُ لَكُمْ طَلْعَةً الآنَ، نُعْطِيكم تَنازُلًا، نَقولُ (الكُفرُ يكونُ بالقولِ والفِعْلِ [وبذلك يكونوا وافَقوا أهلَ السُّنَّةِ في أنَّ الكُفْرَ لا ينْحَصِرُ في التَّكذِيبِ والاستِحلالِ])}، [ثم أَعْقَبُوا ذلك بقولِهم] {ولكنْ لا نُكَفِّرُ المُعَيَّنَ إلَّا إذا اعتَقَدَ أو استَحَلَّ}، يا فَرْحَةً ما تَمَّتْ! [قالَ الشيخُ المنجدُ في مَوضِعٍ آخَرَ مِن مُحاضَرته: المُرجِئةُ المُعاصِرِون يُطَوِّرونُ في البِدعةِ لَمَّا يُهاجَمون، يقولون {طَيِّبٌ، نحن عندنا حَلٌّ}، هذا بعضُ شُغْلِ المُرجئةِ المُعاصِرِين، يقولون {عندنا حَلٌّ}!، مُرجِئةُ العَصْرِ تَرَى عندهم تَفَنُّنَاتٍ. انتهى باختصار]، لأنَّه الآنَ أنتَ لَمَّا تَقولُ {الكُفرُ بالقَوْلِ والفِعْلِ}، هذا عند أهلِ السُّنَّةِ [مَعْنَاهُ] أنَّه إذا سَبَّ اللهَ ورسولَه، أو قالَ {الحَدُّ الفُلَانِيُّ وَحْشِيَّةٌ}، [فهو] كافِرٌ [بـ (القَوْلِ)] خارجٌ عنِ المِلَّةِ، وإذا رَمَى مُصْحَفًا في النَّجاساتِ ودَعَسَ عليه [فهو] كافِرٌ بـ (الفِعْلِ)، فَيَأْتِي هؤلاء ويقولون {طَيِّبٌ، نحن نُعْطِيكم تَنازُلًا (الكُفرُ يكونُ بالقَوْلِ ويكونُ بالفِعْلِ، ولكنْ)}، مُشكِلةُ (ولكنْ) أنَّ ما بَعْدَها مُمْكِنٌ يَهْدِمُ ما قَبْلَها، [قالوا] {ولكنْ ما نَحْكُمُ على الشخصِ المُعَيَّنِ، يَعْنِي إذا واحِدٌ سَبَّ اللهَ ورسولَه اسْمُه (زَيْدٌ) فَرْضًا، ما نَحْكُمُ على زَيْدٍ هذا اللِّي سَبَّ اللهَ ورسولَه بالكُفْرِ إلَّا إذا استَحَلَّ بالقَلْبِ}، يا ابنَ الحَلَالِ، هو إذا سَبَّ إِيشْ باقٍ بَعْدَ ذلك؟!، استَحَلَّ [أو] ما استَحَلَّ، خَلَاصٌ [أَيْ قَامَ كُفْرُهُ]، واحِدٌ سَبَّ اللهَ ورسولَه طَوْعًا مُخْتارًا عاقِلًا، لم يَسُبَّه في النَّومِ، ولا وهو سَكْرَانُ (السَّكْرانُ له حَدٌّ)، واحِدٌ سَبَّ اللهَ ورسولَه يَقْظَانَ طَوَاعِيَةً (ما هو مُكْرَهٌ) عالِمًا ذاكِرًا مُخْتارًا، تقولُ {[يَكْفُرُ] إذا كانَ استَحَلَّ بقَلْبِه}!، فلذلك، الدِّينُ يُصْبِحُ عند المُرجِئةِ -فِعْلًا- مَهْزَلةً ومَسْخَرةً، ولذلك قالَ الشاعرُ {وَلَا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ *** أَلَا إِنَّمَا الْمُرْجِيُّ بِالدِّينِ يَمْزَحُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: تَصَوَّرِ الآنَ باللهِ، كيفَ يُقامُ حَدُّ الرِّدَّةِ؟!، كيفَ حِمَايَةُ جَنَابِ الدِّينِ؟!، إذا كانتِ الشُّغْلَةُ، فَقْطَ مُقتَصِرةً على الشيءِ القَلْبِيِّ؟!، ومَهْمَا الواحِدُ فَعَلَ، ومَهْمَا تَكَلَّمَ ومَهْمَا سَبَّ وشَتَمَ في الدِّينِ (لِسَانِيًّا)، خَلَاصٌ [يَعْنِي أَنَّه لا يَكْفُرُ عند المُرجِئةِ]، يَعْنِي لو طاغِيَةٌ يَقْتُلُ المسلمِين، ويَشِيلُ الشَّرِيعةَ ويُلْغِيها [قالَ الشيخُ سعد بن بجاد العتيبي (عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب): ومِنَ المَظاهِرِ [أَيْ مِن مَظاهِرِ تَسَرُّبِ المَفاهِيمِ الإرجائِيَّةِ في الواقِعِ المُعاصِرِ] التَّهوِينُ مِن شَأْنِ عَدَمِ تَحكِيمِ الشَّرِيعةِ، وهذا ناتِجٌ عن إخراجِ العَمَلِ مِن مُسَمَّى (الإيمانِ) وحَصْرِ الكُفْرِ في القَلْبِ فَقَطْ، وبِنَاءً عليه -عند مَنْ تَأَثَّرَ بالإرجاءِ- فالحُكْمُ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللهُ (بكُلِّ صُوَرِهِ) ما دامَ صاحِبُه غَيْرَ جاحِدٍ لِوُجُوبِه فهو كُفْرٌ أَصْغَرُ، وهذا بلا شَكٍّ مِن آثارِ الفِكْرِ الإرجائِيِّ، حيث يَحْصُرُ المُرجِئَةُ الكُفْرَ في التَّكْذِيبِ والجُحُودِ فَقَطْ، ولا يُكَفِّرونَ المُعْرِضَ والمُمْتَنِعَ، ولا مَن يَسُنُّ تَشرِيعًا يُناقِضُ ما هو معلومٌ مِنَ الدِّينِ بالضَّرُورةِ، وقد قالَ اللهُ تَعالَى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، قَالَ الإمامُ الْجَصَّاصُ رَحِمَه اللهُ [في (أحكام القرآن)] {وَفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الإِسْلَامِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُول وَالاِمْتِنَاعِ مِنَ التَّسْلِيمِ}، وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رَحِمَه اللهُ [في (مجموع الفتاوى)] {وَالإِنْسَانُ مَتَى حَلَّلَ الْحَرَامَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، أَوْ بَدَّلَ الشَّرْعَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، كَانَ كَافِرًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ}، وقالَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ رَحِمَه اللهُ [في (البداية والنهاية)] {فَمَنْ تَرَكَ الشَّرْعَ الْمُحْكَمَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ -عليه الصلاةُ والسلامُ- خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَتَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمَنْسُوخَةِ كَفَرَ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَحَاكَمَ إلى الْيَاسِقِ [الْيَاسِقُ هو كِتَابٌ حَكَمَ بِهِ التَّتَارُ، وَضَعَهُ لَهُمُ مَلِكُهِمْ جَنْكِيزْخَان، وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ أَحْكَامٍ قَدِ اقْتَبَسَهَا مِنْ شَرَائِعَ شَتَّى، مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمِلَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ وغيرِها، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الأَحْكَامِ أَخَذَهَا مِنْ مُجَرَّدِ نَظَرِهِ وَهَوَاهُ، فَصَارَتْ فِي بَنِيهِ شَرْعًا مُتَّبَعًا، يُقَدِّمُونَه -بَعْدَ ما أَعْلَنوا إسلامَهم- عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): فانْظُرْ رَحِمَك اللهُ ورَعَاكَ، أَلَيْسَتْ دَساتِيرُ العَصْرِ في حُكْمِ (الْيَاسِقِ). انتهى. وقالَ الشيخُ محمد إسماعيل المقدم (مؤسس الدعوة السلفية بالإِسْكَنْدَرِيَّةِ) في مُحاضَرة مُفَرَّغَةٍ على هذا الرابط: ما نَعِيشُه اليَومَ أَقْبَحُ وأَفْحَشُ مِن مُجَرَّدِ اِمتِناعِ طائفةٍ عن شَيْءٍ مِن أحكامِ الشَّرِيعةِ، فَما نحن فيه أَشَدُّ مِن ذلك، لِأنَّه ليس مُجَرَّدَ اِمتِناعٍ عن شَرِيعةٍ بَلْ نَبْذًا لِلدِّينِ... ثم قال -أَيِ الشيخُ المقدم-: والتَّتارُ أَفْضَلُ مِمَّن يَحْكُموننا الآنَ مِنْ حَيْثُ مَوْقِفُهم مِنَ الدِّينِ. انتهى] وَقَدَّمَهَا عَلَيْهِ؟، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَفَرَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ}، والنصوصُ عن أهلِ العِلمِ في هذا الشَأْنِ كثيرةٌ جِدًّا لا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ لذِكْرِها، وقد اُبْتُلِيَتِ الأُمَّةُ بتَحكِيمِ القَوانِينِ الوَضْعِيَّةِ المُضَادَّةِ لِشَرِيعةِ اللهِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العتيبي-: ولا يُعَدُّ مِنَ الكُفْرِ الأَكْبَرِ في مَسأَلةِ الحُكْمِ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللهُ ما تَوَفَّرَتْ فيه هذه القُيُودُ؛ (أ)أنْ تكونَ السِّيَادةُ للشَّرِيعةِ، سَوَاءً في القَضِيَّةِ المَحكُومِ فيها أو غيرِها؛ (ب)أنْ تكونَ في حَوَادِثِ الأَعْيَانِ [قالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في (لقاء الباب المفتوح): نَرَى فَرقًا بين شَخصٍ يَضَعُ قانونًا يُخالِفُ الشَّرِيعةَ لِيَحكُمَ الناسَ به، وشَخصٍ آخَرَ يَحكُمُ في قَضِيَّةٍ مُعَيَّنةٍ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ؛ لِأنَّ مَن وَضَعَ قانونًا لِيَسِيرَ الناسُ عليه وهو يَعلَمُ مُخالَفَتَه لِلشَّرِيعةِ ولَكِنَّه أرادَ أنْ يَكونَ الناسُ عليه فَهذا كافِرٌ؛ ولَكِنْ مَن حَكَمَ في مَسألةٍ مُعَيَّنةٍ يَعلَمُ فيها حُكمَ اللهِ ولَكِنْ لِهَوىً في نَفسِه [حَكَمَ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ] فَهذا ظالِمٌ أو فاسِقٌ، وكُفرُه إنْ وُصِفَ بِالكُفرِ فَكُفرٌ دُونَ كُفرٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (النصائح المنجية): الحاكِمُ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ هَوًى في القَضايَا الجُزئِيَّةِ، فَهذا تَكفِيرُه مَحَلُّ خِلافٍ بين السَّلَفِ؛ فَقالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ وجَماعةٌ مِنَ التَّابِعِين {ليس بِكافِرٍ ما لم يَجحَدْ} وذلك في قَولِهم {كُفرٌ دُونَ كُفرٍ}؛ وقالَ اِبْنُ مَسعُودٍ وآخَرون {كافِرٌ لِتَشرِيعِه الباطِلَ، وإظهارِه للْجَوْرِ في صُورةِ الحَقِّ مَنسوبًا لِلشَّرعِ}. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (الجواب المسبوك "المجموعة الأولى"): إنَّ الحاكِمَ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ لا يَخلُو إمَّا أنْ يَحكُمَ بِخِلافَ الشَّرعِ جاهِلًا جَهلًا يُعذَرُ به، فَهذا لا يُحكَمُ بِكُفرِه إجماعًا؛ وإمَّا أنْ يَحكُمَ بِخِلافِ الشَّرعِ وهو يَعلَمُ مُخالَفةَ حُكمِه لِلشَّرعِ، فَهذا إمَّا أنْ يَكفُرَ مُطلَقًا، وإمَّا أنْ لا يَكفُرَ، ولا ثالِثَ لَهُما، فَإنَّ الجِنسَ المُبِيحَ لِلدَّمِ لا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِه وكَثِيرِه، وغَلِيظِه وخَفِيفِه، في كَونِه مُبِيحًا لِلدَّمِ، كالزِّنَى والمُحارَبةِ، وكذلك الحُكمُ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ لا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِه وكَثِيرِه، وغَلِيظِه وخَفِيفِه، كَما قالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ [فِي (الصارم المسلول)] {وهذا هو قِياسُ الأُصولِ، فَمَن زَعَمَ أنَّ مِنَ الأقوالِ أوِ الأفعالِ ما يُبِيحُ الدَّمَ إذا كَثُرَ ولا يُبِيحُه مع القِلَّةِ فَقَدْ خَرَجَ عن قِياسِ الأُصولِ، وليس له ذلك إلَّا بِنَصٍّ يَكونُ أَصْلًا بِنَفسِه}، ولا نَصَّ مِنَ اللهِ ورَسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَرِّقُ بَيْنَ القَضايَا الجُزئيَّةِ وبَيْنَ القَضايَا العامَّةِ في الحُكمِ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ، فَظَهَرَ بُطلانُه [أيْ بُطلانُ التَّفرِيقِ]، وقَدْ بَسَطْتُ القَولَ في رَدِّ هذا التَّفرِيقِ في الحُكمِ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ في رِسالَتِي (تَحكِيمُ القُرآنِ في تَكفِيرِ القانونِ). انتهى باختصار] لا في الأُمُورِ العامَّةِ؛ (ت)أَنْ يُقِرَّ بِأنَّ حُكْمَ اللهِ هو الحُكْمُ الحَقُّ، مع إقْرارِه بأنَّه عاصٍ بتَرْكِه حُكْمَ اللهِ في هذه القَضِيَّةِ. انتهى باختصار من (تسرب المفاهيم الإرجائية في الواقع المعاصر). وقالَ الشيخُ صالح الفوزان (عضوُ هيئةِ كِبار العلماءِ بالدِّيَارِ السعوديةِ، وعضوُ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ) في كتابِ (التوحيد): مَن نَحَّى الشَّرِيعةَ الإسلامِيَّةَ وجَعَلَ القانونَ الوَضْعِيَّ بَدِيلًا منها، فهذا دَلِيلٌ على أنَّه يَرَى أنَّ القانونَ أَحْسَنُ وأَصْلَحُ مِنَ الشَّرِيعةِ، وهذا لا شَكَّ أنَّه كُفْرٌ أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ ويُناقِضُ التَّوحِيدَ. انتهى. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان أيضًا في فيديو بعنوان (دارُ الكُفرِ التي تُحكَمُ بغير ما أَنزَلَ اللهُ ويَظْهَرُ فيها أَعْلَامُ الشِّرْكِ): دارُ الكُفرِ هي التي يُحْكَمُ فيها بغَيرِ ما أَنزَلَ اللهُ، هكذا قَرَّرَ أهل العلم، أَنَّ البلادَ التي لا تُحكَمُ بالشَّرِيعةِ (شَرِيعةِ اللهِ) تُعْتَبَرُ دارَ كُفرٍ، وكذلك البلادُ التي تَظْهَرُ فيها أَعْلَامُ الشِّرْكِ، أَعْلَامُ الشِّرْكِ تَظْهَرُ فيها -الأصنامُ والأوثانُ- ولا تُغَيَّرُ ولا تُرْفَعُ، هذه بلادُ كُفرٍ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ اِبنُ باز في (نَقدُ القَومِيَّةِ العَرَبِيَّةِ): قالَ تَعالَى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقالَ تَعالَى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقالَ تَعالَى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقالَ تَعالَى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقالَ تَعالَى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وكُلُّ دَولةٍ لا تَحكُمُ بِشَرعِ اللهِ ولا تَنصاعُ لِحُكمِ اللهِ ولا تَرضاه فَهي دَولةٌ جاهِلِيَّةٌ كافِرةٌ ظالِمةٌ فاسِقةٌ بِنَصِّ هذه الآيَاتِ المُحكَماتِ، يَجِبُ على أهلِ الإسلامِ بُغْضُها ومُعاداتُها في اللهِ، وتَحرُمُ عليهم مَوَدَّتُها ومُوالاتُها، حتى تُؤمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتُحَكِّمَ شَرِيعَتَه وتَرضَى بِذلك لَها وعليها، كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. انتهى. وقالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين): مَن لم يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ اِستِخفافًا به [أَيْ بالحُكْمِ] أو اِحتِقارًا له، أو اِعتِقادًا أنَّ غيرَه أَصْلَحُ منه وأَنْفَعُ للخَلْقِ، فهو كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عنِ المِلَّةِ، ومِن هؤلاء مَن يَضَعُون للناسِ تَشرِيعاتٍ تُخالِفُ التَّشرِيعاتِ الإسلامِيَّةِ لتَكُونَ مِنْهاجًا يَسِيرُ الناسُ عليه، فإنَّهم لم يَضَعُوا تلك التَّشرِيعاتِ المُخالِفةَ للشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ إلَّا وَهُمْ يَعتَقِدون أنَّها أَصْلَحُ وأَنْفَعُ للخَلْقِ، إذْ مِنَ المعلومِ بالضَّرورةِ العَقْلِيَّةِ والْجِبِلَّةِ الفِطْرِيَّةِ أنَّ الإنسانَ لا يَعْدِلُ عن مِنْهاجٍ إلى مِنْهاجٍ يُخالِفُه، إلَّا وهو يَعتَقِدُ فَضَلَ ما عَدَلَ إليه ونَقْصَ ما عَدَلَ عنه. انتهى. وفي (شرح العقيدة الواسطية) للشيخ صالح آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد)، سُئِلَ الشيخُ {هَلِ الثُّوَّارُ الذِين في الجَزَائِرِ، هَلْ يُعْتَبَرون مِنَ الخَوَارِجِ؟}؛ فأجابَ الشيخُ {لا يُعْتَبَرون مِنَ الخَوَارِجِ، لِأنَّ دَوْلَتَهم هناك دولةٌ غيرُ مُسْلِمةٍ، فلَيْسُوا مِنَ الخَوَارِجِ وَلَا مِنَ البُغاةِ}. انتهى. وقالَ الشيخُ أحمدُ شاكر (نائب رئيس المحكمة الشرعية العليا، الْمُتَوَفَّى عامَ 1377هـ/1958م) في (عمدة التفسير): فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ [التي هي الآنَ مُحافَظةُ (إِسْطَنْبُولَ)، وهي أكبرُ المُحافَظاتِ التُّرْكِيَّةِ مِنْ حَيْثُ عَدَدُ السُّكَّانِ] المُبَشَّرُ به في الحديثِ، سيَكُونُ في مُستَقْبَلٍ قَرِيبٍ أو بَعِيدٍ يَعْلَمُه اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وهو الفَتْحُ الصَّحِيحُ لها حين يَعُودُ المسلمون إلى دِينِهم الذي أَعرَضُوا عنه، وأَمَّا فَتْحُ التُّرْكِ [يَعْنِي الدَّوْلةَ العُثمانِيَّةَ] الذي كان قَبْلَ عَصْرِنا هذا، فإنَّه كانَ تَمهِيدًا للفَتْحِ الأَعْظَمِ، ثم هي قد خَرَجَتْ بعدَ ذلك مِن أَيْدِي المسلمِين منذ أعْلَنَتْ حُكُومَتُهم هناك أنَّها حُكُومةٌ غيرُ إسلامِيَّةٍ وغيرُ دِينِيَّةٍ، وعاهَدَتِ الكُفَّارَ أعداءَ الإسلامِ، وحَكَمَتْ أُمَّتَّها بأحكامِ القَوَانِينِ الوَثَنِيَّةِ الكافِرةِ، وسيَعُودُ الفَتْحُ الإسلامِيُّ لها إنْ شاءَ اللهُ كما بَشَّرَ رسولُ اللهِ. انتهى. وقالَ الشيخُ يوسفُ بن عبدالله الوابل (المستشار المشرف على مكتب الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي) في (أشراط الساعة): ثُمَّ هِيَ [أَيِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ] الآنَ تَحْتَ أَيْدِي الكُفَّارِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو المنذر الحربي في كتابِه (عون الحكيم الخبير، بتقديم الشيخ أبي محمد المقدسي): الحُكْمُ على الحُكومةِ السُّعودِيَّةِ وكُلِّ حُكومةٍ وَقَفَتْ مع الكُفارِ في حَربِهم على الإسلامِ والمسلمِين، هو الكُفرُ الأكْبَرُ المُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، لِمَا تَقَدّمَ ذِكْرُه مِنَ الأَدِلَّةِ. انتهى. وقال الشيخُ سليمانُ بْنُ سحمان (ت1349هـ): إذا عَرَفْتَ أنَّ التَّحاكُمَ إلى الطاغُوتِ كُفْرٌ [قالَ الشيخُ (محمد مصطفى الشيخ) في مَقالةٍ له بِعُنْوانِ (نظرات حول شروط "لا إله إلا الله") على هذا الرابط: وَحَدُّ التَّحَاكُمِ الرَّاجِعُ إلى أَصْلِ الدِّينِ هو ألَّا يَعدِلَ عنِ (التَّحَاكُمِ إلى شَرْعِ اللهِ) إلى (غيرِه مِنَ الطَّواغِيتِ). انتهى]، فقد ذَكَرَ اللهُ في كتابِه أنَّ الكُفْرَ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ، قالَ {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، وقالَ {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، وَالْفِتْنَةُ هي الكُفرُ، فَلَوِ اِقتَتَلَتِ البادِيَةُ والحاضِرةُ، حتى يَذهبوا، لَكانَ أَهْوَنَ مِن أنْ يُنَصِّبُوا في الأرضِ طاغُوتًا يَحْكُمُ بخِلَافِ شَرِيعةِ الإسلامِ التي بَعَثَ اللهُ بها رسولَه صلى الله عليه وسلم. انتهى من (الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النَّجْدِيَّة). وجاءَ في كِتابِ فَتاوَى الشَّبَكةِ الإسلامِيَّةِ (وهو كِتابٌ جامِعٌ للفَتاوَى التي أَصْدَرَها مَرْكَزُ الفَتْوَى بموقعِ إسلام ويب -التابعِ لإدارةِ الدعوةِ والإرشادِ الدينيِّ بوِزَارةِ الأوقافِ والشؤونِ الإسلاميةِ بدولةِ قطر- حتى 1 ذِي الْحِجَّةِ 1430هـ) أنَّ مَرْكَزَ الفَتْوَى سُئِلَ {ما مَعْنَى دارِ حَرْبٍ ودارِ السِّلْمِ؟ وهَلْ لُبْنَانُ يُعتبرُ دارَ حَرْبٍ؟}، فأجابَ المَرْكَزُ: عَرَّفَ الفُقهاءُ دارَ الإسلامِ ودارَ الحَرْبِ بتَعرِيفاتٍ وضَوابطَ مُتَعَدِّدةٍ يُمْكِنُ تلخيصُها فيما يَلِي؛ دارُ الإسلامِ هي الدارُ التي تَجْرِي فيها الأحكامُ الإسلاميَّةُ، وتُحْكَمُ بسُلطانِ المسلمِين، وتَكُونُ المَنَعَةُ والقُوَّةُ فيها للمسلمِين؛ ودارُ الحربِ هي الدارُ التي تَجْرِي فيها أحكامُ الكُفرِ، أو تَعْلُوها أحكامُ الكُفرِ، ولا يَكُونُ فيها السُّلطانُ والمَنَعَةُ بِيَدِ المسلمِين؛ إذا عَرَفْتَ هذا استطعتَ التَّمْيِيزَ بين دَوْلةٍ وأُخْرَى مِن حَيْثُ كَونُها دارَ إسلامٍ أو دارَ حَرْبٍ. انتهى باختصار. وجاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ الكُوَيْتِيَّةِ: دَارُ الْحَرْبِ هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً. انتهى]، ويَحُطُّ شَرِيعةَ الغابِ، أو شَرِيعةَ الْيُونَانِ والإِيطالَيِّين والرُّومَانِ وأَصْحابِ الصُّلْبانِ، ويَعْمَلُ كُلَّ المُكَفِّراتِ، وبَعْدَ ذلك يقولُ [أَيِ المُرجِئُ] {ما يَكْفُرُ}، يَعْنِي أتاتُوركُ [الذي تَوَلَّى رِئاسةَ تُرْكِيَا عامَ 1923م] هذا أَلْغَى الأَذَانَ، وأَلْغَى اللُّغةَ العَرَبِيِّةَ، ومَنَعَ الصلاةَ، ومَنَعَ الحِجَابَ، ما [حُكْمُ] هذا؟، [يَقُولُ المُرجِئُ] {ما يَكْفُرُ، ما يَكْفُرُ}!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: الكفرُ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ يكونُ بالاعتقادِ، وبالقولِ، وبالفعلِ، وبالشَّكِّ، وبالتَّرْكِ [قالَ الشيخُ عبدُالله بنُ عبدالعزيز بن حمادة الجبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض) في (مختصر تسهيل العقيدة الإسلامية): كُفْرُ الشَّكِّ والظَّنِّ، وهو أنْ يَتَرَدَّدَ المُسلمُ في إيمانِه بشيءٍ مِن أُصولِ الدِّينِ المُجمَعِ عليها، أو لا يَجزِمَ في تَصدِيقِه بخَبَرٍ أو حُكْمٍ ثابتٍ مَعلُومٍ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ؛ فمَنْ تَرَدَّدَ أو لم يَجزِمْ في إيمانِه وتَصدِيقِه بأَركانِ الإيمانِ أو غيرِها مِن أُصولِ الدِّينِ المَعلومةِ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ والثابِتةِ بالنُّصوصِ المُتَواتِرةِ، أو تَرَدَّدَ في التَّصدِيقِ بحُكْمٍ أو خَبَرٍ ثابتٍ بنُصوصٍ مُتَواتِرةٍ مِمَّا هو مَعلُومٌ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، فقد وَقَعَ في الكُفرِ المُخرِجِ مِنَ المِلَّةِ بإجماعِ أهلِ العِلمِ، لِأنَّ الإيمانَ لا بُدَّ فيه مِنَ التَّصدِيقِ القَلْبِيِّ الجازمِ الذي لا يَعْتَرِيه شَكٌّ ولا تَرَدُّدٌ، فمَن تَرَدَّدَ في إيمانِه فليس بمُسلمٍ؛ ومِن أمثِلَةِ هذا النَّوعِ [الذي هو كُفْرُ الشَّكِّ والظَّنِّ] أنْ يَشُكَّ في صِحَّة القرآنِ، أو يَشُكَّ في ثُبُوتِ عذابِ القَبرِ، أو يَتَرَدَّدَ في أنَّ جِبرِيلَ عليه السلامُ مِن مَلَائكةِ اللهِ تَعالَى، أو يَشُكَّ في تَحرِيم الخَمرِ، أو يَشُكَّ في وُجُوبِ الزَّكاةِ، أو يَشُكَّ في كُفرِ اليَهودِ أو النَّصارَى، أو يَشُكَّ في سُنِّيَّةِ السُّنَنِ الرَّاتِبةِ، أو يَشُكَّ في أنَّ اللهَ تَعالَى أَهلَكَ فِرعَونَ بالغَرَقِ، أو يَشُكَّ في أنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسَى، وغيرُ ذلك مِنَ الأُصولِ والأَحكامِ والأخبارِ الثابِتةِ المَعلومةِ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ. انتهى. وقالَ الشيخُ هيثم فهيم أحمد مجاهد (أستاذ العقيدة المساعد بجامعة أم القرى) في (المدخل لدراسة العقيدة): والتَّرْكُ المُكَفِّرُ، إمَّا تَرْكُ التَّوحِيدِ، أو تَرْكُ الاِنْقِيادِ بالعَمَلِ، أو تَرْكُ الحُكْمِ بما أَنْزَلَ اللهُ، أو تَرْكُ الصَّلاةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ هيثم-: وتارِكُ أعمالِ الجَوارِحِ بالكُلِّيَّةِ -مع القُدرَةِ والتَّمَكُّنِ وعَدَمِ العَجْزِ- كافِرٌ وليس بمُسلِمٍ لأنَّه مُعرِضٌ عنِ العَمَلِ مُتَوَلٍّ عنِ الطاعةِ تارِكٌ للإسلامِ]، ففي [أَيْ فَيُوجَدُ] اعتقاداتٌ كُفْرِيَّةٌ، وفي [أَيْ وَيُوجَدُ] أقوالٌ كُفْرِيَّةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: أَلَيْسَ مِن قَوَاعدِ شَرِيعَتِنا أنَّه نَحْكُمُ بالظاهرِ؟، فإذا واحِدٌ سَبَّ اللهَ والرسولَ، إِيشْ الظاهِرُ؟، أَلَيْسَ اللهُ أَمَرَنا أَنْ نَحْكُمَ بالظاهِرِ؟، وعُمَرُ [بْنُ الخَطَّابِ] رَضِيَ اللهُ عنه لَمَّا قالَ {نَأْخُذُ بالظاهِرِ، والسَّرائرُ حُكْمُها إلى اللهِ، نحن نَأْخُذُكم بظاهِرِكم، لَنَا الظاهِرُ، واللهُ يَتَوَلَّى السَّرائرَ}، يَعنِي لَوْ واحِدٌ مُنافِقٌ أَظْهَرَ الإسلامَ ما نُسَوِّي [أَيْ ما نَعْمَلُ] له شيئًا، ما سَبَّ الدِّينَ، وصَلَّى وزَكَّى؛ أمَّا مَن سَبَّ اللهَ أو سَبَّ رسولَه كَفَرَ ظاهِرًا وباطِنًا، وهذا مَذهَبُ أهلِ العِلْمِ وأهلِ السُّنَّةِ؛ والكُفرُ يكونُ [أيضًا] بالاعتِقادِ، مِثْلَ لو اعتَقَدَ أنَّه ما في [أَيْ ما يُوجَدُ] يَوْمٌ آخِرٌ، وهذه لَيْسَتْ غَرِيبةً، نحن عاصَرْنا أَيَّامَ الجامِعةِ واحِدًا جاءَ عند ابْنِه -ابْنُه صارَ مُتَدَيِّنًا- ويَنْصَحُه يقولُ له {أنتَ كُوَيِّسٌ [أَيْ جَيِّدٌ]، بَسْ [أَيْ ولكنْ] ما أَبْغِيكَ تُتْعِبُ نَفْسَك كثيرًا، لا تُكْثِرُ الصلاةَ والعِبادةَ، لا تُكْثِرُ}، قالَ له {لِيشْ [أَيْ لماذا]؟}، قالَ {أخافُ تُتْعِبُ نَفْسَك، وبَعْدَ ذلك يَطْلَعُ [أَيْ يَظْهَرُ أَنَّ] ما في [أَيْ ما يُوجَدُ] شيءٌ}، إِيشْ مَعْناها [أَيْ مَعْنَى هذه المَقُولةِ]؟، مَعْناها الرَّجُلُ هذا كافِرٌ قَطْعًا، لأنَّ عنده احتِمَالًا أنَّه يَطْلَعُ ما في شيءٌ، ما قالَ {أَكِيدٌ ما في شيءٌ}، وقالَ {لا تُتْعِبْ نَفْسَك، لأنَّه يُمْكِنُ يَطْلَعُ ما في شيءٌ}، سَمِعْنا، سَمِعْنا، مَرَّ علينا ناسٌ وشَبَابٌ، يَقولُ واحِدٌ {أَنَا أُصَلِّي احتِيَاطًا}!، كيفَ تُصَلِّي احتِيَاطًا؟!، قالَ {يَعْنِي لو طَلَعَ في [أَيْ لو ظَهَرَ أَنَّه يُوجَدُ] شيءٌ نَكُونُ صَلَّيْنَا، ولو طَلَعَ ما في شيءٌ ما خَسِرْنا شيئًا}!، هذا كافِرٌ، لأنَّه مَن شَكَّ في البَعْثِ كَفَرَ، حتى لو صَلَّى وصامَ وقالَ (أَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: مَذْهَبُ المُرجِئةِ أدَّى إلى الانحِرافِ في فَهْمِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وصارَ عندهم أَيُّ واحِدٍ يَقولٌ {أَشْهَدُ} حتى رافِضِيٌّ، نُصَيْرِيٌّ، دُرْزِيٌّ، اللِّي هو قالَ {أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ} مُسلِمٌ؛ فإِذَنْ مِن أَسْوَأِ ما فَعَلَه المُرجِئةُ -[أَعْنِي] أَثَرَهُمْ في الواقِعِ- إفسادُ حَقِيقةِ الشَّهادَتَين ومَعْناها، وإنكارُ شُروطِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، خَلَاصٌ [يَعْنِي أَصْبَحَتْ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)] ما لَهَا شُروطٌ [عِنْدَهُمْ]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وعندهم [أَيْ عندَ المُرجِئةِ] أَيُّ اتِّفاقِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَيُّ عَقْدٍ بين شَرِكَتَين فِيهِ عِشْرُونَ شَرطًا، خَمْسُون شَرطًا، وتَفسِيرُ بُنُودٍ، وإذا جِئْتَ إلى العَقْدِ اللِّي بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّه، ما له شُروطٌ عندهم أَبَدًا، [فهو] مُجَرَّدُ لَفْظَةٍ، لا يَرْضَونَها في مُعامَلةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فالعَقْدُ بَيْنَ المُسلِمِ ورَبِّه صارَ مُجَرَّدُ كَلِمةٍ باللِّسانِ [أَيْ عند المُرجِئةِ]؛ طَيِّبٌ، وأَيْنَ {أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، فإذا قالُوا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ}، وأَيْنَ {لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ مِفْتَاحٌ، وإذا ما لَهُ أسْنَانٌ ما يُفْتَحُ لَكَ، والأسنانُ هي العَمَلُ}، وأَيْنَ كلامُ السَّلَفِ في هذا؛ وعَقِيدةُ المُرجِئةِ هذه أَدَّتْ إلى التَّهاوُنِ في العِباداتِ (الفَرائضِ)، التَّفرِيطِ في حُدودِ اللهِ، انتشارِ الفُجورِ والفَسادِ الأَخْلَاقِيِّ، انتِهاكِ الحُرُماتِ، [ارتكابِ] الفَوَاحِشِ، استِهانةٍ بحُكْمِ الشَّرِيعةِ (ما هو لازِمٌ حُكْمُ الشَّرِيعةِ!، مُمْكِنٌ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، و[أَنَا] راضٍ بالقانونِ الوَضْعِيِّ!، وأُحَكِّمُ القانونَ الوَضْعِيَّ!، وأُلْغِي الشَّرِيعةَ كُلَّها!، أُلْغِي الأَحكامَ كُلَّها!، أُلْغِي القَضاءَ الشَّرعِيَّ كُلَّه!، وأَنَا أَقُولُ الشَّهادَتَين!). انتهى باختصار.

 

(3)وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في كتابِ (دروس للشيخ محمد المنجد): وقالَ حَنْبَلُ [بْنُ إِسْحَاقَ] حَدَّثَنا الْحُمَيْدِيُّ [ت219هـ] {وَأُخْبِرْتُ أَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ (مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَتَّى يَمُوتَ، أو يُصَلِّيَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَمُوتَ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ مَا لَمْ يَكُنْ جَاحِدًا، إذَا عَلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ ذَلِكَ فِيهِ إيمَانُهُ، إذَا كَانَ مُقِرًّا بِـ [الْفَرَائِضِ وَ] اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ)، فَقُلْت (هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ)}، {هَذَا الْكُفْرُ الصُّرَاحُ} لِأنَّه لا يَعمَلُ شَيْئًا، تَوَلَّى عنِ العَمَلِ بِالكُلِّيَّةِ، مِثلَ الذِين يَعِيشون في الخارِجِ، مُسلِمون بِالاِسمِ فَقَطْ، لا يَعرِفون مَسجِدًا ولا قِبلةً ولا صَلاةً ولا يُزَكُّون ولا يَصومون، ولِذلك رَأَينا في الإنترنتِ أنَّ أحَدَهم يَقولُ {أنَا مُسلِمٌ بِالاِسمِ فَقَطْ}، فَهذا الذي يَقولُ {أنَا مُسلِمٌ بِالاِسمِ} كافِرٌ، لِماذا؟، لِأنَّه تَوَلَّى عنِ الدِّينِ لا يَعمَلُ بِشَيءٍ منه أبَدًا، لا يَعرِفُ أيَّ عِبادةٍ، لا صلاةَ ولا زَكاةَ ولا صِيامَ ولا حَجَّ، فَهذا الذي يُسَمِّي نَفْسَه {مُسلِمًا بِالاِسمِ فَقَطْ} هذا إنسانٌ مُتَوَلٍ عنِ العَمَلِ، وهذا إنسانٌ كافِرٌ. انتهى باختصار.

 

(4)وقالَ الشيخُ سيد إمام في (الجامع في طلب العلم الشريف): وقد أَثَّرَتْ بِدعةُ الإرجاءِ تأثيرًا عَمِيقًا في كتاباتِ المُتَأَخِّرِين وأفكارِهم، كما أَثَّرَتْ بالمِثْلِ في سُلوكِ كثيرٍ مِنَ المُسلِمِين، ومِن أَهَمِّ أَسْبابِ تَأَثُّرِ كتابات المُتَأَخِّرِين بهذه البِدعةِ تَوَلِّي المُرْجِئةِ -مِنَ الفُقَهاءِ [يَعْنِي الأحنافَ] والأشاعِرةِ- لِمعُظَمِ مَناصِبِ الإفْتاءِ والقَضاءِ والتَّدرِيسِ والوَعْظِ في عُصُورِ الإسلامِ المُتَأَخِّرةِ، فأَصبَحَتْ أقوالُهم هى المَعروفةُ المُشتَهِرةُ لَدَى الدَّارِسِين والمُؤَلِّفِين، في حين أَصبَحَتْ أقوالُ السَّلَفِ غَرِيبةً مَهجُورةً ولا يَعثُرُ عليها الباحِثُ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [قالَ الذَّهَبِيُّ (ت748هـ) في (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ): فَقَدْ -وَاللَّهِ- عَمَّ الْفَسَادُ، وَظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَخَفِيَتِ السُّنَنُ، وَقَلَّ الْقُوَّالُ بِالْحَقِّ، بَلْ لَوْ نَطَقَ الْعَالِمُ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ لَعَارَضَهُ عِدَّةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ، وَلَمَقَتُوهُ وَجَهَّلُوهُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. انتهى]. انتهى. وقالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تَوَلَّى القَضاءَ في بَلدةِ رحيمة بالمِنطَقةِ الشَّرقِيَّةِ، ثم في بَلدةِ الزلفي، وكانَ الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لِبَعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين لِلصَّلاةِ عليه) في كِتَابِه (غُربةُ الإسلامِ، بِتَقدِيمِ الشَّيخِ عبدِالكريم بن حمود التويجري): حُدوثُ الإرجاءِ كان في آخِرِ عَصرِ الصَّحابةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وما زالَ يَنتَشِرُ في المُسلِمِين ويَكثُرُ القائلون به إلى زَمانِنا هذا الذي اِشتَدَّتْ فيه غُربةُ الدِّينِ، وصارَ أهلُ السُّنَّةِ في غايَةِ الغُربةِ بين أهلِ البِدَعِ والضَّلالةِ والجَهالاتِ، وعادَ المَعروفُ بين الأكثَرِين مُنكَرًا والمُنكَرُ مَعروفًا والسُّنًّةُ بِدعةً والبِدعةُ سُنَّةً، وصارَتْ أقوالُ السَّلَفِ في بابِ الإيمانِ مَهجورةً لا يَعتَنِي بها إلَّا الأقَلُّون، وأمَّا الأكثَرون فَهُمْ عنها مُعرِضون لا يَعرِفونها ولا يَرفَعون بها رَأْسًا، وإنَّما المَعروفُ عندهم ما رَآه المُبتَدِعون الضالُّون المُخالِفون لِلكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، مِن أنَّ الإيمانَ هو التَّصدِيقُ الجازِمُ لا غَيْرُ، فهذا هو الذي يُعتَنَى بِتَعَلُّمِه وتَعلِيمِه في أكثَرِ الأقطارِ الإسلامِيَّةِ، فَما أَشَدَّها على الإسلامِ وأهلِه مِن بَلِيَّةٍ وما أَعْظَمَها مِن مُصِيبةٍ ورَزِيَّةٍ، فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. انتهى.

 

(5)وقالَ الشيخُ وسيم فتح الله في مَقَالةٍ له بِعُنْوانِ (منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة) على هذا الرابط: فمِنَ البِدعةِ ما هو مُكَفِّرٌ ومنها ما هو مُفَسِّقٌ، ومِنَ البدعةِ ما هو أقربُ إلى الواقعِ العَمَلِيِّ ومنها ما هو أقربُ إلى التأصيل العلميِّ النظريِّ، ولا يَصِحُّ في الأذهانِ الانشغالُ بما هو أَقَلُّ ضَرَرًا عمَّا هو أَشَدُّ ضَرَرًا، ولا الانشغالُ عما هو نازِلةٌ واقِعةٌ بما هو نظريٌّ تأصيليٌّ يَحْتَمِلُ التأخيرَ، فلا يَصِحُّ مثلًا الانشغالُ في الإنكار على أصحاب بدعةٍ مُفَسِّقةٍ عنِ الإنكار على أصحابِ بدعةٍ مُكَفِّرةٍ، وهذا الذي نَقولُه مأخوذٌ مِن أُصولِ الشرعِ الدالَّة على وُجوبِ الانشغالِ بالأَهَمِّ، كما صَحَّ في حَدِيثِ بَعْثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه إلى أهل الكتاب، حيث أَمَرَه صلى الله عليه وسلم بدعوتِهم إلى التوحيد، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة، كما هو معروفٌ؛ فَعَلَى سبيلِ المثالِ نَجِدُ اليومَ إحْيَاءً لِمَفهومِ (الإرجاءِ) مِن زَاوِيَةٍ خَفِيَّةٍ قاتلةٍ هي زَاوِيَةِ تَعطِيلِ (الولاء والبراء)، والتدليسَ على الناس بمفهومِ (التسامُحِ الدِّينِيِّ) المغلوطِ، إِذْ أنَّ تَرْوِيجَ مَفْهومِ (الإرجاء) يُقَدِّمُ قاعدةً وأَرْضًا خِصْبَةً لِبَذْرِ بُذورِ تَوَلِّي الكفارِ وخِذْلَانِ المؤمنِين طالما أنَّ إيمانَ أهلِ الإرجاءِ لا يَخْتَلُّ بذلك، فمِنَ المُهِمِّ حينما نُنْكِرُ على بدعةِ الإرجاءِ اليومَ ألَّا نَنْحَصِرَ في سِيَاقاتِها التاريخِيَّةِ وأَعْيَانِ رِجالاتِها الذِين أَفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا، ولكن نُبْرِزُ خُطورةَ بدعةِ الإرجاءِ مِن خلال ثَمَراتِ الحَنْظَلِ المُرَّةِ المُتَمَخِّضةِ في واقِعِنا اليومَ، فنُبَيِّنُ للناس كيف أنَّ دَعْوَى سلامةِ الإيمانِ وتَحَقُّقِه مع اجتماعِ النَّواقضِ العَمَلِيَّةِ للإيمانِ دَعْوَى هَدَّامةٌ قد جَرَّتْ على المسلمِين الوَيْلَ والثُّبُورَ، فوَطِئَتْ بلادَهم أقدامُ العَدُوِّ الكافرِ بِتَعاوُنٍ خِيَانِيٍّ حَقِيرٍ مِن هؤلاء الذِين لم يَرَوْا بَأْسًا في مَدِّ يَدِ العَوْنِ إلى كافرٍ مُحارِبٍ ولا في خِذْلَانِ مُسلِمٍ مَقْهورٍ وأَخَذُوا يُخَدِّرون حِسَّ المُسلِمِ الذي آلَمَه ذلك كُلُّه بجَرَعاتٍ مِنَ الإيمانِ الإرجائيِّ (الذي لا يَضُرُّ معه مَعصِيَةٌ ولا كُفْرٌ عَمَلِيٌّ طالما أنَّ القلبَ يَعرِفُ لا إله إلا الله -بِزَعْمِهم- واللسانُ يُتَمْتِمُ بها دُونَ وَعْيٍ ولا أَثَرٍ عَمَلِيٍّ في حياةِ قائلِها). انتهى باختصار.

 

(6)وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز الطريفي (الباحث بوِزَارةِ الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية) في مقالة له على هذا الرابط: إنَّ المُرجِئةَ اليَومَ فَتَحَتِ البابَ لِلِّيبرالِيَّةِ [قال أحمد جلال فؤاد في مقالة له على هذا الرابط: وهنا يَتَجَلَّى الفَرْقُ بين الدِّيمُقْراطِيَّةِ واللِّيبرالِيَّةِ، فالدِّيمُقْراطِيَّةُ تعني حُكْمَ الأغلبيَّةِ، حتى لو هَدَّدَ مصالحَ الأقلِيَّةِ، لكنَّ اللِّيبرالِيَّةَ بِتَرْكِيزِها على الحُرِّيَّةِ الفَرْدِيَّةِ، فهي تَحْمِي حُقوقَ الأَقَلِّيَّاتِ في أيِّ مُجتمَعٍ، ومِن هنا نَشَأَ النِّظامُ السياسيُّ الشائعُ في مُعْظَمِ الدولِ الغربيَّةِ [المراد بالدولِ الغربيَّةِ هو أَمْرِيكا الشَّمالية وأُورُوبَّا الغربية وأُسْتُرالْيَا] الآن وهو الدِّيمُقْراطِيَّةُ اللِّيبرالِيَّةُ، وهي ببساطةٍ دِيمُقْراطِيَّةٌ ولكنْ بمَبَادِئَ لِيبراليَّةٍ تَحْفَظُ وتَحْمِي حُقوقً الأَقَلِّيَّاتِ، حتى لو رَفَضَتْها الأغلبيَّةُ؛ ولهذا فدائمًا ما تُفَضِّلُ الأغلبيَّةُ النظامَ الدِّيمُقْراطِيَّ، ولكنَّ الأَقَلِّيَّاتِ تَمِيلُ إلى النظامِ اللِّيبرالِيِّ... ثم قالَ -أَيْ أحمد جلال-: اللِّيبرالِيَّةُ كفِكْرٍ، لا تستقيمُ إلَّا في ظِلِّ نظامٍ سياسيٍّ علمانيٍّ. انتهى باختصار. وجاء في موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): اللِّيبرالِيَّةُ فِكرةٌ غربيَّةٌ مستوردةٌ، وليستْ مِن إنتاج المسلمِين، وهي تَنْفِي ارتباطَها بالأَدْيَانِ كُلِّها، وتَعتبرُ كافَّةَ الأَدْيَانِ قُيُودًا ثَقِيلةً على الحُرِّيَّاتِ لا بُدَّ مِنَ التخلُّصِ منها. انتهى باختصار]. انتهى.

 

(7)وقالَ الشيخُ تركي البنعلي في (الكوكب الدري المنير، بتقديم الشيخ أبي محمد المقدسي): قالت العَرَبُ {النَّاسُ [أَيْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وذلك على ما سَبَقَ بَيَانُه في مَسْأَلَةِ (هَلْ يَصِحُّ إطلاقُ الكُلِّ على الأَكْثَرِ؟ وهَلِ الحُكْمُ لِلغالِبِ، والنَّادِرُ لا حُكْمَ له؟)] عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ}... ثم قال -أَيِ الشيخُ البنعلي-: يَخْدَعُ سَحَرَةُ المُرْجِئةِ المُرِيدِين [يَعْنِي أَنَّ المُرْجِئةَ يَخْدَعُون أَتْباعَهم] بقَوْلِهم {لَمَّا كانَتْ قُرَيْشٌ في الشِّرْكِ كان الذي يَحْكُمُهم هو أَبُو جَهْلٍ، ولَمَّا دَخَلَتْ قُرَيْشٌ في دِينِ اللهِ صارَ الذي يَحْكُمُهم هو أَبُو القاسِمِ صلى الله عليه وسلم}، والصَّوَابُ أنَّ هذه العبارةَ مَعْكُوسةٌ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، والصحيحُ أن يُقالَ {لَمَّا كانَ الذي يَحْكُمُ قُرَيْشًا هو أَبُو جَهْلٍ كانَتْ قُرَيْشٌ في الشِّرْكِ، ولَمَّا صارَ الذي يَحْكُمُهم هو أَبُو القاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَتْ قُرَيْشٌ في دِينِ اللهِ}، فاللهُ سبحانه وتعالى لم يَقُلْ {إِذَا دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَرَأَيْتَ نَصْرَ اللَّهِ وَالْفَتْحَ جَاءَ}!، بَلْ قالَ اللهُ سُبْحانَه وتَعالَى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}، فدُخُولُ الناسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا هو بعدَ الْفَتْحِ والحُكْمِ الإسلامِيِّ لا قَبْلَه. انتهى.

 

(8)وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في (قواعدُ في التكفير): حِزْبُ أهلِ التَّجَهُّمِ والإرجاءِ (حزبُ التفريطِ والجفاءِ، أصحابُ النَّفَسِ الإرجائيِّ الاتكالِيِّ، القائلُ "لا يَضُرُّ مع التصديقِ ذَنْبٌ، أَيُّ ذَنْبٍ، ومَن قالَ لا إله إلا الله دَخَلَ الجنةَ مهما كان منه مِن عَمَلٍ!") تَعامَلوا مع الناسِ على أساسِ أسمائهم التي تَنُمُّ عنِ انتسابِهم لأَبَوَين مسلمَين، بغضِّ النظرِ عن عقائدهم وأفعالهم الظاهرة، فالمرءُ يَكْفِي عندهم لِأنْ يكونَ مسلمًا في الدنيا والآخرة، وأن يُزَوَّجَ مِن بناتِ المسلمِين ويُعامَلَ معاملةَ المسلمِين من حيث الحقوق والواجبات، أنْ يكونَ اسمُه أَحْمَدَ أو خالِدًا، أو يَحْمِلَ شهادةَ ميلادٍ مكتوبٌ عليها (مسلم)، ولا ضَيْرَ عليه بعد ذلك أن يكون شيوعيًّا أو علمانيًّا حاقدًا على الإسلام والمسلمين، شتامًا للرَّبِّ والدِّينِ ولِأتْفَهِ الأسبابِ، وممن يُحاربون اللهَ ورسولَه، لا يُراعِي في المؤمنِين إلًّا وَلَا ذِمَّةً، فلا يضر مع اسمِه الإسلامي أو هُوِيَّتِه الإسلامية ذَنْبٌ بل ولا كُفْرٌ!!!؛ فانْطَلَقُوا [أي أهلُ التجهم والإرجاءِ] إلى آيات نَزَلَتْ في المؤمنين المُوَحِّدِين، ونصوصٍ قِيلتْ في عصاة الموحدين، فحَمَلُوها على الكفار المارقِين، والزنادقة المُلْحِدِين، والطواغيت الآثمِين، وجعلوهم بمرتبة عصاة أهل القبلة مِنَ المؤمنين!؛ فأماتوا -بذلك- الأُمَّةَ أماتَهم اللهُ، وأصابوها بالوهن (حب الدنيا وكراهية الموت)، وورثوا أبناءها رُوحِ الاتكاليَّةِ وحُبِّ تَرْكِ العَمَلِ، حتى سَهُلَ عليهم تَرْكُ الحكم بما أنزل الله واستبداله بحكم وشرائع الطاغوت، وصَوَّروا لهم أنَّ الأمرَ لا يتعدَّى أن يكونَ معصيةً، وأن يكون كفرًا دونَ كفرٍ، وأنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، فجرَّأوهم بذلك على الكفر البواح وهم يدرون أو لا يدرون!؛ وكذلك الصلاة -عمود الإسلام، آخرُ ما يُفقد من الدين، فإذا فُقدت فُقد الدين، الصلاة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم على تاركها بالكفر والشرك والخروج من الملة- فقد هَوَّنوا مِن شأنها، لأنها عَمَلٌ، وجادَلوا عن تاركِها أيما جدالٍ، إلى أنْ هانَ على الناس تَرْكُها، وأصبح تَرْكُها صفةً لازِمةً لكثيرٍ مِنَ الناسِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله!؛ فقالوا لهم {لا عليكم، هذا الكفر كفر عمل، وكفر العمل -ما دام عملًا- ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وإنما هو كفر أصغر، وكُفرٌ دُونَ كُفرٍ} [قالَ الشيخُ الطرطوسي في موضع آخَرَ مِن كتابِه: فإذا أطلَقَ الشارِعُ على فِعلٍ مُعَيَّنٍ حُكْمَ الكُفرِ، فالأصلُ أنْ يُحمَلَ هذا الكُفرُ على ظاهِرِه ومَدلولاتِه الشَّرعِيَّةِ، وهو الكٌفرُ الأكبَرُ المُناقِضُ لِلإيمانِ الذي يُخرِجُ صاحِبَه مِنَ المِلَّةِ ويُوجِبُ لِصاحِبِه الخُلودَ في نارِ جَهَنَّمَ، ولا يَجوزُ صَرفُ هذا الكُفرِ عن ظاهِرِه ومَدلولِه هذا إلى كُفرِ النِّعمةِ -أو الكُفرِ الأصغَرِ- الرَّدِيفِ لِلمَعصِيَةِ (أَوِ الذَّنبِ الذي لا يَسْتَوْجِبُ الخُلودَ في نارِ جَهَنَّمَ) إلَّا بِدلِيلٍ شَرعِيٍّ آخَرَ يُفِيدُ هذا الصَّرفَ والتَّأْوِيلَ، فَإذا اِنعَدَمَ الدَّلِيلُ أَوِ القَرِينةُ الشَّرعِيَّةُ الصارِفةُ تَعَيَّنَ الوُقوفُ على الحُكْمِ بِمَدلولِه ومَعناه الأَوَّلِ ولا بُدَّ. انتهى. وجاء في الموسوعة العَقَدِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): الأَصْلُ أنْ تُحمَلَ ألفاظُ الكُفرِ والشِّركِ الوارِدةُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ على حَقِيقَتِها المُطلَقةِ، ومُسَمَّاها المُطلَقِ، وذلك كَوْنُها مُخرِجةً مِنَ المِلَّةِ، حتى يَجِيءَ ما يَمْنَعُ ذلك ويَقتَضِي الحَمْلَ على الكُفرِ الأصغَرِ والشِّركِ الأصغَرِ. انتهى باختصار. وقال الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): ضابِطُ الكُفرِ الأصغَرِ، هو كُلُّ ذَنبٍ سَمَّاه الشارِعُ كُفرًا مع ثُبوتِ إسلامِ فاعِلِه بِالنَّصِّ أو بِالإجماعِ... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: الأصلُ أنْ تُحمَلَ ألفاظُ الكُفرِ والشِّركِ الوارِدة في الكِتابِ والسُّنَّةِ على حَقِيقَتِها المُطلَقةِ ومُسَمَّاها المُطلَقِ، وذلك كَوْنُها مُخرِجةً مِنَ المِلَّةِ، حتى يَجِيءَ ما يَمْنَعُ ذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: الأصلُ في نَفيِ الإيمانِ- في النُّصوصِ- أنَّه على مَراتِبَ، أَوَّلُها نَفيُ الصِّحَّةِ، فَإنْ مَنَعَ مانِعٌ فَنَفيُ الكَمَالِ الواجِبِ. انتهى]، فوسعوا بذلك دائرة الكفر العملي الأصغر [أي لما أدخلوا فيه تَرْكَ الحكم بما أنزل الله وتَرْكَ الصلاة] بغير علم ولا برهان حتى أدخلوا في ساحته الكفر الأكبر، وأئمة الكفر البواح!؛ ومن أخلاقهم وشذوذاتهم كذلك أنهم ضيقوا نواقض التوحيد وحصروها في ناقضة الاستحلال أو الجحود القلبي فقط، والمستحل عندهم الاستحلال الموجب للكفر هو الذي يُسْمِعُهم عبارةَ الاستحلالِ القلبي واضحةً صريحةً، وما سوى ذلك مِنَ القرائنِ العمليةِ الظاهرةِ الدالَّةِ على الرِّضَا والاستحلالِ والجُحودِ وحَقِيقةِ ما وَقَرَ في الباطِنِ، فَلا اِعتِبارَ لها [جاءَ في (المَوسوعةِ الفِقهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ) تَحْتَ عُنوانِ (الْقَضَاءُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ): الْقَرِينَةُ لُغَةً الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ فِي الاِصْطِلاحِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِهِ دَلالَةً وَاضِحَةً بِحَيْثُ تُصَيِّرُهُ فِي حَيِّزِ الْمَقْطُوعِ بِهِ [قالَ الشيخُ عوض عبدالله أبو بكر (أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم) في (كِتابِ "مَجَلَّةُ مَجْمَعِ الفِقهِ الإسلامِيِّ" التي تَصْدُرُ عَنِ مُنَظَّمَةِ المُؤتَمَرِ الإسلامِيِّ بِجُدَّةَ): القَرِينةُ القاطِعةُ [هي القَرِينةُ] الواضِحةُ الدَّلالةُ على ما يُرادُ إثباتُه... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: ولا شَكَّ أنَّ القَرِينةَ القاطِعةَ -كَما يُطلِقُ عليها الفُقَهاءُ- تُفِيدُ عِلْمَ طُمَأْنِينةٍ الذي هو أقَلُّ دَرَجةً مِن الضَّرورِيِّ أو اليَقِينِيِّ، وَفَوقَ الظَّنِّ [أيْ وَفَوقَ الظَّنِّ غَيْرِ الْغَالِبِ الذي يَتَمَثَّلُ في الوَهمِ والشَّكِّ]، فَهِيَ التي تُؤَدِّي إلى اِطْمِئنانِ القَلْبِ بحيث يَغْلِبُ على الظَّنِّ دَلالَتُها على المُرادِ المَجهولِ، فَيُطرَحُ اِحتِمالُ عَدَمِ دَلالَتِها، وغالِبُ الظَّنِّ مُلحَقٌ بِاليَقِينِ وتُبنَى عليه الأحكامُ الشَّرعِيَّةُ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: إنَّه كُلَّما تَكاثَرَتِ القَرائنُ وتَضافَرَتْ على أمرٍ مُعَيَّنٍ، يُقَوِّي بَعضُها بَعضًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى اِتِّضاحِ المَجهولِ وانكِشافِه فَتَكونُ خَيْرَ مُعِينٍ لِلْقاضِي في تَأسِيسِ حُكمِه؛ وبِالطَّبعِ كُلَّما قَلَّتِ القَرائنُ وضَعُفَتْ صارَتْ دَلالَتُها غَيْرَ مُقنِعةٍ ويَشُوبُها الاحتِمالُ والشَّكُّ، ولا يَجوزُ لِلْقاضِي أنْ يُؤَسِّسَ حُكمَه على الشَّكِّ الذي يَستَوِي فيه الطَّرَفان بحيث لا يَمِيلُ القَلبُ إلى جانِبٍ أو طَرَفٍ وَهُنا يَكونُ حُكْمُه مَشُوبًا ومَعِيبًا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدالكريم الخضير (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في (شرح القواعد الفقهية): الفُقَهاءُ ما حَمَلُوا اليَقِينَ على وَجْهِه وعلى أَصْلِه، بَلْ تَوَسَّعُوا فيه فَأَدْخَلُوا فيه المَظْنُونَ، يَقولُ النووي في (المجموع) {وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ، وَيُرِيدُونَ بِهِمَا الظَّنَّ الظَّاهِرَ [أَيِ الغالِبَ] لَا حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ}، يَعْنِي مِن بابِ التَّجَوُّزِ والتَّوَسُّعِ، وإلَّا فالعِلْمُ شَيءٌ والظَّنُّ شَيءٌ [آخَرُ]، فالذي يَغْلِبُ على الظَّنِّ [هو] ظنٌّ، هذا اِحتِمالٌ [لِأنَّه ظَنٌّ لا يَقِينٌ]، الرَّاجِحُ [هو] ظَنٌّ، والذي لا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ [هو] عِلْمٌ ويَقِينٌ. انتهى. وقالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ الْقَزْوِينِيُّ (ت623هـ) في (الشَّرحُ الكَبِيرُ): قد يُتَساهَلُ في إطلاقِ لَفْظِ (اليَقِينِ) على (الظَّنِّ الغالِبِ). انتهى]، كَمَا لَوْ ظَهَرَ إِنْسَانٌ [وَهُوَ خَارِجٌ] مِنْ دَارٍ، وَمَعَهُ سِكِّينٌ فِي يَدَيْهِ، وَهُوَ مُتَلَوِّثٌ بِالدِّمَاءِ، سَرِيعُ الْحَرَكَةِ، عَلَيْهِ أَثَرُ الْخَوْفِ، فَدَخَل إِنْسَانٌ أَوْ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَوَجَدُوا بِهَا شَخْصًا مَذْبُوحًا لِذَلِكَ الْحِينِ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ [أيْ مُتَلَطِّخٌ] بِدِمَائِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي وُجِدَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الدَّارِ، فَإِنَّهُ لا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ قَاتِلُهُ، وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ ذَبَحَ نَفْسَهُ، أَوْ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَتَلَهُ ثُمَّ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ وَهَرَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ اِحْتِمَالٌ بَعِيدٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ؛ وَلا خِلافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْقَرِينَةِ الْقَاطِعَةِ [قُلْتُ: لا خِلافَ على اِعتِبارِ القَرائنِ في جَرائمَ التَّعزِيرِ؛ أمَّا جَرائمُ الحُدودِ والقِصاصِ فالجُمهورُ لا يَعتَبِرُ فيها إلَّا الاعتِرافَ، أو البَيِّنةَ (وهي شَهَادَةُ الشُّهُودِ)، أمَّا القَرائنُ فَلا اِعتِبارَ لها؛ والتَّعزِيرُ هو كُلُّ عُقوبةٍ في مَعْصِيَةٍ لا حَدَّ فيها ولا قِصَاصَ ولا كَفَّارةَ، وهذه العُقوبةُ تُقَدَّرُ بِالإجتِهادِ؛ وعلى ذلك فَإنَّ المِثالَ المَذكورُ هُنَا لا يُمكِنُ الحُكْمُ فيه على المُتَّهَمِ بِالقِصاصِ إلَّا إذا وُجِدَ الاعتِرافُ أوِ البَيِّنةُ، فَإذا عُدِمَا فَلَيسَ لِلْقاضِي إلَّا الحُكْمُ بِعُقوبةٍ تَعزِيرِيَّةٍ بِمُقتَضَى القَرائنِ القَوِيَّةِ. وقد قالَ الشيخُ صلاح نجيب الدق (رئيس اللجنة العلمية بجمعية أنصار السُّنَّة المحمدية "فرع بلبيس") في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (أحكامُ التَّأدِيبِ) على هذا الرابط: المَعاصي ثَلاثةُ أنواعٍ؛ الأوَّلُ، فيه الحَدُّ، ولا كَفَّارةَ فيه، كالسَّرِقةِ، وشُربِ الخَمرِ، والزِّنا، والقَذفِ؛ الثانِي، فيه الكَفَّارةُ، ولا حَدَّ فيه، كَجِماع الزَّوجِ لِزَوجَتِه في نَهارِ رَمَضانَ؛ الثالِثُ، لا حَدَّ فيه ولا كَفَّارةَ، ولَكِنَّ فيه التَّعزِيرَ. انتهى باختصار]، مُسْتَدِلِّينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ؛ فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِهِ إِلَى أَبِيهِمْ تَأَمَّلَهُ، فَلَمْ يَرَ خَرْقًا وَلا أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَذِبِهِم؛ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِابْنَيْ عَفْرَاءَ، لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟}، فَقَالا {لا}، فَقَالَ {أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا}، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا قَالَ {هَذَا قَتَلَهُ}، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ [قالَ الشيخُ اِبنُ باز على موقعه في هذا الرابط: وكانَ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يُنادِي في بَعضِ الْغَزَوَاتِ {مَن قَتَلَ قَتِيلًا، له عليه بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ اِبنُ باز-: وفي حَدِيثِ بَدْرٍ، أنَّ مُعَاذًا وَمُعَوِّذًا اِبْنَيْ عَفْرَاءَ، [وَهُمَا] اِبْنَا عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، اِشتَرَكا في قَتلِ أبِي جَهلٍ يَومَ بَدْرٍ، وَهُمَا مِنَ الأنصارِ، اِبتَدَراه بِسَيْفَيهما جَمِيعًا، فَضَرَباه جَمِيعًا (مُعَاذٌ وَمُعَوِّذٌ)، فَقَتَلاه، فَجاءَا إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبَراه، فَقالَ {كِلَاكُمَا قَتَلَهُ؟} يَعنِي اِشتَرَكْتُما في قَتلِه، ثم قالَ {هَل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟}، قالا {لا}، فَأرِيَاه سَيْفَيْهما، فَرَأَى أنَّ قِتْلَةَ مُعاذٍ أقْوَى، هي القاضِيَةُ، فَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، لِأنَّ ضَربَتَه هي التي قَضَتْ على أبِي جَهلٍ، ثم جاءَ اِبنُ مَسعودٍ بَعْدَ ذلك وحَزَّ رَأْسَه [أيْ فَصَلَ رَأْسَه عن بَدَنِه] وأتَى به [أيْ بِالرَّأْسِ] إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى باختصار. وجاءَ في الموسوعةِ الحَدِيثِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ بَدرٍ {مَن يَنظُرُ ما صَنَعَ أبو جَهلٍ}، أيْ فَيَأْتِيَنا بِأخْبارِه وما فَعَلَ اللهُ به، ويَتَأَكَّدَ مِن مَوتِه، لِيَستَبشِرَ المُسلِمونَ بِذلك، ويَنكَفَّ شَرُّه عنهم، فَبادَرَ إليه عَبدُاللهِ بْنُ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فَوَجَدَه جَرِيحًا مُثخَنًا بِجِراحِه، ولَكِنَّه لم يَمُتْ بَعْدُ، وقدْ ضرَبَه اِبْنَا عَفْراءَ (مُعاذٌ ومُعَوِّذٌ) رَضِيَ اللهُ عنهما، حتَّى بَرَدَ (أيْ حَتَّى أصبَحَ في الرَّمَقِ الأخِيرِ مِن حَياتِه)، لم يَبقَ به إلَّا مِثلُ حَرَكةِ المَذْبوحِ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في كتابِ (دروس للشيخ محمد المنجد): إنَّ اِبْنَيْ عَفْرَاءَ تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، كُلُّ واحِدٍ يَقولُ {أنا قَتَلْتُه}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: فَمِن خِلالِ السُّيُوفِ عُرِفَ -بِالقَرائنِ- مَن هو الذي قَتَلَه فِعلًا، وقُضِيَ له بِسَلَبِهِ. انتهى. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّةُ): وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الأحْكَامِ، وَأَحَقِّهَا بِالاتِّبَاعِ، فَالدَّمُ فِي النَّصْلِ شَاهِدٌ عَجِيبٌ. انتهى]، فَاعْتَمَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأثَرِ فِي السَّيْفِ؛ وَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ سَاقَ اِبْنُ الْقَيِّمِ [في كِتابِه (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّةُ)] كَثِيرًا مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي قَضَى فِيهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى الْقَرَائِنِ... ثم جاءَ -أَيْ في الموسوعةِ- تحت عنوان (الْقَضَاءُ بِالْفِرَاسَةِ): الْفِرَاسَةُ فِي اللُّغَةِ الظَّنُّ الصَّائِبُ النَّاشِئُ عَنْ تَثْبِيتِ النَّظَرِ فِي الظَّاهِرِ لِإدْرَاكِ الْبَاطِنِ، وَلا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ، وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ لا يَرَوْنَ الْحُكْمَ بِالْفِرَاسَةِ، فَإِنَّ مَدَارِكَ الأحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتِ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا، ولِأنَّهَا حُكْمٌ بِالظَّنِّ [أيِ الظَّنِّ غَيْرِ الْغَالِبِ] وَالتَّخْمِينِ، وَهِيَ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بدر المنياوي في (كِتابِ "مَجَلَّةُ مَجْمَعِ الفِقهِ الإسلامِيِّ" التي تَصْدُرُ عَنِ مُنَظَّمَةِ المُؤتَمَرِ الإسلامِيِّ بِجُدَّةَ) تَحتَ عُنوانِ (القَرائنُ في الفِقهِ الإسلامِيِّ): القَرِينةُ -في الاصطِلاحِ- اِستِنباطُ واقِعةٍ مَجهولةٍ، مِن واقِعةٍ مَعلومةٍ، لِعَلاقةٍ تَربِطُ بَيْنَهما، فالفَرضُ أنَّ هناك واقِعةً يُرادُ إثباتُها، والفَرضُ كذلك أنَّ هذه الواقِعةُ مَجهولةٌ بِمَعْنَى أنَّه لم يَقُمْ عليها دَلِيلٌ مُباشِرٌ [أيْ مِن أدِلَّةِ الثُّبوتِ الشَّرعِيَّةِ أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (وسائلُ الإثباتِ الشَّرعِيَّةُ) أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (أدِلَّةُ الحِجَاجِ) أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (أدِلَّةُ تَصَرُّفِ الحُكَّامِ)]، فَلَمْ يَصدُرْ بِها إقرارٌ (أوِ اِعتِرافٌ)، ولم يَرِدْ عليها شُهودٌ، ولم تُثبِتْها يَمِينٌ، أو قامَ عليها شَيءٌ مِن ذلك ولَكِنْ دُونَ القَدرِ الكافِي لإثباتِها، وليس أمامَ القاضِي مَنَاصٌ مِن أنْ يَقضِيَ في أمرِ ثُبوتِ هذه الواقِعةِ المَجهولةِ أو عَدَمِ ثُبوتِها، وذلك لِيَفصِلَ في الخُصومةِ المَرفوعةِ إليه بِما يَتَّفِقُ مع الحَقِيقةِ القَضائيَّةِ، وبِالتالِي، فَإنَّه وقد عَزَّ الدَّلِيلُ المُباشِرُ الكافِي فَقَدْ تَعَيَّنَ البَحثُ عن دَلِيلٍ غَيرِ مُباشِرٍ يَتَمَثَّلُ في واقِعةٍ أُخرَى تُرشِدُ عنِ الواقِعةِ الأصلِيَّةِ بِوَصفِها أمارَةً لَها أو عَلَامةً عليها. انتهى. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (إعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ): الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الأئِمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ واعتِبَارِهَا فِي الأحْكَامِ. انتهى. وقالَ الشيخُ عوض عبدالله أبو بكر (أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم) في (نظام الإثبات في الفقه الإسلامي): فَإنَّ [مِنَ] المُتَّفَقِ عليه هو أنَّ سَبيلَ الإدراكِ بِالفَراسةِ مُستَتِرٌ، وطَرِيقُ المَعرِفةِ بها طَرِيقٌ خَفِيٌّ، وخُطُواتُ الاستِنتاجِ فيها غَيرُ ظاهِرةٍ إلَّا لِمَن صَفَا فِكْرُه وكانَ حادَّ الذَّكاءِ، أو كانَ مِن المُؤمِنِين الصادِقِين الذِين يَنظُرون بِنُورِ اللهِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: المُتَفَرِّسُ يُدرِكُ الأمرَ بِأُسلوبٍ مُستَتِرٍ، فَقَدْ يَكونُ اِستِنتاجُه هذا مَبنِيًّا على عَلاماتٍ خَفِيَّةٍ تَفَرَّسَها، وقد يَكونُ مَبنِيًّا على خَواطِرَ إلهامِيَّةٍ قَذَفَها اللهُ في قَلبِه ونَطَقَ بِها لِسانُه... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: لَمَّا كانَ الاستِدلالُ بِالفَراسةِ لا يَقومُ على أُسُسٍ واضِحةٍ ظاهِرةٍ -حيث أنَّ خُطُواتِ الاستِنتاجِ فيها خَفِيَّةٌ غَيرُ مَعروفةٍ لِغَيرِ المُتَفَرِّسِ- فَقَدْ مَنَعَ جُمهورُ الفُقَهاءِ بِناءَ الأحكامِ القَضائيَّةِ على الفَراسةِ، وقالوا {إنَّها لا تَصلُحُ مُستَنَدًا لِلْقاضِي في فَصلِ الدَّعوَى، إذْ أنَّ القاضِي لا بُدَّ له مِن حُجَّةٍ ظاهِرةٍ يَبنِي عليها حُكْمَه}... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: أبو الوفاءِ اِبْنُ عَقِيلٍ قالَ {إنَّ الحُكمَ بِالقَرِينةِ ليس مِن بابِ الحُكمِ بِالفَراسةِ التي تَختَفِي فيها خُطُواتُ الاستِنتاجِ}... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (الفَرقُ بَيْنَ القَرِينةِ والفَراسةِ): أوَّلًا، إنَّ القَرِينةَ عَلامةٌ ظاهِرةٌ مُشاهَدةٌ بِالعِيانِ، كَمَن يَرَى رَجُلًا مَكشوفَ الرَّأْسِ -وليس ذلك مِن عادَتِه- يَعدُو وَراءَ آخَرَ هارِبًا وبِيَدِ الهارِبِ عِمَامَةٌ [قالَ اِبنُ عابدين في (رد المحتار على الدر المختار):وَثُبُوتُ الْيَدِ دَلِيلُ المِلْكِ. انتهى. وجاءَ في (المَوسوعةِ الفِقهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ): اِتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ دَلِيلُ الْمِلْكِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أسامة سليمان (مديرُ إدارة شؤون القرآن بجماعة أنصار السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ) في (التعليق على العدة شرح العمدة): الأصلُ أنَّ ما في حَوزَتِي مِلْكٌ لي، فالأصلُ في الحِيَازِة المِلكِيَّةُ. انتهى] وعلى رَأسِه عِمَامَةٌ، فَهذه قَرِينةٌ مُشاهَدةٌ بِالعَينِ الحِسِّيَّةِ، ودَلالَتُها -كَما يَقولُ العُلَماءُ- واضِحةٌ على أنَّ العِمامةَ لِلرَّجُلِ مَكشوفِ الرَّأسِ، ولا يُقالُ عَمَّن يَرَى هذه العَلامةَ ويَستَنتِجُ هذا الحُكمَ {إنَّه مُتَفَرِّسٌ}؛ ثانِيًا، إنَّ رُؤْيَةَ القَرِينةِ لا تَتَطَّلَبُ مُواصَفاتٍ مُعَيَّنةً في الرائي، كَصِدقِ الإيمانِ، وصَفاءِ الفِكْرِ وحِدَّةِ الذَّكاءِ، وذلك لِأنَّ خُطُواتِ الاستِنتاجِ فيها ظاهِرةٌ واضِحةٌ، حتى أنَّ الدَّقِيقَ منها كَتِلك التي تَقومُ على التَّجارِبِ العِلْمِيَّةِ [كالتَّسجِيلِ الصَّوتِيِّ، وبَصَماتِ الأصابِعِ] لَها أُسُسُها وضَوابِطُها وقانونُها الذي يَسهُلُ الاطِّلاعُ عليه ومَعرِفَتُه، أمَّا الفَراسةُ فَهي تَتَطَّلَبُ مُواصَفاتٍ مُعَيَّنةٍ في المُتَفَرِّسِ، صِدقَ إيمانٍ، أو حِدَّةَ ذَكاءٍ وصَفاءَ فِكرٍ، وذلك لِأنَّ خُطُواتِ الاستِنتاجِ فيها مُستَتِرةٌ خَفِيَّةٌ؛ ثالِثًا، إنَّه يُمكِنُ أنْ تُقامَ البَيِّنةُ [وهي شَهَادَةُ الشُّهُودِ] على وُقوعِ القَرِينةِ ويَتَأَكَّدَ القاضِي مِن ثُبوتِها، فَفِي المِثالِ المُتَقَدِّمِ قد يَشهَدُ اِثنان أو أَكثَرُ على رُؤْيَةِ الواقِعةِ، أمَّا الفَراسةُ فَلا يَتَوَفَّرُ فيها ذلك، فَلا يَستَطِيعُ أحَدٌ الشَّهادةِ عليها، وإنْ صَحَّ وُقوعُها على قَلبِ اِثنَين أو أَكثَرَ فَتِلك حالةٌ نادِرةٌ؛ رابِعا، القَرِينةُ قد تَصلُحُ دَلِيلًا لِبِناءِ الأحكامِ القَضائيَّةِ ومُستَنَدًا لِلْقاضِي في فَصلِ النِّزاعِ، أمَّا الفَراسةُ فَلا يَصِحُّ الحُكْمُ بِها على قَولِ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عوض عبدالله أبو بكر أيضًا في (كِتابِ "مَجَلَّةُ مَجْمَعِ الفِقهِ الإسلامِيِّ" التي تَصْدُرُ عَنِ مُنَظَّمَةِ المُؤتَمَرِ الإسلامِيِّ بِجُدَّةَ) تحت عُنوانِ (مَعْنَى القَرِينةِ لُغَةً): القَرِينةُ جَمعُها قَرائنُ، قارَنَ الشَّيءَ يُقارِنُه مُقارَنةً وقِرانًا ([أيْ] اِقتَرَن به وصاحَبَه)، وقارَنْتُه قِرانًا ([أيْ] صاحَبْتُه)، وقَرِينةُ الرَّجُلِ اِمرَأَتُه، وسُمِّيَتِ الزَّوجةُ قَرِينةٌ لِمُقارَنةِ الرَّجُلِ إيَّاها، وقَرِينةُ الكَلامِ ما يُصاحِبُه ويَدُلُّ على المُرادِ به، والقَرِينُ [هو] المُصاحِبُ و[هو] الشَّيطانُ المَقرونُ بِالإنسانِ لا يُفارِقُه... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: القَرِينةُ -اِصطِلاحًا- أمْرٌ أو أمَارةٌ (أيْ عَلَامَةٌ) تَدُلُّ على أمرٍ آخَرَ وهو المُرادُ، بِمَعْنَى أنَّ هناك واقِعةً مَجهولةً يُرادُ مَعرِفَتُها فَتَقومُ هذه العَلَامَةُ -أو مَجموعةُ العَلَاماِتِ- بِالدَّلالةِ عليها، وهي لا تَختَلِفُ عن المَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِأنَّ هذه العَلاماتِ تُصاحِبُ الأمرَ المَجهولَ فَتَدُلُّ عليه، أيْ تَدُلُّ عليه لِمُصاحَبَتِها له؛ مِثالُ ذلك، أنْ يُرى شَخصٌ يَحمِلُ سِكِّينًا مُلَطَّخةً بِالدِّماءِ وهو خارِجٌ مِن دارٍ مَهجورةٍ خائفًا يَرتَجِفُ، فَيَدخُلُ شَخصٌ أو أشخاصٌ تلك الدَّارَ على الفَورِ فَيَجِدون آخَرَ مَذبوحًا لِفَورِه مُضَرَّجًا [أيْ مُلَطَّخًا] بِدِمائه وليس في الدَّارِ غَيرُه، فالمُرادُ مَعرِفَتُه [هنا] هو شَخصِيَّةُ القاتِلِ، والعَلاماتُ التي تَدُلُّ عليه هي خُروجُ ذلك الرَّجُلِ وَبِتِلك الهَيئَةِ التي تَحمِلُ على الاعتِقادِ أنَّه القاتِلُ، وذلك عند عَدَمِ اِعتِرافِه أو [عَدَمِ] قِيَامِ البَيِّنةِ على القاتِلِ، فالاعتِرافُ والبَيِّنةُ [قالَ الشيخُ ناصر بن عقيل بن جاسر الطريفي (الأستاذ المساعد في كلية الشريعة بالرياض) في مجلة البحوث الإسلامية (التي تَصْدُرُ عنِ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد): ذَهَبَ جُمهورُ الفُقَهاءِ إلى أنَّ المُرادَ بِالبَيِّنةِ الشُّهودُ. انتهى. وقالَ الشَّافِعِيُّ [في (الرسالة)]: لَيْسَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الشُّهودِ الْعُدُولِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِمُ الْغَلَطُ، وَلَكِنْ تَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ صِدْقِهِمْ، وَاللَّهُ وَلِيُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْهم. انتهى باختصار] دَلِيلان يَتَناوَلان الواقِعةَ المَجهولةَ مُباشَرةً، أمَّا العَلَاماتُ فَإنَّها تَدُلُّ عليها دَلالةً، أيْ يُؤْخَذُ منها [أيْ مِنَ العَلَاماتِ] بِالدَّلالةِ والاستِنتاجِ حُكْمُ الواقعةِ المَجهولةِ، ومِنَ الواضِحِ في هذا المِثالِ أنَّ الاستِدلالَ على شَخصِيَّةِ القاتِلِ اِستِنتاجًا مِن هذه العَلاماتِ المَذكورةِ أمرٌ مَنطِقِيٌّ ومَعقُولٌ، فالارتِباطُ وَثِيقٌ بَيْنَ خُطُواتِ الاستِنتاجِ والنَّتِيجةِ المُستَنتَجةِ، ولا عَتْبَ على القاضِي إذَنْ إذَا بَنَى حُكمَه بِناءً على هذه الوَقائعِ مُطمَئنًّا على سَلامةِ اِستِنتاجِه؛ أمَّا إذا لم يَكُنِ الاستِدلالُ قائمًا على عَلاماتٍ واضِحةٍ أو أسبابٍ مُقنِعةٍ بحيث يَظهَرُ بِوُضوحٍ الارتِباطُ بَيْنَ خُطُواتِ الاستِنتاجِ والنَّتِيجةِ، فَمِنَ العَسِيرِ التَّسلِيمُ لِلْقاضِي بِسَلامةِ الحُكمِ، ولِهذا فَقَدْ مَنَعَ الفُقَهاءُ القاضِي مِن بِناءِ حُكمِه على القَرائنِ الضَّعِيفةِ التي تَتَّسِعُ فيها دائرةُ الاحتِمالِ والشَّكِّ، كَما مَنَعوه مِن بِناءِ حُكمِه على الفَراسةِ التي تَختَفِي فيها خُطُواتُ الاستِنتاجِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: الدَّعاوَى الجِنائيَّةُ في الفِقهِ الإسلامِيِّ تَنقَسِمُ إلى طَوائفَ ثَلاثةٍ، دعاوى حَدِّيَّةٌ، ودَعاوَى قِصاصٍ، ودَعاوَى تَعزِيرِيَّةٌ، وتَأثِيرُ القَرائنِ في كُلِّ طائفةٍ مِن هذه الطَّوائفِ مُختَلِفٌ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (أثَرُ القَرِينةِ في دَعاوَى الحُدودِ): الحَدُّ يَعنِي -عند فُقَهاءِ الشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ- العُقوبةَ التي تَكونُ خالِصَ حَقِّ الِلهَ تعالَى، أو يَكونُ حَقُّ اللهِ تَعالَى فيها غالِبًا، فَيُعَرِّفون الحَدَّ في الاصطِلاحِ بِأنَّه (العُقوبةُ المُقَدَّرةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعالَى)، فَلا يُسَمَّى القِصاصُ حَدًّا لِأنَّ حَقَّ العَبدِ فيه غالِبٌ، ولا يُقالُ عنِ التَّعزِيرِ {إنَّه حَدٌّ} لِأنَّ العُقوبةَ فيه غَيرُ مُقَدَّرةٍ بِنَصٍّ شَرعِيٍّ؛ وقد حَصَرَ الفُقَهاءُ جَرائمَ الحُدودِ في السَّرِقةِ وعُقوبَتُها على مَن تَثبُتُ عليه بِقَطعِ اليَدِ، والحَرابةِ وعُقوبَتُها القَطعُ مِن خِلافٍ، والزِّنَا وعُقوبَتُه الجَلدُ مِائةً على غَيرِ المُحصَنِ والرَّجمُ لِلْمُحصَنِ، والقَذفِ وعُقوبَتُه الجَلدُ ثَمَانِينَ، وشُربِ الخَمرِ وعُقوبَتُه ثَمانون (أو أربَعون عند البَعضِ)، والرِّدَّةِ عنِ الإسلامِ وعُقوبَتُها القَتلُ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: هَلْ تُفِيدُ القَرائنُ في إثباتِ الحُدودِ؟، جُمهورُ الفُقَهاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ والشافِعِيَّةِ والحَنابِلةِ والظاهِرِيَّةِ يَقولون {إنَّ الحُدودَ لا تَثبُتُ بِالقَرائنِ، ولا تَثبُتُ إلَّا بِما حَدَّه الشَّرعُ مِن طُرُقٍ، ولَيسَتِ القَرائنُ مِن بَيْنِ هذه الطُّرُقِ}... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: الجُمهورُ مِنَ الحَنَفِيَّةِ والشافِعِيَّةِ والحَنابِلةِ والظاهِرِيَّةِ يَرَون أنَّه لا مَجالَ لِإعمالِ القَرائنِ في إثباتِ الحُدودِ، وإنْ كانَتْ [أيِ القَرائنُ] تَصلُحُ لِدَرءِ الحَدِّ الثابِتِ كَما في قَرِينةِ وُجودِ البَكارةِ في المَرأَةِ بَعْدَ ثُبوتِ الزِّنَا عليها [فإذا شَهِدَ أربَعةٌ بِزِنَى اِمرَأَةٍ، وشَهِدَ أربَعٌ مِنَ النِّسوةِ بِأَنَّها عَذراءُ، فَإنَّها لا تُحَدُّ لِشُبهةِ بَقاءِ العُذرةِ الظاهِرةِ في أنَّها لم تَزنِ، ومَعلومٌ أنَّ الحَدَّ يُدرَأُ بِالشُّبهةِ]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تَحْتَ عُنوانِ (أثَرُ القَرِينةِ في إثباتِ جَرائمِ القِصاصِ): جاءَتْ شَرِيعةُ اللهِ بِالقِصاصِ [الْقِصَاصُ -أوِ القَوَدُ- هُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِالْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ؛ وإذا عَفَا المَجنِيُّ عليه -أو وَرَثةُ الدَّمِ في حالةِ مَوتِ المَجنِيِّ عليه- عنِ القِصاصِ إلى الدِّيَةِ أو إلى غَيرِ عِوَضٍ، فَإنَّ ذلك جائزٌ] وتَعَقُّبِ الجُناةِ وإنزالِ العُقوباتِ عليهم، وتَوَلَّى المُشَرِّعُ الحَكِيمُ تَقدِيرَ عُقوباتِ القِصاصِ، ومع تَقدِيرِ هذه العُقوبةِ تَرَكَ لِأولِياءِ القَتِيلِ -لِمَا لَهم مِن حَقٍ في دَمِه- حَقَّ التَّنازُلِ والصَّفحِ عنِ القاتِلِ إذا ما هَدَأَتْ ثَورَتُهم وسَكَنَ غَضَبُهم، ولِهذا لم تُلحَقْ جِرائمُ القِصاصِ بِجَرائمِ الحُدودِ لِغَلَبةِ حَقِّ العَبدِ فيها... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: يَنقَسِمُ القَتلُ عند جُمهورِ فُقَهاءِ الشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ إلى عَمدٍ وشِبهِ عَمدٍ وخَطَأٍ؛ فالقَتلُ العَمدُ هو الذي قَصَدَ الجانِي إلى إحداثِه، أيْ تَوَفَّرَتْ لَدَيْه نِيَّةُ القَتلِ عند إقدامِه على الجِنايَةِ، ولَمَّا كانَتِ العَمدِيَّةُ صِفةً قائمةً بِالقَلبِ لا يُمكِنُ الاطِّلاعُ عليها، اِتَّخَذَ الفُقَهاءُ مِنَ القَرائنِ ما يَدُلُّ عليها، فَإذا كانَتِ الوَسِيلةُ مِمَّا يَقتُلُ غالِبًا كَسَيفٍ أو رُمحٍ أو زُجاجٍ كانَ القَتلُ قَتلًا عَمدًا لِأنَّ هذه الوَسِيلةَ قَرِينةٌ على إرادةِ القَتلِ؛ أمَّا إذا كانَتِ الآلةُ مِمَّا لا يَقتُلُ غالِبًا يَكونُ القَتلُ شِبهَ عَمدٍ، لِأنَّ الوَسِيلةَ التي اِستَعمَلَها لا تَدُلُّ على أنَّ نِيَّةَ القَتلِ كانَتْ مُتَوَفِّرةً، لِأنَّه قد يَقصِدُ الإيذاءَ مِن جُرحٍ أو غَيرِه وقد يَقصِدُ القَتلَ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (أثَرُ القَرِينةِ في إثباتِ القَسامةِ): إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَ أيْمانَ القَسامةِ [قالَ (موقعُ الإسلام سؤال وجواب) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط: القَسامةُ -في الشَّرعِ- أنْ يُقسِمَ خَمسون مِن أولِياءِ القَتِيلِ على اِستِحقاقِهم دِيَةَ قَتِيلِهم، إذا وَجَدوه قَتِيلًا بَيْنَ قَومٍ ولم يُعرَفْ قاتِلُه، فَإنْ لم يَكونوا خَمسِين رَجُلًا أقسَمَ المَوجودون خَمسِين يَمِينًا، فَإنِ اِمتَنَعوا وطَلَبوا اليَمِينَ مِنَ المُتَّهَمِين رَدَّها القاضِي عليهم [أيْ على المُتَّهَمِين] فَأَقسَموا بِها على نَفيِ القَتلِ عنهم؛ فَإنْ حَلَفَ المُدَّعون اِستَحقُّوا الدِّيَةُ، وإنْ حَلَفَ المُتَّهَمون لم تَلزَمْهم الدِيَةُ. انتهى. وقالَ الشنقيطي في (أضواء البيان): فَإِنِ اِمْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَمِينِ [أيْ في حالةِ ما رَدَّ عليهم القاضِي أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ]، فَأَظْهَرُ الأقْوَالِ عِنْدِي أَنَّهُمْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ بِنُكُولِهِمْ عَنِ الأيْمَانِ. انتهى باختصار. وجاءَ في هذا الرابط على مَوقِعِ الشيخِ اِبنِ باز، أنَّ الشَّيخَ سُئِلَ {في القَسَامةِ، الذِين يُقْسِمون يُقْسِمون على غَلَبةِ الظَّنِّ أنَّ هذا هو القاتِلُ؟}؛ فَأجابَ الشيخُ: نَعَمْ، على غَلَبةِ الظَّنِّ، حَسَبَ القَرائنِ (العَداوةِ والشَحْنَاءِ ونَحوِها)، شَرطُها أنْ يَكونَ هناك غَلَبةُ ظَنٍّ، غالِبُ الظَّنِّ على أنَّ القاتِلَ هؤلاء. انتهى باختصار. وجاءَ في كتابِ (مجلة البحوث الإسلامية "التي تَصْدُرُ عَنِ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد"): قالَ محمد بن رشد [في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد)] {أَمَّا وُجُوبُ الْحُكْمِ بِهَا [أيْ بِالقَسَامةِ] عَلَى الْجُمْلَةِ، فَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الأمْصَارِ (مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الأمْصَار)}. انتهى. وقالَ النَّوَوِيُّ في (رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ): الْقَسَامَةُ هِيَ الأيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ بِمَوْضِعٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ، وَيَدَّعِي وَلِيُّهُ قَتْلَهُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَتُوجَدُ قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِصِدْقِهِ، فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَيُحْكَمُ لَهُ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صلاح نجيب الدق (رئيس اللجنة العلمية بجمعية أنصار السُّنَّة المحمدية "فرع بلبيس") في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (أحكام القسامة) على هذا الرابط: القَسَامَةُ لا يُقتَصُّ بِها مِن أحَدٍ، وإنَّما يُحْكَمُ فيها بِالدِّيَةِ فَقَطْ؛ قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ [في (فَتْحُ الباري)] {الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فِي أَنَّهُ لَا قَوَدَ [أيْ لا قِصاصَ] فِيهَا]}. انتهى باختصار]، فَأجازَ لِأولِيَاءِ القَتِيلِ الحَلِفَ لِإثباتِ القَتلِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (دَورُ القَرِينةِ في إثباتِ القَسامةِ): فَجُمهورُ القائلِين بِالقَسامةِ يَرَى أنَّ القَسامةَ لا تَجِبُ إلَّا مع اللَّوثِ [جاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ الكُوَيْتِيَّةِ: اللَّوْثُ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي؛ وَالصِّلَةُ بَيْنَ اللَّوْثِ وَبَيْنَ الْقَسَامَةِ أَنَّ اللَّوْثَ شَرْطٌ فِي الْقَسَامَةِ. انتهى. وقال شمس الدين الرملي (ت1004هـ) في (نهاية المحتاج): اللَّوْثُ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ [أيْ مُتَعَلِّقةٌ بِالحالِ أو بِالمَقالِ] مُؤَيِّدَةٌ، تُصَدِّقُ الْمُدَّعِي بِأَنْ تُوقِعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقَهُ فِي دَعْوَاهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ. انتهى. وقالَ اِبْنُ جُزَيٍّ الْكَلْبِيُّ (ت741ه) في (َالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ): ومِنَ اللَّوثِ أنْ يُوجَدَ رَجُلٌ قُربَ الْمَقْتُولِ مَعَه سَيفٌ أَو شَيْءٌ مِن آلَةِ الْقَتْلِ أو مُتَلَطِّخًا بِالدَّمِ... وقالَ أيضًا -أيِ اِبْنُ جُزَيٍّ-: وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْعدْلِ [الواحِدِ] على الْقَتْلِ لَوثٌ. انتهى. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان في (الملخص الفقهي): وتُشرَعُ القَسامةُ في القَتِيلِ إذا وُجِدَ ولم يُعلَمْ قاتِلُه واتُّهِمَ به شَخصٌ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الفوزان-: اِختارَ شَيخُ الإسلامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ أنَّ اللَّوثَ يَتَناوَلُ كُلَّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّةُ الدَّعْوَى [بِهِ]؛ كَتَفَرُّقِ جَمَاعَةٍ عَنْ قَتِيلٍ، وَشَهَادَةِ مَن لَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِمْ [كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد رأفت عثمان (عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر) في (النظام القضائي في الفقه الإسلامي): ويَرَى جُمهورُ العُلَماءِ أنَّ القَرائنَ لَيسَتْ وَسِيلةُ إثباتٍ في القِصاصِ ولو كانَتْ قَوِيَّةَ الدَّلالةِ وقارَبَتِ اليَقِينِ، والواجِبُ حِينَئذٍ هو القَسامةُ. انتهى. وقالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط: اللَّوثُ يَستَحِقُّ به أولِيَاءُ الدَّمِ القَسامةَ والدِّيَةَ دُونَ القَوَدِ [أي دُونَ القِصَاصِ]. انتهى بتصرف]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: إنَّ القَسامةَ إنَّما شُرِعَتْ لِعَدَمِ وُجودِ البَيِّنةِ الكامِلةِ المُباشِرةِ [أيْ دَلِيلٍ مُباشِرٍ مِن أدِلَّةِ الثُّبوتِ الشَّرعِيَّةِ أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (وسائلُ الإثباتِ الشَّرعِيَّةُ) أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (أدِلَّةُ الحِجَاجِ) أو مِمَّا يُسَمَّى بِـ (أدِلَّةُ تَصَرُّفِ الحُكَّامِ)] على الفِعْلِ، فاحْتِيجَ إلى دَلائلَ أُخرَى تُغَلِّبُ الظَّنَّ وتُفِيدُ الحُكْمَ فَكانَتِ القَرائنُ القَوِيَّةُ هي التي تُفِيدُ هذا العِلمَ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (أثَرُ القَرِينةِ كَدَلِيلٍ مُجَرَّدٍ عنِ القَسامةِ): تَعَرَّضَ الفُقَهاءُ لِلْقَرِينةِ كَدَلِيلٍ يُوجِبُ القَسامةَ، أمَّا كَونُها دَلِيلًا مُنفَصِلًا يَتَرَتَّبُ عليه حُكْمٌ في دَعوَى الدَّمِ بِغَيرِ أنْ تُعَضَّدَ بِأيمانِ القَسامةِ فَلا نَكادُ نَجِدُ له أثَرًا واضِحًا في كُتُبِهم... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَون أنَّه لَمَّا تَخَلَّفَ الطَّرِيقُ الأصلِيُّ لِلإثباتِ [وهو إمَّا الإقرارُ (أيِ الاعتِرافُ)، أوِ البَيِّنةُ (أيِ الشُّهودُ)] شُرِعَتِ القَسامةُ عندما تُشِيرُ القَرائنُ القَوِيَّةُ إلى المُتَّهَمِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عنوان (أثَرُ القَرِينةِ في الكَشفِ على الجُناةِ وإظهارِ الحَقِّ): هنالك مِنَ الجَرائمِ ما لا يَدخُلُ في نِطاقِ الحُدودِ، كَما لا يَدخُلُ في نِطاقِ القِصاصِ، ومع ذلك لم يَنتَفِ عنه وَصفُ (الجَرِيمةِ)، هذا النَّوعُ مِنَ الجَرائمِ يُسَمَّى جَرائمَ التَّعزِيرِ، حيث تَرَكَ المُشَرِّعُ أمرَ تَقدِيرِ عُقوبَتِها لِوَلِيِّ الأمرِ الذي يَتَوَخَّى في هذا التَّقدِيرِ مِقدارَ الجَرِيمةِ المُقتَرَفةِ ومَصلَحةَ المُجتَمَعِ الإسلامِيِّ، ولِذلك يُعَرِّفُ الفُقَهاءُ التَّعزِيرَ بِأَنَّه {عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلا كَفَّارَةَ [جاءَ في (المَوسوعةِ الفِقهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ): التَّعْزِيرُ فِي الاصْطِلاحِ هُوَ عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلا كَفَّارَةَ غَالِبًا؛ [وَ]قالَ القليوبي {هذا الضابِطُ لِلْغالِبِ، فَقَدْ يُشْرَعُ التَّعْزِيرُ وَلا مَعْصِيَةَ، كَتَأْدِيبِ طِفْلٍ، وَكَمَنْ يَكْتَسِبُ بِآلَةِ لَهْوٍ لا مَعْصِيَةَ فِيهَا... ثم جاءَ -أي في المَوسوعةِ-: وَيَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا؛ (أ)فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِذَا ثَبَتَتِ الْجَرِيمَةُ الْمُوجِبَةُ لَهُمَا لَدَى الْقَاضِي شَرْعًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْحَدِّ أَوِ الْقِصَاصِ عَلَى حَسَبِ الأحْوَال، وَلَيْسَ لَهُ اِخْتِيَارٌ فِي الْعُقُوبَةِ، بَلْ هُوَ يُطَبِّقُ الْعُقُوبَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا شَرْعًا بِدُونِ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَفِي التَّعْزِيرِ يَخْتَارُ الْقَاضِي مِنَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ، فَيَجِبُ عَلَى الَّذِينَ لَهُمْ سُلْطَةُ التَّعْزِيرِ الاجْتِهَادُ فِي اِخْتِيَارِ الأصْلَحِ، لاخْتِلافِ ذَلِكَ بِاخْتِلافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، وَبِاخْتِلافِ الْمَعَاصِي؛ (ب)إِثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الاعْتِرَافِ، وَعَلَى سَبِيل الْمِثَال، لا يُؤْخَذُ فِيهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، بِخِلافِ التَّعْزِيرِ فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخ عبدالعزيز بن زيد العميقان (رئيس محكمتي القويعية وحوطة سدير) في (التَّعزِيراتُ المادَّيَّةُ في الشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ) تحت عُنوانِ (الفَرقُ بَيْنَ الحُدودِ المُقَدَّرةِ "الحُدودِ والقِصاصِ" والتَّعزِيرِ): التَّعزِيرُ يُوافِقُ الحُدودَ مِن وَجهٍ، وهو أنَّه تَأدِيبُ اِستِصلاحٍ وزَجْرٍ، يَختَلِفُ بِحَسَبِ اِختِلافِ الذَّنبِ، ويُخالِفُها مِن عِدَّةِ وُجوهٍ؛ (أ)أنَّ تَأدِيبَ ذِي الهَيئةِ مِن أهلِ الصِّيَانةِ أخَفُّ مِن تَأدِيبِ أهلِ البَذاءِ والسَّفاهةِ، لِقَولِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم {أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئاتِ عَثَرَاتِهم [إلَّا الحُدودَ]}، أمَّا في الحُدودِ والقِصاصِ فَيَستَوُون [أيْ في العُقوبةِ]، لا فَرقَ بَيْنَ الشَّرِيفِ والوَضِيعِ، والغَنِيِّ والفَقِيرِ، والقَوِيِّ والضَّعِيفِ؛ (ب)أنَّ الحَدَّ لا يَجوزُ العَفوُ عنه ولا الشَّفاعةُ فيه، بَعْدَ أنْ يَبلُغَ الإمامَ، لِقَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ}، وكذلك القِصاصُ لا يَجوزُ لِلإمامِ أو نائبِه أنْ يَعفُو عنه إلى الدِّيَةِ أو إلى العَفوِ مطلقًا، إلَّا إذا عَفَا المَجنِيُّ عليه (أو وَرَثَتُه [في حالةِ مَوتِ المَجنِيِّ عليه]) أو إلى غَيرِ عِوَضٍ، أمَّا التَّعزِيرُ فَيَجوزُ لِلسُّلطانِ -أو مَن يَقومُ مَقَامَه- أنْ يَعفُوَ عنه إذا كانَ حَقًّا لله، أمَّا إنْ كانَ حَقًّا لِلآدَمِيِّين فَيَجوزُ لِلإمامِ أنْ يَعفُوَ إذا عَفَا صاحِبُ الحَقِّ عنِ الجانِي ولو بَعْدَ رَفعِها [أيِ الدَّعوَى] لِلإمامِ؛ (ت)أنَّ الحُدودَ والقِصاصَ لا يُقِيمُها إلَّا الإمامُ أو نائبُه والقُضاةُ ونَحوُهم، أمَّا التَّعزِيرُ فَهناك منه ما يُقِيمُه غَيرُ الإمامِ أو نائبِه، كَتَأْدِيبِ الزَّوجِ زَوجَتَه (إذَا نَشَزَتْ)، والوالِدِ وَلَدَه، والمُعَلِّمِ صَبِيَّه. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بنُ محمد المختار الشنقيطي (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية) في (شرحُ زاد المستقنع) تحت عُنوانِ (مَعاصٍ تُوجِبُ التَّعزِيرَ): {كاستِمتاعٍ لا حَدَّ فيه}، فَلَو أنَّ رَجُلًا اِستَمتَعَ بِامرَأةٍ بِما دُونَ الفَرجِ، فَقَبَّلَها أو فاخَذَها ولم يُولِجْ -أيْ لم يُوجَبْ حَدُّ الزِّنا على الصِّفةِ المُعتَبَرةِ- فَإنَّه في هذه الحالةِ يُعزَّرُ، مَثَلًا، لَو أنَّ رَجُلًا وُجِدَ مُختَلِيًا بِامرَأةٍ أجنَبِيَّةٍ، أو وُجِدا في لِحَافٍ وَاحِدٍ، أو وُجِدا مُتَجَرِّدَين، ونَحوَ ذلك مِنَ الاستِمتاعِ الذي هو دُونَ الزِّنا ودُونَ الحَدِّ؛ شُرِعَ تَعزِيرُه؛ {وسَرِقةٍ لا قَطْعَ فيها}، فَلَو أنَّه سَرَقَ وأخَذَ مالًا على وَجهِ السَّرِقةِ، ولَكِنَّ المالَ لا يَبلُغُ النِّصابَ، أو أخَذَ مالًا مِن غَيرِ حِرْزٍ، كَما لو جاءَ إلى شَخصٍ وأمامَه مالٌ، فاستَغفَلَه فَسحَبَ المالَ مِن طاوِلَتِه، أو مِن جَيبِه بِشَرطِ ألَّا يَشُقَّ الجَيْبَ، فَيُعَزَّرُ، فَكُلُّ سَرِقةٍ لا تُوجِبُ القَطْعَ فَفِيها التَّعزِيرُ؛ {وإتيانِ المَرأةِ المَرأةَ}، أيِ السِّحاقِ، قالوا {إنَّ المَرأةَ إذا أتَتِ المَرأةَ واستَمتَعَتْ بها، فَإنَّ هذا لا يُوجِبُ الحَدَّ، لِأنَّه ليس فيه إيلاجٌ، وحِينَئذٍ تُعَزَّرُ المَرأَتان؛ {والقَذفِ بِغَيرِ الزِّنا}، القَذفُ بِغَيرِ الزِّنا كَسَبِّ الناسِ وشَتْمِهم، ووَصفِهم بِالكَلِماتِ المُنتَقِصةِ لِحَقِّهم، كَأَنْ يَقولَ عن عالِمٍ (إنَّه لا يَفهَمٌ شَيئًا) أو (لا يَعرِفُ كَيْفَ يُعلِّمُ) يَتَهَكَّمُ به، فَهذا السَّبُّ والشَّتمُ والانتِقاصُ والعَيبُ على غَيرِ حَقٍّ وبِدونِ حَقٍّ يُوجِبُ التَّعزِيرَ، وحِينَئذٍ نَنظُرُ إلى الشَّخصِ الذي سُبَّ وشُتِمَ وأُوذِيَ والشَّخصِ الذي تَكَلَّمَ بِذلك، فَيُعَزَّرُ [أيِ السَّابُّ الشَّاتِمُ] بِما يُناسِبُه؛ {ونَحوِه} أيْ ونَحوِ ذلك مِنَ الجِنايَاتِ في ضَيَاعِ حَقِّ اللهِ أو اِنتِهاكِ حُرمَتِه مِمَّا لا يَصِلُ إلى الحَدِّ ولا كَفَّارةَ فيه. انتهى باختصار]}، وعُقوبةُ التَّعزِيرِ -كَما يَظهَرُ مِن تَعرِيفِ الفُقَهاءِ- قد تَكونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعالَى كالإفطارِ في شَهرِ رَمَضانَ، وقد تَكونُ حَقًّا لِلْعِبادِ كَسَرِقةِ مالِ شَخصٍ مِن غَيرِ حِرْزٍ، والاختِلاسِ، والانتِهابِ [المُنتَهَبُ ما يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْعَلانِيَةِ قَهْرًا، أمَّا المُختَلَسُ فَهو ما يُختَطَفُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ]، والدَّعوَى في التَّعزِيرِ دَعوَى عادِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ طُرَقَ الإثباتِ المَعروفةَ في الفِقْهِ الإسلامِيِّ مِن إقرارٍ وبَيِّنةٍ، والقَرائنُ مِنَ الأدِلَّةِ التي يَرَى الفُقَهاءُ جَوازَ التَّعزِيرِ بِمُوجِبِها... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: يُستَفادُ مِن نُصوصِ الفُقًهاءِ أنَّه على القاضِي [في الجَرائمِ التَّعزِيرِيَّةِ] ألَّا يُهمِلَ القَرائنَ وشَواهِدَ الحالِ، وأنَّه لا بُدَّ [قَبْلَ العِلْمِ بِبَراءةِ المُتَّهَمِ في الجَرائمِ التَّعزِيرِيَّةِ] مِن حَبسِ المُتَّهَمِ حتى تَنكَشِفَ الحَقِيقةُ، وأنَّه إذا ظَهَرَتْ أماراتُ الرِّيبةِ على المُتَّهَمِ يَجوزُ ضَربُه لِيَتَوَصَّلَ القاضِي إلى الحَقِّ، بَيْدَ أنَّ الفُقَهاءَ قد قَسَّموا الناسَ في الدَّعوَى [التَّعزِيرِيَّةِ] إلى ثَلاثةِ أصنافٍ [قالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط تحت عُنوانِ (حُكْمُ حَبسِ المُتَّهَمِ البَرِيءِ): فَإنْ كانَ المُتَّهَمُ بِرِيئًا فَلا يَجوزُ حَبسُه بِالنِّسبةِ لِمَن عَلِمَ بَراءَتَه، لِأنَّ هذا ظُلمٌ وقد قالَ اللهُ تَعالَى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، وقالَ صلى الله عليه وسلم {كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ} رَواه مُسلِمٌ؛ وأمَّا حَبسُه قَبْلَ العِلْمِ بِبَراءَتِه فَيَجوزُ لِلسُّلطانِ -أو نائبُه- أنْ يَحبِسَ مَن كانَ مَعروفًا بِالفُجورِ والاعتِداءِ، وأيضًا مَن كانَ مَجهولَ الحالِ حتى يَتِمَّ التَّحقِيقُ وتَظهَرَ إدانَتُه؛ وأمَّا مَن كانَ مَعروفًا بِالاستِقامةِ فَلا يُحبَسُ، بَلْ نَصَّ بَعضُ أهلِ العِلْمِ على أنَّ يُؤَدَّبَ مَنِ اِدَّعَى عليه (إنْ لم يَأْتِ بِبَيِّنةٍ). انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالله الطيار (وكيلُ وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد) في (الفقه الميسر): تَنقَسِمُ الدَّعوَى بِحَسَبِ مَوضوعِها إلى قِسمَين أساسِيَّين؛ (أ)دَعوَى التُهمةِ التي يَكونُ مَحَلُّها مُحَرَّمًا أو مَمنوعًا، ويُرَتِّبُ الشارِعُ على فاعِلِه عُقوبةً في الدُّنيَا، كالقَتلِ، والسَّرِقةِ، والرِّشوةِ، والظُّلمِ، والسَّبِّ، ويُمكِنُ حَبسُ المُتَّهَمِ رَيثَما تَتِمُّ مُحاكَمَتُه والنَّظَرُ في الدَّعوَى، كَما يُمكِنُ تَعزِيرُه بِالضَّربِ والحَبسِ أثناءَ التَّحقِيقِ إذا كانَ مَشبوهًا أو مِمَّن يَقومُ بِمِثلِ هذه الأفعالِ؛ (ب)دَعوَى غَيرِ التُّهمةِ، وهي الدَّعوَى التي يَكونُ مَحَلُّها مُباحًا أو مَشروعًا وجائزًا، ولَكِنْ حَصَلَ الاختِلافُ في هذا الفِعْلِ [الذي هو مَحَلُّ الدَّعوَى]، أو في آثارِه ونَتائجِه، أو أساءَ أحَدُ الأطرافِ حَقَّه في الاستِعمالِ، أو تَجاوَزَ حُدودَه، كَدَعوَى البَيعِ، والشِّركةِ، والنِّكاحِ، والطَّلاقِ، وتَكونُ نَتِيجةُ الدَّعوَى رَدَّ الدَّعوَى وبَراءةِ المُدَّعَى عليه مِمَّا نُسِبَ إليه، أو الحُكمَ بِالدَّينِ، أو العَينِ، أو الحَقِّ الشَّخصِيِّ لِلْمُدَّعِي كالوِلَايَةِ والحَضَانةِ، أو الصُّلحَ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الطيار-: وتَنقَسِمُ دَعوَى غَيرِ التُّهمةِ بِحَسَبِ المُدَّعَى به إلى عِدَّةِ أقسامٍ؛ (أ)دَعوَى الدَّينِ، وهو ما ثَبَتَ في الذِّمَّةِ، كالدَّعوَى بِالثَّمَنِ، أوِ القَرضِ، أوِ الأُجرةِ، أو أداءِ عَمَلٍ، وكُلُّ ما يَثبُتُ في الذِّمَّةِ مِنَ المِثلِيَّاتِ التي يُمكِنُ ضَبطُها بِالوَصفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّينُ بِسَبَبِ عَقدٍ، أَمْ إتلافٍ، أَمْ نَصٍّ شَرعِيٍّ كالنَّفَقةِ؛ (ب)دَعوَى العَينِ، وهي الدَّعوَى التي يَكونُ مَحَلُّها عَينًا مَوجودةً، تُدرَكُ بإحدَى الحَواسِّ، سَواءٌ كانَتِ العَينُ مَنقولةً كالسَّيَّارةِ، والأثاثِ، والكُتُبِ، أَمْ كانَتِ العَينُ غَيرَ مَنقولةٍ كَبَساتِين، وبُيوتٍ، وأراضٍ؛ (ت)دَعوَى الحُقوقِ الشَّرعِيَّةِ، وهي التي يَكونُ مَحَلُّها حَقًّا شَرعِيًّا مُجَرَّدًا، دُونَ أنْ يَكونَ عَينًا أو دَينًا، كالنَّسَبِ، والنِّكاحِ، والطَّلاقِ، والحَضانةِ، والشُّفعةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد رأفت عثمان (عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر) في (النِّظامُ القَضائيُّ في الفِقهِ الإسلامِيِّ): دَعاوَى التُّهَمِ، المُتَّهَمُ [فيها] لو كانَ رَجُلًا صاِلحًا مَشهورًا مَشهودًا له بِالاستقامةِ ليس مِن أهل تلك التُّهمةِ، فَبِاتِّفاقِ العُلَماءِ لا يَجوزُ عُقوبَتُه لا بِضَربٍ ولا بِحَبسٍ ولا بِغَيرِهما؛ فَإذا وُجِدَ في يَدِ رَجُلٍ مَشهودٍ له بِالعَدالةِ مالٌ مَسروقٌ، وقالَ هذا الرَّجُلُ العَدلُ {اِبتَعتُه [أيِ اِشتَرَيتُه] مِنَ السُّوقِ، لا أدرِي مَن باعَه}، فَلا عُقوبةَ على هذا العَدلِ بِاتِّفاقِ العُلَماءِ؛ قالَ فُقَهاءُ المالِكِيَّةِ وغَيرُهم [في المِثالِ المَذكورِ] يَحلِفُ المُستَحِقُّ [يَعنِي المُدَّعِي] أنَّه مِلْكُه، ما خَرَجَ عن مِلْكِه، ويَأخُذُه، وقَرَّرَ هؤلاء أنَّه لا يُطلُبُ اليَمِينُ مِن هذا العَدلِ. انتهى باختصار]؛ الصِّنْفُ الأوَّلُ، أنْ يَكونَ المُتَّهَمُ في الدَّعوَى مَعرُوفًا بَيْنَ الناسِ بِالدِّينِ والوَرَعِ والتَّقوَى، أيْ أنَّه ليس مِمَّن يُتَّهَمُ بِما وُجِّهَ إليه في الدَّعوَى، فَهذا لا يَقومُ القاضِي بِحَبسِه أو ضَربِه ولا يُضَيِّقُ عليه بِشَيءٍ، بَلْ قالوا {لا بُدَّ مِن تَعزِيرِ مَنِ اِتَّهَمَه صِيَانةً لِأعراضِ البُرَآءِ والصُّلَحاءِ مِن تَسَلُّطِ أهلِ الشَّرِّ والعُدوانِ} وهذا القَولُ مَروِيٌّ عن أبِي حَنِيفةَ [قالَ الشيخُ محمد رأفت عثمان (عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر) في (النظام القضائي في الفقه الإسلامي): ولَكِنْ هَلْ يُعاقَبُ الذي اِتَّهَمَ هذا الرَّجُلَ المَشهودَ له بِالعَدالةِ والاستِقامةِ أَمْ لَا؟، يَرَى مالِكٌ وبَعضُ فُقَهاءِ مَذهَبِه أنَّه لا أَدَبَ على المُدَّعِي، إلَّا إذا ثَبَتَ أنَّه قَصَدَ أذِيَّتَه وعَيبَه وشَتمَه فَيُؤَدَّبُ، وأمَّا إذا كانَ ذلك طَلَبًا لِحَقِّه فَلا يُؤَدَّبُ. انتهى]؛ الصِّنْفُ الثانِي، أنْ يَكونَ المُتَّهَمُ مَجهولَ الحالِ بَيْنَ الناسِ، فَهذا يَقومُ القاضِي بِحَبسِه حتى يُكشَفَ أمرُه، ومُدَّةُ الحَبسِ مُختَلَفٌ فيها بينهم [أيْ بَيْنَ العُلَماءِ]، قِيلَ {ثَلاثةُ أيامٍ}، وقِيلَ {شَهرٌ}، وقِيلَ {يُترَكُ ذلك لِاجتِهادِ وَلِيِّ الأمرِ}، وأجازَ بَعضُ الفُقَهاءِ ضَرْبَ مَجهولِ الحالِ وامتِحانَه بِغَرَضِ إظهارِ الحَقِّ؛ الصِّنْفُ الثالِثُ، أنْ يَكونَ المُتَّهَمُ مَعروفًا بِالفُجورِ والتَّعَدِّي كَأَنْ يَكونَ مَعروفًا بِالسَّرِقةِ قَبْلَ ذلك، أو تَكَرَّرَتْ منه المَفاسِدُ، أو عُرِفَ بِأسبابِ السَّرِقةِ مِثلَ أنْ يَكونَ مَعروفًا بِالقِمارَ والفَواحِشِ التي لا تَتَأَتَى إلَّا بِالمالِ وليس له مالٌ، فَهذه قَرائنُ تَدُلُّ على مُناسَبةِ التُّهمةِ له، فَهذا يَضرِبُه الوالِي أو القاضِي بُغيَةَ التَّوَصُّلِ إلى إظهارِ المالِ منه، هذا الحَبسُ أو الضَّربُ الذي هو مِن بابِ الوُصولِ إلى الحَقِّ يُسَمِّيه البَعضُ سِيَاسةً، ويُسَمِّيه الآخَرون تَعزِيرًا، وذلك لِاختِلافِهم (هَلْ هو مِن عَمَلِ الوالِي أو مِن عَمَلِ القاضِي)... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: والفُقَهاءُ حِينَما نَصُّوا على هذه الأحكامِ -وهي مَسُّ المُتَّهَمِ الذي تَعَدَّدَتْ سَوابِقُه واشتُهِرَ بِالفَسادِ وَنَقْبِ الدُّورِ والسَّرِقاتِ، بِشَيءٍ مِنَ الضَّربِ- كانَ هَدَفُهم حِمايَةَ الأمنِ ومَنْعَ الفَوضَى وإظهارَ قُوَّةِ الحاكِمِ وهَيبَتِه، حتى لا يَعتَدِي الأشرارُ على أموالِ ونُفوسِ الآمِنِين، ثم إنَّ الفُقَهاءَ قد أبطَلوا إقرارَ الشَّخصِ بِما لم يَرتَكِبْه دَفعًا لِمَا يَقَعُ عليه مِن إكراهٍ، كَما هو مَعروفٌ في بابِ الإكراهِ في الشَّرِيعةِ، هذا، وقد أبَى النُّعْمَانُ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه صاحِبُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَضرِبَ المُتَّهَمِين بِالسَّرِقةِ حِينَما لم تَكُنْ أدِلَّةُ التُّهمةِ قَوِيَّةً، وقَيَّدَ اِبْنُ الْقَيِّمِ الضَّربَ بِظُهورِ أماراتِ الرِّيبةِ على المُتَّهَمِ، ولِذا فَإنَّنا نَقولُ يَجِبُ الاحتِياطُ في مَوضوعِ ضَربِ المُتَّهَمِين، حتى لا يَحدُثُ ما نَراه في أقسامِ البُولِيسِ في وَقتِنا الحاضِرِ مِن ضَربِ المُتَّهَمِين ضَربًا عَنِيفًا مِمَّا يُؤَدِّي إلى إقرارِ الشَّخصِ بِما لم يَجْنِ تَخَلُّصًا مِنَ التَّعذِيبِ، وإذا كانَ الاستِقراءُ قد أظهَرَ أنَّ كَثِيرًا مِنَ المُتَّهَمِين مِنَ السُّراقِ وغَيرِهم يُقِرُّون تحت التَّهدِيدِ ويَعتَرِفون بِوَقائعِ الجَرِيمةِ، إلَّا أنَّنا نَرَى أنْ تَكونَ هناك ضَوابِطُ لِلُّجُوءِ إلى هذه الوَسِيلةِ، وأهَمُّ هذه الضَّوابِطِ في نَظَرِي؛ (أ)أنْ يَكونَ المُتَّهَمُ مِن مُتَعَدِّدِي السَّوابِقِ المُشتَهِرِين بِارتِكابِ مِثلِ هذه الجَرِيمةِ التي اُتُّهِمَ فيها؛ (ب)أنْ تَقومَ القَرائنُ وأماراتُ الاتِّهامِ على أنَّه اِرتَكَبَ هذه الجَرِيمةَ؛ (ت)ألَّا يَكونَ الضَّربُ ضَربًا مُؤْذِيًا يُؤَدِّي إلى الجِراحِ أو الكَسرِ أو الإتلافِ؛ (ث)ألَّا يَلجَأَ المُحَقِّقُ إلى الضَّربِ إلَّا بَعْدَ مُحاصَرةِ المُتَّهَمِ بِالأدِلَّةِ التي تُدِينُه؛ (ج)أنْ يَتَحَقَّقَ القاضِي مِنَ الإقراِر الذي صَدَرَ مِنَ المُتَّهَمِ إثْرِ التَّهدِيدِ، فَإنْ تَبَيَّنَ له أنَّه أقَرَّ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الضَّربِ الذي وَقَعَ عليه رَفَضَه، وإنْ كانَ إقرارًا صَحِيحًا أخَذَ به [قالَ اِبْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ (ت974هـ) في (تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ): وَقَالَ الأذْرَعِيُّ {الْوُلَاةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْتِيهِمْ مَنْ يُتَّهَمُ بِسَرِقَةٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، فَيَضْرِبُونَهُ لِيُقِرَّ بِالْحَقِّ وَيُرادُ بِذَلِكَ الإقرَارُ بِمَا اِدَّعَاهُ خَصْمُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا إكْرَاهٌ، سَوَاءٌ أَقَرَّ فِي حَالِ ضَرْبِهِ، أَمْ بَعْدَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ لَضُرِبَ ثَانِيًا}. انتهى]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (تَوقِيعُ العُقوبةِ التَّعزِيرِيَّةِ بِدَلالةِ القَرائنِ): أجازَ الفُقَهاءُ عُقوبةَ الجانِي بِالقَرائنِ وتَعزِيرَه، إذا كانَتْ [أيِ القَرائنُ] قَوِيَّةَ الدَّلالةِ في الدَّعوَى، على وَجْهِ الخُصوصِ إذا كانَ المُتَّهَمُ مِن أهلِ التُّهمةِ ومَعروفًا بِالتَّعَدِّي والفَسادِ، وقد جاءَتْ عِباراتُ الفُقهاءِ حافِلةً بِالأمثِلةِ على ذلك، نَنقُلُ هُنا قُطوفًا منها؛ (أ)جاءَ في (عُدَّةُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى) في جَوابٍ له [أي للشيخ عبدالله أسعد (ت1147هـ) صاحب (عُدَّةُ أَرْبَابِ الْفَتْوَى)] عن مَسأَلةٍ، حَيثُ كانَ الرَّجُلُ مُتَّهَمًا ووُجِدَ بَعضُ المَتَاعِ المَسروقِ عنده، فَلِلْحاكم الشَّرعِيِّ أنْ يَأْمُرَ بِحَبسِه بَلْ وضَربِه [قُلْتُ: وذلك قَضاءٌ بِالتَّعزِيرِ لا بِالحَدِّ، لِأنَّ وُجودَ المَسروقاتِ عند المُتَّهَمِ هو مُجَرَّدُ قَرِينةٍ قَوِيَّةٍ على أنَّه هو السارِقُ، والحَدُّ لا يَثبُتُ بِالقَرائنِ]؛ (ب)وجاءَ في (مُعِينُ الْحُكَّامِ) [للطَّرَابُلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى عامَ 844هـ] {قالَ عامَّةُ المَشايِخِ (الإمامُ يُعَزِّرُ [مَن] وَجَدَه في مَوضِعِ التُّهمةِ بِأَنْ رَآه الإمامُ يَمشِي مع السُّراقِ أو رَآه مع الفُسَّاقِ جالِسًا لا يَشرَبُ الخَمْرَ لَكِنَّه معهم في مَجلِسِ الفِسقِ)} [قالَ السَّنَامي (ت696هـ) في (نِصَابُ الاحْتِسَابِ): الأَصْلُ أَنَّ الإنسَانَ يُعَزَّرُ لِأجلِ التُّهْمَةِ، وَعَلِيهِ مسَائِلُ؛ مِنْهَا إِذا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَالِسًا مَعَ الْفُسَّاقِ فِي مَجْلِسِ الشُّرْبِ عَزَّرَه وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَشرَبُ؛ وَمِنْهَا إِذا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا يَمشِي مَعَ السُّرَّاقِ عَزَّرَه. انتهى]؛ (ت)ومِن أهمِّ الدَّعاوَى التي تَعمَلُ القَرائنُ على إظهارِ الحَقِّ فيها دَعاوَى الكَسبِ غَيرِ المَشروعِ، كَما إذا ظَهَرَتِ الأموالُ الطائلةُ لِلْمُوظَّفِ العامِّ بحيث لا تَتَناسَبُ هذه الأموالُ مع ما يَتَقاضاه مِن مُرَتَّبٍ، فَيَكونُ ظُهورُ الثَّروةِ الطائلةِ مع عَدَمِ مُناسَبَتِها لِمُرَتَّبِه قَرائنَ تَدُلُّ على أنَّ هذا المُوَظَّفَ قَدِ اِستَغَلَّ سُلطةَ وَظِيفَتِه وتَقاضَى كَسبًا غَيرَ مَشروعٍ، إمَّا عن طَرِيقِ ما يَتَلَقَّاه مِن رَشاوَى، وإمَّا عن طَرِيقِ اِختِلاسِ المالِ العامِّ، فَكانَ لِلْقاضِي أنْ يَتَحَقَّقَ عن مَصادِرِ هذه الثَّروةِ، وهذا هو ما عُرِفَ بِمَبْدَأِ {مِن أيْنَ لَكَ هذا؟}، فَقَدْ ذَكَرَتْ كُتُبُ التارِيخِ أنَّ الخَلِيفةَ العَبْقَرِيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قد تَمَسَّكَ بِهذا المَبْدَأِ مع وُلاتِه واتَّخَذَ مِن تَكاثُرِ أموالِهم وزِيَادَتِها بِصُورةٍ لا تَتَناسَبُ مع ما يُعطِيه لَهم مِن رَواتِبَ دَلِيلًا على أَّنهم أخَذوا مِن مالِ المُسلِمِين، فَحاسَبَهم على ذلك وأخَذَ جُزءًا منها وَأَوْدَعَه بَيْتَ المالِ، بَلْ ولم يَقْبَلْ منهم الاحتِجاجَ بِأَنَّ هذه الزِّيَادةَ ناتِجةٌ عن تِجارةٍ أو غَيرِ ذلك... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض- تحت عُنوانِ (التَّعزِيرُ يَثبُتُ بِاقتِناعِ القاضِي بِالجَرِيمةِ): فَإذا دَلَّتِ القَرائنُ وقامَتِ الشَّواهِدُ على المُتَّهَمِ، ووَصَلَ إلى اِعتِقادِ القاضِي أنَّه قَدِ اِقتَرَفَ الجَرِيمةَ، لا بُدَّ له مِن تَعزِيرِه، ولا يَقِفُ مُنتَظرًا إقرارًا أو إتمامَ البَيِّنةِ، وإلَّا لَأفلَتَ المُجرِمون والمُفسِدون مِنَ العِقابِ، ولَعَمَّتِ الفَوضَى واضطَرَبَ الأمنُ، وَلَتَعَذَّرَ إثباتُ كَثِيرٍ مِنَ الجَرائمِ يَعمَدُ المُجرِمون إليها في حين غَفلةٍ وبَعِيدًا عن نَظَرِ الشُّهودِ؛ فَإذا كانَ الشارِعُ في الفِقْهِ الإسلامِيِّ قد تَشَدَّدَ في إثباتِ العُقوبةِ المُقَدَّرةِ في الحُدودِ، وتَشَدَّدَ في إثباتِ العُقوبةِ المُقَدَّرةِ في الدِّماءِ، فَإنَّه قد أفسَحَ المَجالَ في إثباتِ عُقوبةِ التَّعزِيرِ لِيُكمِلَ بِذلك ما بَقِيَ مِن عُقوباتٍ لِجَرائمَ لم يَنُصَّ عليها، أو نَصَّ عليها ودُرِئَتِ العُقوبةُ المُقَدَّرةُ لِسَبَبٍ اِقتَضَى ذلك [كَما في المالِ المَسروقِ الذي أُخِذَ مِن غَيرِ حِرْزٍ، أو لم يَبلُغِ النِّصَابَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ]، فَخَرَجَ بِهذا التَّشرِيعُ الجِنائِيُّ الإسلامِيُّ مُتَّزِنًا ومُتَناسِقًا بِالنَّظَرِ إلى الجَرِيمةِ والعُقوبةِ وطَرِيقةِ إثباتِها، نَظَرَ [أيِ الشارِعُ] إلى جَرائمِ الحُدودِ والدِّماءِ وإلى آثارِها الخَطِيرةِ في المُجتَمَعِ فَعَمَدَ إلى بَيَانِ عُقوباتِه، فَشَدَّدَ فيها رَدْعًا لِمُقتَرِفِيها، ثم بَيَّنَ طُرُقَ إثباتِها حتى لا تَكونَ هناك تَوْسِعةً في إثباتِها، ثم لَمَّا تَناقَصَتْ هذه الآثارُ الخَطِيرةُ لِلْجرِيمةِ تَرَكَ أمْرَ تَقدِيرِ عُقوباتِها [يُشِيرُ هنا إلى العُقوباتِ التَّعزِيرِيَّةِ] لِوُلاةِ الأمرِ حتى يَضَعَ [أيِ الشارِعُ] العُقوبةَ المُناسِبةَ لِكُلِّ جَرِيمةٍ في كُلِّ عَصرٍ، ولم يَسلُكْ في إثباتِها [أيْ إثباتِ الجَرائمِ التَّعزِيرِيَّةِ] ذلك المَسلَكَ الذي سَلَكَه في غَيرِها [وهي جَرائمُ الحُدودِ والقِصاصِ] حتى لا تَضِيقَ مَسالِكُ الإثباتِ فَتَكثُرَ الجَرائمُ ويَتَعَذَّرَ الوُصولُ إلى الجُناةِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: إنَّ التَّعزِيرَ يُمكِنُ أنْ يَكونَ عُقوبةً لِلْجَرِيمةِ التي نَصَّ الشارِعُ على عُقوباتِها ولَكِنْ دُرِئَ الحَدُّ فيها لِعَدَمِ كِفايَةِ الأدِلَّةِ التي تُثبِتُ الحَدَّ، ولا شَكَّ أنَّ هذا هو الصَّوابُ حتى لا تَكونَ هناك جَرِيمةٌ بِلا عُقوبةٍ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: وهناك مُلاحَظةٌ أُخرَى جَدِيرةٌ بِالاهتِمامِ، هي أنَّ مَجالَ التَّعزِيرِ مَجالٌ رَحْبٌ لِكَي نَستَفِيدَ مِنَ التَّجارِبِ العِلمِيَّةِ الحَدِيثةِ في الوُصولِ إلى الجُناةِ، فَقَدِ اِستَحدَثَتْ أسالِيبُ الكَشفِ الجِنائيِّ كَثِيرًا مِنَ الوَسائلِ وجَعَلَتْ منها قَرائنَ واضِحةَ الدَّلالةِ على الجُناةِ، كَقَرِينةِ بَصَماتِ الأصابِعِ، وقَرائنِ تَحلِيلِ الدَّمِ، وغَيرِها... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: أدخَلَ العِلمُ الحَدِيثُ في سَبِيلِ مُكافَحَتِه لِلْجَرِيمةِ صُوَرًا مِنَ القَرائنِ، ونَذكُرُ مِن هذه القَرائنِ العِلمِيَّةِ؛ (أ)بَصَماتُ الأصابِعِ؛ (ب)التَّحلِيلُ المَعمَلِيُّ، مِثلَ تَعَرُّفِ نَتائجِ تَحلِيلِ الدَّمِ والبَولِ والمَنِيِّ والشَّعرِ، وكذلك الكَشفُ على جِسمِ الإنسانِ وما به مِن حُروقٍ وما عليه مِن آثارٍ أو تَوَرُّمٍ أو جُروحٍ، وكذلك فَحصُ الأسلِحةِ النارِيَّةِ والمَقذُوفاتِ والمَلابِسِ؛ (ت)تَعَرُّفُ الكَلبِ البُولِيسِيِّ؛ (ث)التَّسجِيلُ الصَّوتِيُّ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: والفِقْهُ الإسلامِيُّ إنْ كانَ قد تَشَدَّدَ في إثباتِ جَرائمِ الحُدودِ والقِصاصِ، إلَّا أنَّه قد جَعَلَ في إثباتِ الجَرائمِ التَّعزِيرِيَّةِ مُتَّسَعًا حتى لا تَكونَ هناك جَرِيمةٌ بِلا عُقوبةٍ، خُصوصًا وأنَّ جَرائمَ الحُدودِ والقِصاصِ قَلِيلةٌ ومَحصورةٌ، ثم إنَّ الشَّكَّ [يَعنِي عند عَدَمِ وُجُودِ الإقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ] إذا سَرَى ودُرِئَ الحَدُّ أو القِصاصُ فَإنَّه لا يَمنَعُ مِن إبدالِه بِالعُقوبةِ التَّعزِيرِيَّةِ [أيْ بِمُقتَضَى القَرائنِ القَوِيَّةِ]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عوض-: إنَّ الحَمْلَ عادةً يَكونُ نَتِيجةً لِلْمُواقَعةِ، فَإذا ظَهَرَ في اِمرَأةٍ مُتَحَرِّرةٍ مِن قُيودِ الزَّوجِيَّةِ أو المِلْكِ كانَ هذا [أيِ الحَمْلُ] قَرِينةً على زِنَاها، ومع ذلك فَإنَّ جُمهورَ الفُقَهاءِ لم يَقُلْ بِهذه القَرِينةِ [أيْ بِقَرِينةِ الحَمْلِ في إثباتِ الزِّنَى]، لا إنكارًا [أيْ لِلْقرِينةِ] في هذه النَّتِيجةِ، إنَّما لِمَا يَكتَنِفُها مِن شُبهةٍ [قالَ الشيخُ عوض في مَوضِعٍ آخَرَ مِن كِتابِ (مَجَلَّةُ مَجْمَعِ الفِقهِ الإسلامِيِّ): فَقَدْ تَكونُ مُكرَهةً على الزِّنَا، أو رُبَّما [كانَتْ] في حَمَّامٍ فيه اِمرَأةٌ واقَعَتْ زَوجَها فَسَرَتْ إليها النُّطفةُ، أو رُبَّما حَمَلَتْ بِواسِطةِ المَصْلِ المُستَعمَلِ لِنَقلِ نُطفةِ الرَّجُلِ. انتهى باختصار]، وبِالرَّغْمِ مِن دَرْءِ الحَدِّ فَإنَّ هذه القَرِينةَ [أيْ قَرِينةَ الحَمْلِ] تَكونُ مُوجِبًا لِلْعُقوبةِ بِالتَّعزِيرِ. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّةُ): فَالْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهَ النَّفْسِ فِي الأمَارَاتِ، وَدَلَائِلِ الْحَالِ وَمَعْرِفَةِ شَوَاهِدِهِ، وَفِي الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ [أيْ وَفِي الْقَرَائِنِ المُتَعَلِّقةِ بِالحالِ والْقَرَائِنِ المُتَعَلِّقةِ بِالمَقالِ]، كَفِقْهِهِ فِي جُزْئِيَّاتِ وَكُلِّيَّاتِ الأحْكَام،ِ أَضَاعَ حُقُوقًا كَثِيرَةً عَلَى أَصْحَابِهَا، وَحَكَمَ بِمَا يَعْلَمُ النَّاسُ بُطْلَانَهُ لَا يَشُكُّونَ فِيهِ، اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى نَوْعٍ ظَاهِرٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى بَاطِنِهِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ، فَهَا هُنَا نَوْعَانِ مِنَ الْفِقْهِ لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْهُمَا، فِقْهٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْكُلِّيَّةِ [قالَ الشيخُ عبدالله بن محمد الخنين (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في (تَوصِيفُ الأقضيَةِ): إنَّ الحُكمَ الكُلِّيَّ يَتَكَوَّنُ مِن شَطرَين هما؛ مُعَرِّفاتُ الحُكْمِ (الحُكْمُ الوَضعِيُّ)؛ والحُكْمُ (وهو الذي يُطلَقُ عليه الحُكمُ التَّكلِيفِيُّ)... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الخنين-: أدِلَّةُ شَرعِيَّةِ الأحكامِ هي الأدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ التي تَدُلُّ على شَرعِيَّةِ الحُكمِ الكُلِّيِّ مِنَ الوُجوبِ، أَوِ الاستِحبابِ، أَوِ الِإباحةِ، أَوِ الحُرمةِ، أَوِ الكَراهةِ، أَوِ الصِّحَّةِ، أَوِ البُطلان، أَوْ تَدُلُّ على شَرعِيَّةِ مُعَرِّفَاتِ الحُكْمِ مِن كَونِ هذا الأمرِ سَبَبًا، أَوْ شَرطًا، أَوْ مانِعًا، فَهي المَصادِرُ التي يَستَمِدُّ منها الفَقِيهُ الحُكمَ الكُلِّيَّ، أَوْ بَيَانَ شَرعِيَّةِ مُعَرِّفَاتِه، وهي مَصادِرُ الشَّرعِ المُقَرَّرةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وغَيرِها [أيْ مِن إِجْمَاعٍ، وقِيَاسٍ، واستِصحابٍ، وقَولِ صَحابِيٍّ، وشَرعِ مَن قَبْلَنا، واستحسانٍ، ومَصالِحَ مُرسَلةٍ]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الخنين-: أدِلَّةُ وُقوعِ الأحكامِ هي الأدِلَّةُ الدَّالةُ على وُقوعِ أسبابِ الأحكامِ [ومِن ذلك كَونُ زَوالِ الشَّمسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ سَبَبًا في وُجوبِ صَلاةِ الظُّهرِ] وشُروطِها ومَوانعِها، فَهي الأدِلَّةُ الحِسِّيَّةُ، أَوِ العَقلِيَّةُ ونَحوُها [كالتَّجْرِبَةِ والخِبرةِ]، أَوِ الطُّرُقُ الحُكمِيَّةُ، الدَّالَّةُ على حُدوثِ مُعَرِّفَاتِ الحُكْمِ مِنَ السَّبَبِ، والشَّرطِ، والمانِعِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الخنين-: فَبِأَدِلَّةِ الوُقوعِ يُعرَفُ وُجودُ المُعَرِّفَاتِ أَوِ اِنتِفاؤها في المَحكومِ عليه؛ وَبِأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ يُعرَفُ تَأْثِيرها، فَيُعرَفُ سَبَبِيَّةُ السَّبَبِ، وشَرطِيَّةُ الشَّرطِ، ومانِعِيَّةُ المانِعِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الخنين-: أدِلَّةُ الِإثباتِ القَضائيَّةُ هي طُرُقُ الحُكمِ المُستَعمَلةُ لَدَى القُضاةِ والتي يَثبُتُ بها وُقوعُ مُعَرِّفَاتِ الأحكامِ القَضائِيَّةِ مِن إقرارٍ، أَوْ شَهادةٍ، أَوْ يَمِينٍ، أَوْ نُكُولٍ، أَوْ غَيرِها [كالقَرائنِ القَوِيَّةِ المُعتَبَرةِ في الأحكامِ القَضائِيَّةِ التَّعزِيرِيَّةِ]... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الخنين-: أدِلَّةُ شَرعِيَّةِ الأحكامِ تَتَوَقَّفُ على نَصْبٍ مِنَ الشَّرعِ؛ فَبِها يُعرَفُ سَبَبِيَّةُ السَّبَبِ، وشَرطِيَّةُ الشَّرطِ، ومانِعِيَّةُ المانِعِ، والأثَرُ المُتَرَتِّبُ عليها مِنَ الحُكمِ التَّكلِيفِيِّ (حُرمةً، أَوْ وُجوبًا، أَوْ كَراهةً، أَوِ اِستِحبابًا، أَوْ إباحةً، أَوْ صِحَّةً، أَوْ بُطلانًا)، فَلا سَبَبِيَّةَ لِلسَّبَبِ، ولا شَرطِيَّةَ لِلشَّرطِ، ولا مانِعِيَّةَ لِلمانِعِ، إلَّا إذا جَعَلَه الشَّرعُ كذلك، ولا وُجوبَ، ولا حُرمةَ، ولا اِستِحبابَ، ولا كَراهةَ، ولا إباحةَ، ولا صِحَّةَ، ولا بُطلانَ، إلَّا ما جَعَلَه الشَّرعُ كذلك بِالكِتابِ والسُّنَّةِ والِإجماعِ وغَيرِها مِن أدِلَّةِ الشَّرعِ المُقَرَّرةِ؛ أَمَّا أدِلَّةُ وُقوعِ الأحكامِ فَلا تَتَوَقَّفُ على نَصْبٍ مِنَ الشَّرعِ، بَلْ يُعرَفُ ذلك بِالعَقلِ، والحِسِّ، والعادةِ ونَحوِها [كالتَّجرِبةِ والخِبرةِ]؛ فَيُسْتَدَلُّ على سَبَبِيَّةِ الوَصفِ بِالشَّرعِ، وعلى حُدوثِه وثُبوتِه بِالعَقلِ والحِسِّ ونَحوِه [كالتَّجرِبةِ والخِبرةِ]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ نجمُ الدين الزنكي (الأستاذ بأكاديمية الدراسات الإسلامية بجامعة مالايا الماليزية) في (الاجتِهادُ في مَوْرِدِ النَّصِّ): فَأَدِلَّةُ مَشروعِيَّةِ الأحكامِ ما يَعتَمِدُ عليه المُجتَهِدون لِاستِنباطِ الحُكمِ الشَّرعِيِّ مِن نَصِّ كِتابٍ، أو سُنَّةٍ وإجماعٍ وقِيَاسٍ واستِصحابٍ؛ وأدِلَّةُ تَصَرُّفِ الحُكَّامِ (أدِلَّةُ الحِجاجِ) هي الأدِلَّةُ التي يَستَعمِلُها الحاكِمُ في الفَصلِ بَيْنَ المُتَخاصِمَين كالإقرارِ والبَيِّنةِ [الإقرارُ أيِ الاعتِرافُ، والبَيِّنةُ أيْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ]؛ وأدِلَّةُ وُقوع الأحكامِ هي أدِلَّةٌ مِنَ الكَثرةِ لا تَنحَصِرُ، فَلِكُلِّ حُكمٍ شَرعِيٍّ دَلِيلُه [أو أدِلَّتُه] في الوُقوعِ، كالزَّوالِ -مَثَلًا- فَإنَّ دَلِيلَ مَشروعِيَّتِه [أيْ مَشروعِيَّةِ حُكْمِه] سَبَبًا لِوُجوبِ الظُّهرِ قَولُه تَعالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وأدِلَّةُ وُقوعِ الزَّوالِ وحُصولِه في العالَمِ كَثِيرةٌ تَتَعَدَّدُ وتَتَطَوَّرُ بِحَسَبِ الآلاتِ والأزمِنةِ والأمكِنةِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الزنكي-: فَأَدِلَّةُ المَشروعِيَّةِ يَعتَمِدُ عليها المُجتَهِدون؛ وأدِلَّةُ الحِجاجِ يَعتَمِدُ عليها الحُكَّامُ والقُضاةُ؛ وأدِلَّةُ الوُقوعِ يَعتَمِدُ عليها المُكَلَّفون. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ في (بدائع الفوائد): فَلا يُسْتَدَلُّ على وُقوعِ أسبابِ الحُكمِ بِالأدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ، كَما لا يُسْتَدَلُّ على شَرعِيَّتِه بِالأدِلَّةِ الحِسِّيَّةِ، فَمَنِ اِستَدَلَّ على أنَّ هذا الشَّرابَ مَثَلًا مُسكِرٌ بِالشَّرعِ، [فإنَّ] هذا مُمتَنِعٌ، بَلْ دَلِيلُ إسكارِه الحِسُّ، ودَلِيلُ تَحرِيمِه الشَّرعُ... ثم قالَ -أيِ اِبْنُ الْقَيِّمِ-: إنَّ دَلِيلَ سَبَبِيَّةِ الوَصفِ غَيرُ دَلِيلِ ثُبوتِه، فَيُستَدَلُّ على سَبَبِيَّتِه بِالشَّرعِ، وعلى ثُبوتِه بِالحِسِّ أو العَقلِ أو العادةِ، فَهذا شَيءٌ وذاك شَيءٌ. انتهى باختصار. قُلْتُ: أدِلَّةُ مَشروعِيَّةِ الأحكامِ يُقالُ لَها أيضًا (أدِلَّةُ شَرعِيَّةِ الأحكامِ)؛ وأدِلَّةُ تَصَرُّفِ الحُكَّامِ يُقالُ لَها أيضًا ("أدِلَّةُ الإثباتِ القَضائيَّةُ" و"أدِلَّةُ الحِجَاجِ" و"أدِلَّةُ الثُّبوتِ الشَّرعِيَّةُ" و"وَسائلُ الإثباتِ الشَّرعِيَّةُ")؛ ومُعَرِّفاتُ الحُكْمِ يُقالُ لَها أيضًا ("مُعَرِّفاتُ الحُكْمِ الكُلِّيِّ" و"الأحكامُ الوَضعِيَّةُ")؛ والحُكْمُ الكُلِّيُّ يَتَكَوَّنُ مِن شَطرَين هُما الحُكْمُ الوَضعِيُّ والحُكْمُ التَّكلِيفِيُّ؛ و(الحُكْمُ) عند الإطلاقِ يُرادُ به (الحُكْمُ التَّكلِيفِيُّ)]، وَفِقْهٌ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، ثُمَّ يُطَابِقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَيُعْطِي الْوَاقِعَ حُكْمَهُ مِنَ الْوَاجِبِ، وَلَا يَجْعَلُ الْوَاجِبَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ؛ وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَ سُلَيْمَانَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اِدَّعَتَا الْوَلَدَ، فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكُبْرَى [قالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في كتابِ (دروس للشيخ محمد المنجد): فَحَكَمَ به لِلْكُبْرَى، لِأنَّ الْوَلَدَ كانَ مع الكُبْرَى، فَلَمَّا خَرَجَتَا مِن عنده سَأَلَهما سُلَيْمَانُ.... انتهى]، فَقَالَ سُلَيْمَانُ {اِئْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا}، فَسَمَحَتِ الْكُبْرَى بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الصُّغْرَى {لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ، هُوَ اِبْنُهَا}، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى، فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنَ اِعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرِضَا الْكُبْرَى بِذَلِكَ، وَبِشَفَقَةِ الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَامْتِنَاعِهَا مِنَ الرِّضَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أُمُّهُ وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى الامْتِنَاعِ هُوَ مَا قَامَ بِقَلْبِهَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الأُمِّ، وَقَوِيَتْ هَذِهِ الْقَرِينَةُ عِنْدَهُ حَتَّى قَدَّمَهَا عَلَى إقْرَارِهَا، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِهِ لَهَا مَعَ قَوْلِهَا {هُوَ ابْنُهَا}، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الإقْرَارَ إذَا كَانَ لِعِلَّةٍ اِطَّلَعَ عَلَيْهَا الحَاكِمُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ أَبَدًا، وَمِنْ تَرَاجِمِ [المُرادُ بِالتَّراجِمِ هنا هو عَناوِينُ الأبوابِ التي يُساقُ تَحْتَها مُتونُ الأحادِيثِ، كقول الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ {بَابُ مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ}] قُضَاةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ [يُشِيرُ إلى ماوَرَدَ في قِصَّةِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ عليه السَّلامُ لِلصُّغرَى بِالوَلَدِ] تَرْجَمَةُ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ، قَالَ {التَّوْسِعَةُ لِلْحَاكِمِ فِي أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ أَفْعَلُ كَذَا، لِيَسْتَبِينَ بِهِ الْحَقَّ} [قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ في (فَتْحُ الباري): وَقَالَ النَّوَوِيُّ {إِنَّ سُلَيْمَانَ فَعَلَ ذَلِكَ تَحَيُّلًا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ... وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ فِي الأحْكَامِ لِاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِمَزِيدِ الفِطْنَةِ وَمُمَارَسَةِ الأحْوَالِ}. انتهى]، ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرَى أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ {الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ}، فَهَكَذَا يَكُونُ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [قالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (إعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ) فَهَكَذَا يَكُونُ فَهْمُ الأئمَّةِ مِنَ النُّصُوصِ وَاسْتِنْبَاطِ الأحْكَامِ الَّتِي تَشْهَدُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ بِهَا مِنْهَا [أيْ بِالأحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ]. انتهى]؛ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاهِدِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ شَهَادَتَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعِبْهُ، بَلْ حَكَاهَا مُقَرِّرًا لَهَا، فَقَالَ تَعَالَى {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، فَتَوَصَّلَ [أيِ الشاهِدُ] بِقَدِّ الْقَمِيصِ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّادِقِ مِنْهُمَا مِنَ الْكَاذِبِ؛ وَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ رَأَى قَتِيلًا يَتَشَحَّطُ [أيْ يَتَخَبَّطُّ ويَضطَّرِبُ ويَتَمَرَّغُ] فِي دَمِهِ وَآخَرَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالسِّكِّينِ أَنَّهُ قَتَلَهُ؟! وَلَا سِيَّمَا إذَا عُرِفَ بِعَدَاوَتِهِ!؛ وَكَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا رَجُلًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ -وَلَيْسَ ذَلِكَ عَادَتَهُ- وَآخَرَ هَارِبًا قُدَّامَهُ بِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ، حَكَمْنَا لَهُ [أيْ لِمَكْشُوفِ الرَّأْسِ] بِالْعِمَامَةِ الَّتِي بِيَدِ الْهَارِبِ قَطْعًا، وَلَا نَحْكُمُ بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ [قالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في كتابِ (دروس للشيخ محمد المنجد): ولا نَقولُ {وُجِدَتْ بِيَدِه، فَهِيَ له}. انتهى] الَّتِي قَدْ قَطَعْنَا وَجَزَمْنَا بِأَنَّهَا يَدٌ ظَالِمَةٌ غَاصِبَةٌ بِالْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا، وَأَمَرَهُ [أيْ أمَرَ وَاصِفَهَا الذي يَدَّعِي أنَّ اللُّقَطَةَ له] أَنْ يُعَرِّفَ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا [الوِكاءُ هو الخَيطُ الَّذي يُربَطُ به الوِعاءُ]، فَجَعَلَ وَصْفَهُ لَهَا قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ؛ وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ إذَا تَدَاعَاهُ اِثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً خَفِيَّةً بِجَسَدِهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اِبْنَيْ عَفْرَاءَ لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟}، قَالَا {لَا}، قَالَ {فَأَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا}، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا قَالَ لِأحَدِهِمَا {هَذَا قَتَلَهُ} وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الأحْكَامِ، وَأَحَقِّهَا بِالاتِّبَاعِ، فَالدَّمُ فِي النَّصْلِ شَاهِدٌ عَجِيبٌ... ثم قالَ -أيِ اِبْنُ الْقَيِّمِ-: فَالشَّارِعُ لَمْ يُلْغِ الْقَرَائِنَ وَالأمَارَاتِ وَدَلَالَاتِ الأحْوَالِ، بَلْ مَنِ اِسْتَقْرَأَ الشَّرْعَ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَجَدَهُ شَاهِدًا لَهَا بِالاعْتِبَارِ، مُرَتِّبًا عَلَيْهَا الأحْكَامَ... ثم قالَ -أيِ اِبْنُ الْقَيِّمِ-: وَلَمْ يَزَلْ حُذَّاقُ الْحُكَّامِ وَالْوُلَاةِ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ بِالأمَارَاتِ. انتهى باختصار. وجاءَ في مَقالةٍ على موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بعنوان (أثَرُ القَرِينةِ في تَوجِيهِ الأحكامِ) للشيخ عمر الجيدي على هذا الرابط: القَرائنُ جَمْعُ قَرِينةٍ (ويَعنِي بِها الفُقَهاءُ كُلَّ أمارةٍ ظاهِرةٍ تُقارِنُ شَيْئًا خَفِيًّا فَتَدُلُّ عليه)، وهي تَتَفاوَتُ في القُوَّةِ والضَّعفِ مع مَدلولاتِها تَفاوُتًا كَبِيرًا، إذْ تَصِلُ مِن القُوَّةِ إلى دَرَجةِ الدَّلالةِ القَطعِيَّةِ، وقد تَضعُفُ حتى تَنزِلَ دَلالَتُها إلى مُجَرَّدِ الاحتِمالِ، والمَرجِعُ في ضَبْطِها وإدراكِها إلى قُوَّةِ الذِّهنِ والفِطنةِ واليَقَظةِ والمَوهِبةِ الفِطرِيَّةِ، وتلك صِفاتٌ مَطلوبةٌ في القاضِي الذي يَتَصَدَّرُ لِلْحُكمِ بَيْنَ الناسِ، والمُفتِي الذي يَتَوَلَّى الإفتاءَ في النَّوازِلِ، على أنَّ قُوَّتَها وضَعفَها هو أمرٌ نِسبِيٌّ تَختَلِفُ فيه الأنظارُ، فَما يَعتَبِرُه بَعضُ الفُقَهاءِ مِنَ القَرائنِ قَوِيًّا وكافِيًا في الاستِدلالِ ويَتَرَجَّحُ لَدَيْه على غَيرِه، قد يَعتَبِرُه غَيرُه ضَعِيفًا واهِيًا لا يُعتَمَدُ في الاستِنباطِ ولا يَقومُ دَلِيلًا على الإثباتِ، وهي [أيِ القَرِينةُ] إلى جانِبِ الشَّهادةِ، واليَمِينِ، والنُّكُولِ [قالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في (فتح ذي الجلال والإكرام): النُّكُولُ هُوَ الامتِنَاعُ عَنِ الْيَمِينِ؛ مِثالٌ، لَوِ اِدَّعَيتَ على شَخصٍ، فَقُلتَ {هذا الرَّجُلُ أتلَفَ مالِي}، فَأَنكَرَ، فَهَلْ يُحَلَّفُ أو لا يُحَلَّفُ؟، يُحَلَّفُ، فَإنْ نَكَلَ وقالَ {لا أحلِفُ}، قُلْنا {يُقضَى عليك بِالنُّكُولِ، تَضمَنُ المالَ}. انتهى باختصار]، تُشَكِلُ طَرِيقًا مِن طُرُقِ الإثباتِ؛ وقد عَقَدَ اِبْنُ فَرْحُونٍ في (التبصرة) بَحثًا قَيِّمًا في القَضاءِ بِما يَظهَرُ مِن قَرائنِ الأحوالِ والأماراتِ، واستَدَلَّ على اِعتِبارِها مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وعَمَلِ السَّلَفِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: فَدَلِيلُ اِعتبارِها [أيِ القَرِينةِ] مِنَ القُرآنِ، قَولُه تَعالَى في قِصَّةِ (يُوسُفَ) عليه السَّلامُ {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، قالَ الْقُرْطُبِيُّ [في (الجامع لأحكام القرآن)] {قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَمَّا أَرَادُوا [أيْ إخْوَةُ يُوسُفَ] أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ تَعالَى بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُعَارِضُهَا [قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (شَرْحُ الإِلمَامِ بِأَحَادِيْثِ الأَحَكَامِ): وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ هُوَ الصَّوَابُ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (القَولُ الصائبُ في قِصَّةِ حاطِبٍ): إنَّ العَمَلَ بِأَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ واجِبٌ. انتهى]، وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّمْزِيقِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ اِفْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لَابِسٌ الْقَمِيصَ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ اِسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ في إعْمَالِ الأمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ}، يَقولُ اِبنُ العربي [فِي (أَحْكَامُ الْقُرْآنِ)] {وَالْعَلَامَاتُ إذَا تَعَارَضَتْ تَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ، فَيُقْضَى بِجَانِبِ الرُّجْحَانِ}؛ وقَولُه تَعالَى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، قالَ اِبْنُ الْفَرَسِ [فِي (أَحْكَامُ الْقُرْآنِ)] {هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالأمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ}... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: أمَّا [دَلِيلُ اِعتِبارِ القَرِينةِ] مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَما وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في قَضِيَّةِ الأسرَى مِن قُرَيْظَةَ، لَمَّا حَكَمَ فيهم أنْ تُقتَلَ المُقَاتِلَةُ [المُقَاتِلَةُ هُمْ مَن كانوا أَهْلًا لِلْمُقاتَلةِ أو لِتَدبِيرِها، سَوَاءٌ كانوا عَسْكَرِيِّين أو مَدَنِيِّين؛ وأمَّا غَيرُ المُقاتِلةِ فَهُمُ المَرأَةُ، والطِّفْلُ، وَالشَّيْخُ الهَرِمُ، وَالرَّاهِبُ، وَالزَّمِنُ (وهو الإنسانُ المُبْتَلَى بِعاهةٍ أو آفةٍ جَسَدِيَّةٍ مُستَمِرَّةٍ تُعْجِزُه عنِ القِتالِ، كَالْمَعْتُوهُ وَالأَعْمَى والأَعْرَجُ والمَفْلُوجُ "وهو المُصابُ بالشَّلَلِ النِّصْفِيِّ" والْمَجْذُومُ "وهو المُصابُ بالْجُذَامِ وهو داءٌ تَتَساقَطُ أعضاءُ مَن يُصابُ به" والأَشَلُّ وما شابَهَ)، وَنَحْوُهِمْ]، وتُسبَى الّذُرِّيَّةُ [قالَ الْمَاوَرْدِيُّ (ت450هـ) في (الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي) في بَابِ (تَفْرِيقِ الْغَنِيمَةِ): فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ مَرْقُوقِينَ. انتهى باختصار]، فَكانَ بَعضُهم يَدَّعِي عَدَمَ البُلوغِ، فَكانَ الصَّحابةُ يَكشِفون عن مُؤْتَزَرِهِمِ، فَيَعلَمون بِذلك البالِغَ مِن غَيرِه [جاءَ في المَوسوعةِ الحَدِيثِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف: يَقُولُ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ {كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ} أيْ مِمَّن أُسِرَ منهم في الحَرْبِ وأُخِذَ في الغَنِيمَةِ؛ {فَكانوا} أيِ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ {يَنظُرون} أيْ إلى عانَةِ مَن يَشتَبِهون فيهِ (هَلْ هو بَلَغَ أو لمْ يبْلُغْ)، فَيَكشِفون عانَتَه؛ {فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ} على العانَةِ؛ {قُتِلَ} لِأنَّه رَجُلٌ يُحسَبُ في المُقاتِلِين؛ {وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ} الشَّعرَ؛ {لم يُقتَلْ} لِأنَّه صَغيرٌ؛ قالَ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ {فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ} شَعْرَ العانَةِ؛ وفي رُوايَةٍ لِهذا الحَدِيثِ قال عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ {فَكَشَفوا} أيِ الصَّحابَةُ؛ {عانَتِي} لِيَنظُروا (هَلْ بِها شَعرٌ أَمْ لا)؛ والمُرادُ بِالعانَةِ ما يَكونُ فَوْقَ الفَرْجِ وحَوالَيْهِ مِنَ الشَّعرِ؛ {فَوَجَدوها} أيِ العانَةَ؛ {لَمْ تَنْبُتْ} لم يَظهَرْ عليها الشَّعْرُ؛ {فَجَعَلُونِي مِنَ السَّبْيِ} مِنَ النِّساءِ والوِلْدانِ؛ وفي الحَدِيثِ أنَّ إنْباتَ شَعرِ العانَةِ دَلِيلٌ على البُلوغِ. انتهى]، وهذا حُكمٌ بِالأماراتِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: ثم إنَّ القَرائنَ تَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ، قَرِينةٌ عَقلِيَّةٌ، وقَرِينةٌ عُرفِيَّةٌ؛ فالقَرِينةُ العَقلِيَّةُ هي التي تَكونُ النِّسبةُ بَيْنَها وبَيْنَ مَدلولِها ثابِتةً يَستَنتِجُها العَقلُ دائمًا، كَوُجودِ المَسروقاتِ عند المُتَّهَمِ بِالسَّرِقةِ؛ والعُرفِيَّةُ هي التي تَكونُ النِّسبةُ بَيْنَها وبَيْنَ مَدلولِها قائمةً على عُرفٍ وعادةٍ، تَتْبَعُها دَلالَتُها [أيْ تَتْبَعُ العُرفَ والعادةَ دَلالَةُ القَرِينةُ العُرفِيَّةُ] وُجُودًا وعَدَمًا، وتَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِها، كَشراءِ المُسلِمِ شاةً قُبَيلَ عِيدِ الأضحَى، فَإنَّها قَرِينةٌ عُرفِيَّةٌ على قَصدِ الأُضحِيَّةِ، وكَشراءِ الصائغِ حُلِيًّا، فَإنَّه قَرِينةٌ على أنَّه اِشتَراه لِلتِّجارةِ، ولَولا عادةُ التَّضحِيَةِ عند الأوَّلِ، والتِّجارةِ بِالمَصوغاتِ عند الثاني، لَمَا كانَ ذلك قَرِينةً... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: والفِقهُ الإسلامِيُّ قَدِ اِعتَبَرَ القَرائنَ مِنَ الأدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ التي يُعتَمَدُ عليها في القَضاءِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: وقد قَرَّرَ الفُقَهاءُ على أساسِ اِعتِمادِ القَرائنِ العُرفِيَّةِ حُلولًا كَثِيرةً في شَتَّى الحَوادِثِ، فَنَصُّوا على أنَّه إذا اِختَلَفَ الزَّوجان في مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَهُما في العِصمةِ أو بَعْدَ طَلاقٍ، وكانَ التَّداعِي بينهما، أو [بَعَدَ] مَوتِ أحَدِهما فَكانَ التَّداعِي بَيْنَ أحَدِ الزَّوجَين ووَرَثةِ الآخَرِ، فَإنَّ الحُكمَ في ذلك أنْ يُقضَى لِلْمرأةِ بِما يُعرَفُ لِلنِّساءِ، ولِلرِّجالِ بِما يُعرَفُ لِلرِّجالِ، وما يَصلُحُ لَهُما قُضِيَ به لِلرَّجُلِ، لِأنَّه صاحِبُ البَيتِ في جارِي العادةِ، فَهُوَ تحت يَدِه، فَما يَستَعمِلُه الرِّجالُ عادةً كالسَّيفِ والعِمامةِ وثِيَاب الرِّجالِ عُمومًا يُقضَى بِها له، ويَتَرَجَّحُ قَولُ المَرأةِ فِيما يَستَعمِلُه النِّساءُ كَأَدواتِ الزِّينةِ، والجَواهِرِ، والحُلِيِّ، وهذا بِقَرِينةِ عادةِ الاستِعمالِ وعُرفِه، وهذا تابِعُ لِعُرفِ المُتَنازِعِين، فَرُبَّ مَتَاعٍ يَشهَدُ العُرفُ في بَلَدٍ أو زَمانٍ أنَّه لِلرِّجالِ، ويَشهَدُ في بَلَدٍ آخَرَ أو زَمانٍ آخَرَ بِأنَّه لِلنِّساءِ، ويَشهَدُ في الزَّمَنِ الواحِدِ والمَكانِ الواحِدِ أنَّه مِن مَتاعِ النِّساءِ بِالنِّسبةِ إلى قَومٍ، ومِن مَتاعِ الرِّجالِ بِالنِّسبةِ إلى قَومٍ آخَرِين، وحيث قُلْنا إنَّ ما يُعرَفُ لِلرِّجالِ يُقضَى به لهم، وما يُعرَفُ لِلنِّساءِ يُقضَى به لهن [فَذلك] ما لم يَكُنْ أحَدُهما صانِعًا أو تاجِرًا في النَّوعِ الصالِحِ لِلآخَرِ، وإلَّا فالأمُر عندئذ يَختَلِفُ، وأمَّا ما يَصلُح لَهما مَعًا كالدَّارِ يَسكُنانها، والماشِيَةِ يَتَصَرَّفان فيها، فَيَتَرَجَّحُ فيه قَولُ الزَّوجِ لِأنَّه صاحِبُ اليَدِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الجيدي-: وها هنا قد يَعْرِضُ لِبَعضِ الناسِ سُؤالٌ، وهو {لِمَ اللُّجوءُ إلى القَرائن ولَنا في النُّصوصِ ووَسائلِ الإثباتِ [يَعنِي وَسائلَ الإثباتِ المُباشِرةَ (الاعتِرافَ أو شَهَادَةَ شَاهِدَيْ عَدْلٍ)] ما يُغنِي؟}، والجَوابُ أنَّه قد تُسَجَّلُ بَعضُ الحالاتِ يِتَعَذَّرُ فيها على المُدَّعِي إقامةُ البَيِّنةِ على صِحَّةِ دَعواه، وامتِناعُ المُدَّعَى عليه عنِ الإقرارِ، مع أنَّ المُدَّعِي واثِقٌ مِن صِحَّةِ ما ادَّعاه، والقاضِي قد تَوافَرَ لَدَيْه مِنَ القَرائنِ والأماراتِ ما يَجعَلُه يَقتَنِعُ بِسَلامةِ وِجْهةِ نَظَرِ المُدَّعِي، فَكَيفَ يَجوزُ إهدارُ هذا الحَقِّ لِصاحِبِه، وتَبرِئةُ المُدَّعَى عليه التي حامَتْ حَولَه الشُّبُهاتُ وبَدَتْ عليه مَخايِلُ [أيْ عَلاماتُ] الكَذِبِ والاحتِيالِ؟!؛ الواقِعُ أنَّ الفُقَهاءَ لَمَّا أخَذوا بِمَبدَأِ الحُكمِ بِالقَرائنِ، كانوا مُحِقِّين فِيما ذَهَبوا إليه، فالقَرائنُ ضَرورِيَّةُ الاعتِبارِ في القَضاءِ، لِإفادَتِها في إثباتِ الكَثِيرِ مِن حَقائقِ المُنازَعاتِ والخُصوماتِ، وهي مِنَ السِّيَاسةِ العادِلةِ التي تُخرِجُ الحَقَّ مِنَ الظالِمِ وتُنصِفُ المَظلومَ، ولا يُنكِرُ أحَدٌ فائدَتَها وأهَمِّيَّتَها، لِشِدَّةِ الحاجَةِ إليها عند فُقدانِ الدَّلِيلِ أو عند التَّشكِيكِ في الأدِلَّةِ المَعروضةِ على القاضِي، ومِن ثَمَّ قالَ اِبنُ العربي [فِيما حَكَاه عنه الْقُرْطُبِيُّ في (الجامع لأحكام القرآن)] {عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الأمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالسلام بنُ برجس (الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء بالرياض) في (الرَّدُّ العِلْمِيُّ على مُنْكِرِي التصنيفَ): ونحن في هذه العُجَالَةِ نَذْكُرُ بَعضَ هذه المَسائلِ ونُدْلِي فيها بِدَلْوِنا عَلَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى أنْ يَرْزُقَنا وإيَّاكم الإخلاصَ، وتَحقِيقَ مُتابَعةِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والتَّوفِيقَ لِمَنهَجِ السَّلَفِ الصالِحِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فَمِن هذه المَسائلِ مَسأَلةُ التَّصنِيفِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ برجس-: التَّصنِيفُ، هَلْ هو حَقٌّ أَمْ باطِلٌ؟ وهَلْ يَصِحُّ التَّصنِيفُ بِالظَّنِّ أَمْ لا يَصِحُّ؟؛ وجَوابُ هذه المَسألةِ أنْ يُقالَ، إنَّ التَّصنِيفَ الذي هو نِسبَةُ الشَّخصِ الذي تَلَبَّسَ بِبِدْعةٍ إلى بِدْعَتِه، ونَحوُ ذلك كَنِسْبَةِ الكَذَّابِ إلى كَذِبِه، وهكذا كُلُّ ما يَتَعَلَّقُ بِمَسائلِ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ، نَقُولُ، إنَّ هذا التَّصنِيفَ حَقٌّ ودِينٌ يُدانُ به، ولِهذا أجْمَعَ أهلُ السُّنَّةِ على صِحَّةِ نِسبَةِ مَن عُرِفَ بِبِدْعةٍ إلى بِدْعَتِه، فَمَن عُرِفَ بِالقَدَرِ قِيلَ {هو قَدَرِيٌّ}، ومَن عُرِفَ بِبِدعَةِ الخَوارِجِ قِيلَ {خارِجِيٌّ}، ومَن عُرِفَ بِالإرجاءِ قِيلَ {هو مُرْجِئٌ}، ومَن عُرِفَ بِالرَّفْضِ قِيلَ {رافِضِيٌّ}، ومَن عُرِفَ بِالتَّمَشْعُرِ قِيلَ {أَشْعَرِيٌّ}، وهكذا مُعْتَزِلِيٌّ وصُوفِيٌّ وَهَلُمَّ جَرًّا، وأَصْلُ هذا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أنَّ أُمَّتَه سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، فَفِيه دَلالةٌ على وُجودِ الفِرَقِ، ولا يُتَصَوَّرُ وُجودُ الفِرَقِ إلَّا بوُجودِ مَن يَقومُ بِمُعتَقَداتِها مِنَ الناسِ، وإذا كانَ الأمرُ كذلك فَكُلُّ مَن دانَ بِمُعتَقَدِ أَحَدِ هذه الفِرَقِ نُسِبَ إليها لا مَحَالَةَ، فَإنَّ التَّصنِيفَ حَقٌّ أَجمَعَتْ عليه الأُمَّةُ فَلا يُنْكِرُه عاقِلٌ، فَتَصنِيفُ الناسِ بِحَقٍ وبَصِيرةٍ حِراسةٌ لِدِيِنِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، وهو جُنْدِيٌّ مِن جُنُودِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، يَنْفِي عن دِينِ اللهِ جَلَّ وعَلا تَحرِيفَ الغَالِين وانْتِحالَ المُبْطِلِين وتَأوِيلَ الجاهِلِين وزَيْغَ المُبتَدِعِين، فالتَّصنِيفُ رَقَابَةٌ تَتَرَصَّدُ ومِنْظَارٌ يَتَطَلَّعُ إلى كُلِّ مُحْدِثٍ فَيَرْجُمُه بشِهَابٍ ثاقِبٍ لا تَقُومُ له قائمةٌ بَعْدَه، حيث يَتَّضِحُ أَمْرُه ويَظْهَرُ عَوَرُه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، فالتَّصنِيفُ مِن مَعَاوِلِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التي بِحَمْدِ اللهِ جَلَّ وعَلا لم تَفْتُرْ ولن تَفْتُرَ في إخمادِ بِدَعِ أهلِ البِدَعِ والأهواءِ وفي كَشْفِ شُبَهِهم وبَيَانِ بِدَعِهم حتى يُحْذَروا وحتى تَعْرِفَهم الأُمَّةُ فَتَكونُ يَدًا واحِدةً على ضَرْبِهم ونَبْذِهم والقَضَاءِ عليهم؛ الشِّقُّ الثَّانِي مِنَ السُّؤَالِ، وهو هَلْ يُصَنَّفُ بِالظَّنِّ؟، فَإنَّنا نَقُولُ، ماذا يُرادُ بِالتَّصنِيفِ بِالظَّنِّ؟، [فَ]إنْ كانَ [المُرادُ هُوَ] الظَّنَّ المُعتَبَرَّ [أَيِ الظَّنَّ الذي مَرتَبَتُه أَعْلَى مِن مَرتَبَتَيِ الوَهْمِ والشَّكِّ، وأَدْنَى مِن مَرتَبَةِ اليَقِينِ، وهو ما سَبَقَ بَيَانُه في مَسْأَلَةِ (هَلْ يَصِحُّ إطلاقُ الكُلِّ على الأَكْثَرِ؟ وهَلِ الحُكْمُ لِلغالِبِ، والنَّادِرُ لا حُكْمَ له؟). وقد قالَ القرطبيُّ في (الجامع لأحكام القرآن): إنَّ الأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظَانِّ وَالظَّوَاهِرِ لَا عَلَى الْقَطْعِ وَاطِّلَاعِ السَّرَائِرِ. انتهى] في الشَّرْعِ، فَهذا يُصَنَّفُ به -ولا رَيْبَ- عند أهلِ العِلْمِ رَحِمَهم اللهُ تَعالَى، ولِذلك لو تَأَمَّلتَ طَرِيقةَ السَّلَفِ في بابِ الجَرحِ والتَّعدِيلِ والكَلامِ في أهلِ البِدَعِ تَرَاهم يَعتَبِرون الظَّنَّ، فَمَثَلًا بَعضُهم يَقُولُ {مَن أَخْفَى علينا -أو عَنَّا- بِدْعَتَهُ لَمْ تَخْفَ عَلَيْنَا أُلْفَتُهُ}، يَعْنِي أنَّنا نَعْرِفُه مِن خِلالِ مَن يُجالِسُ وإنْ لم يُظْهِرِ البِدْعةَ في أقوالِه وأفعالِه، وقد قالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى {لَمَّا قَدِمَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْبَصْرَةَ، وكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ لَهُ قَدْرٌ عند الناسِ وله حُظْوَةٌ وَمَنْزِلَةٌ، فَجَعَلَ الثَّوْرِيُّ يَسأَلُ عن أَمْرِه ويَستَفْسِرُ عن حالِه، فَقالَ (ما مَذهَبُه؟)، قالوا (مَذهَبُه السُّنَّةُ)، قالَ (مَن بِطانَتُه؟)، قالوا (أهلُ القَدَرِ)، قالَ (هو قَدَرِيٌّ)} [قالَ الشيخُ عليُّ بنُ محمد الصلابي (عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) في كتابه (الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط): وكَمْ خَدَعَتْ تلك العَقِيدةُ الخَطِيرةُ (التَّقِيَّةُ) المُسلِمِين حُكَّامًا ومَحكومِين، عُلَماءَ ومُتَعَلِّمِين، فَأَيْنَ عُلَماءُ السُّنَّةِ الذِين لا تَنْطَلِي عليهم دَسائسُ الباطِنِيِّين؟!. انتهى]، وقد عَلَّقَ اِبْنُ بَطَّةَ [في كِتابِه (الإبانة الكبرى)] رَحِمَه اللهُ تَعالَى على هذا الأَثَرِ بِقَولِه {رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، لَقَدْ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ فَصَدَقَ، وَقَالَ بِعِلْمٍ فَوَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا تُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ وَيُدْرِكُهُ الْعِيَانُ وَيَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)}، ولْيَعْلَمْ طالِبُ العِلْمِ أنَّ أكثَرَ تَصنِيفِ أهلِ العِلْمِ في قَدِيمِ الزَّمَنِ وحَدِيثِه إنَّما هو بِالظَّنِّ المُعتَبَرِ، أَمَّا التَّصنِيفُ بِاليَقِينِ فَهو نادِرٌ جِدًّا في الأُمَّةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ برجس-: والتَّصنِيفُ بِالقَرائنِ مَبْنَاه على الظَّنِّ كَما هو في أكثَرِ أحكامِ الشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بن هادي المدخلي (عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في (اللقاءات السلفية بالمدينة النبوية): قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَحِمَه اللهُ {قَدِمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ الصُّورِيُّ بَغْدَادَ، فَذُكِرَ لِأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَه اللهُ، [فَ]قَالَ (اُنْظُرُوا عَلَى مَنْ نَزَلَ وَإِلَى مَنْ يَأْوِي)} [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): فالنَّبِيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا نَزَلَ المَدِينةَ نَزَلَ على بَنِي النَّجَّارِ، وبَنُو النَّجَّارِ هُمْ أفضَلُ الأنصارِ، أَيْ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ على خِيرَةِ الأنصارِ ولم يَنزِلْ على أَيِّ واحِدٍ منهم، وإنَّما نَزَلَ في بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ (موقعُ الإسلام سؤال وجواب) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط في فَتوَى بِعُنوانِ (لِماذا لم يُعاقِبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُنافِقِين؟): إنَّ المُنافِقِين وإِنْ عُلِمَ حالُهم بِالوَحيِ، أو ظَهَرَتْ بَعضُ أماراتِ نِفاقِهم، إلَّا أنَّه لم تَظهَرْ لِلنَّاسِ البَيِّنةُ الشَّرعِيَّةُ التي بها تُقامُ الحُدودُ الشَّرعِيَّةُ، كالإقرارِ أو اِكتِمالِ نِصابِ شَهادةِ الشُّهودِ؛ قَالَ اِبْنُ قُدَامَةَ [فِي (المُغنِي)] رَحِمَه اللهُ تَعالَى {ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ، لَا فِيمَا عَلِمَهُ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَلَا بَعْدَهَا... إنَّ تَجْوِيزَ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ [أيْ بِعِلْمِ القاضِي] يُفْضِي إلَى تُهْمَتِهِ، وَالْحُكْمِ بِمَا اِشْتَهَى، وَيُحِيلُهُ عَلَى عِلْمِهِ}... ثم قالَ -أَيْ موقعُ الإسلام سؤال وجواب-: شَيخُ الإسلامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ [فِي (الصارم المسلول)] رَحِمَه اللهُ قالَ {إنَّ عامَّتَهم لم يَكُنْ ما يَتَكَلَّمون به مِنَ الكُفرِ مِمَّا يَثبُتُ عليهم بِالبَيِّنةِ، بَلْ كانوا يُظهِرون الإسلامَ، ونِفاقُهم يُعرَفُ تارةً بِالكَلِمةِ يَسمَعُها منهم الرَّجُلُ المُؤمِنُ فَيَنقُلُها إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَحلِفون بِاللَّهِ أنَّهم ما قالوها، وتارةً بِما يَظهَرُ مِن تَأَخُّرِهم عنِ الصَّلاةِ والجِهادِ، واستِثقالِهم لِلزَّكاةِ، وظُهورِ الكَراهِيَةِ منهم لِكَثِيرٍ مِن أحكامِ اللهِ، وعامَّتُهم يُعرَفون في لَحْنِ الْقَوْلِ... ثم جَمِيعُ هؤلاء المُنافِقِين يُظهِرون الإسلامَ، ويَحلِفون أنَّهم مُسلِمون، وقَدِ اِتَّخَذوا أيمانَهم جُنَّةً [قالَ اِبنُ كَثِيرٍ في تَفسِيرِه: وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أَيِ اِتَّقَوُا النَّاسَ بِالأيمَانِ الْكَاذِبَةِ والْحَلْفَاتِ الآثِمَةِ لِيُصَدَّقُوا فِيمَا يَقُولُونَ، فَاغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ جَلِيَّةَ أَمْرِهِمْ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَرُبَّمَا اِقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَ وَصَدَّقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ، وَهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ لَا يَأْلُونَ الإسْلَامَ وَأَهْلَهُ خَبَالًا، فَحَصَلَ بِهَذَا الْقَدْرِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. انتهى]، وإذا كانَتْ هذه حالُهم فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يُقِيمُ الحُدودَ بِعِلمِه، ولا بِخَبرِ الواحِدِ، ولا بُمَجَرَّدِ الوَحيِ، ولا بِالدَّلائلِ والشَّواهِدِ، حتى يَثبُتَ المُوجِبُ لِلْحَدِّ بِبَيِّنةٍ أو إقرارٍ... فَكانَ تَرْكُ قَتلِهم مع كَونِهم كُفَّارًا، لِعَدَمِ ظُهورِ الكُفرِ منهم بِحُجَّةٍ شَرعِيَّةٍ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (مصلحة التأليف وخشية التنفير، في الميزانِ، بِتَقدِيمِ الشَّيخِ أبي محمد المقدسي): قالَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ [في (شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)] {والاستِدلالُ بِالقَرائنِ مِنَ الأفعالِ والأحوالِ والأقوالِ مِنَ الطُّرُقِ المُفِيدةِ لِلْعِلْمِ اليَقِينِيِّ، لا سِيَّمَا مع كَثرةِ القَرائنِ وطُولِ الأزمِنةِ}، وبِالجُملةِ فالنِّفاقُ قد يُعلَمُ بِالقَرائنِ الظاهِرةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: وعامَّتُهم [أَيْ عامَّةُ المُنافِقِين] يُعرَفون في لَحْنِ القَولِ ويُعرَفون بِسِيماهم، ولا يُمكِنُ عُقوبَتُهم بِاللَّحْنِ والسِّيما. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في (قواعدُ في التكفير): القَرائنُ ولَحْنُ القَولِ تُلزِمُنا بِالحَذَرِ والحَيْطَةِ مِن أهلِ النِّفاقِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في تَفسِيرِه: قَضِيَّةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حين لَحِقَ المُشرِكَ بِالسَّيفِ، فَلَمَّا أدرَكَه قالَ المُشرِكُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، فَظَنَّ أُسامةُ أنَّه قالَها تَعَوُّذًا (كَما نَظُنُّ نحن أيضًا)، فَضَرَبَه بِالسَّيفِ فَقَتَلَه، ثم أخبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بِذلك، قالَ {قَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؟}، قالَ {نَعَمْ يا رَسولَ اللهِ، لَكِنَّه قالَها تَعَوُّذًا}، ثم جَعَلَ يُكَرِّرُ {أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)؟}، وهو [أيْ أُسامةُ] يَقولُ {قالَها تَعَوُّذًا}، ظاهِرُ الحالِ أنَّه قالَها تَعَوُّذًا، ومع ذلك أنكَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام على أُسامةَ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: القِصَّةُ، رَجُلٌ مِنَ الكُفَّارِ هَرَبَ فَلَحِقَه أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَّما أدْرَكَه قالَ الرَّجُلُ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، فَقَتَلَه أُسامةُ، ظَنَّه أنَّه قالَها تَعَوُّذًا (يَعنِي خَوفًا مِنَ القَتلِ)، والقَرِينةُ مع أُسامةَ، لِأنَّ رَجُلًا كافِرًا أدْرَكَه مُسلِمٌ بِسَيفِه فَقالَ {لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، قَرِينةُ كَونِه مُتَعَوِّذًا بِها قَوِيَّةٌ جِدًّا. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ في (الصارم المسلول): ولا خِلافَ بَيْنَ المُسلِمِين أنَّ الحَربِيَّ إذا أسلَمَ عند رُؤْيَةِ السَّيفِ يَصِحُّ إسلامُه وتُقبَلُ تَوبَتُه [أيْ ظاهِرًا] مِنَ الكُفرِ، وإنْ كانَتْ دَلالةُ الحالِ تَقضِي أنَّ باطِنَه بِخِلافِ ظاهِرِه. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو بكر القحطاني في (مُناظَرةٌ حَوْلَ العُذرِ بِالجَهلِ) عن قَتِيلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: الظاهِرُ أنَّه لم يُسلِمْ حَقِيقةً... ثم قالَ -أيِ الشيخُ القحطاني-: ظاهِرُه أنَّه لم يُحَقِّقْ شُروطَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ (اليَقِينُ، الإخلاصُ، المَحَبَّةُ، الصِّدقُ). انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالمالك رمضاني في (تَخلِيصُ العِبَادِ) عن قَتِيلِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: كُلُّ القَرائنِ تُوحِي بِأنَّه لم يُرِدْ بِكَلِمةِ التَّوحِيدِ إلَّا حَقْنَ دَمِه، مع ذلك حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَه. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ (رئيس القضاة ومفتى الديار السعودية ت1389هـ) في (شَرحُ كَشفِ الشُّبُهاتِ): فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ، يَعْنِي قِصَّتُهُ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ {لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}، فَإِنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا اِدَّعَى الإِسْلامَ بِسَبَبِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مَا ادَّعَاهُ إِلَّا خَوْفًا عَلَى دَمِهِ ومَالِهِ؛ والرَّجُلُ إِذَا أَظْهَرَ الإِسْلامَ لا يُقْتَلُ وَيَجِبُ الكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ ما يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ [أيْ بِالإقرارِ (أيِ الاعتِرافِ)، أو بِالبَيِّنةِ (أيِ الشُّهودِ)] مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يُخَالِفُ الإِسْلامَ قُتِلَ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ محمد بن إبراهيم-: النَّاطِقُ بالإِسْلامِ إن قَامَتِ القَرَائِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ليَسْلَمَ مِن القَتْلِ، فَإِنَّها تَدُومُ عِصْمَتُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ قُتِلَ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في مُحاضَرةٍ بِعُنْوانِ (تَعامُلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع المُنافِقِين) مُفَرَّغَةٍ على مَوقِعِه في هذا الرابط: فَإنَّ تَعامُلاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصنافِ الناسِ جَدِيرةٌ بِالدِّراسةِ والبَحثِ، وذلك لِأنَّها تُعطِي المُسلِمَ المَنهَجَ الذي يَتَعامَلُ به مع مَن حَولَه، ومَن حَوْلَ المُسلِمِ لا يَخلو أنْ يَكونَ مُسلِمًا، أو كافِرًا، والكافِرُ إمَّا أنْ يَكونَ كافِرًا مُجاهِرًا (أيْ واضِحًا مُظهِرًا لِكُفرِه)، وإمَّا أنْ يَكونَ مُنافِقًا مُخفِيًا لِلْكُفرِ مُظهِرًا لِلْإسلامِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: إنَّ الوَحْيَ المُنَزَّلَ مِنَ السَّماءِ كانَ يُؤَيِّدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَكشِفُ له مَن حَوْلَه، وكَيْفَ يَتَعامَلُ معهم، وتَأتِي الإرشاداتُ الإلَهِيَّةُ مِن رَبِّ العِزَّةِ سُبحانَه وتَعالَى تُبَيِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُعامَلةَ مع المُنافِقِين، فَمَرَّةً يَقولُ له {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، وَمَرَّةً يَقولُ له {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، وتارةً يَقولُ له {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، وتارةً يَقولُ له {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، وهكذا مِنَ الإرشاداتِ التي تُبَيِّنُ له كَيْفَ يَتَعامَلُ، أمَّا الفَضْحُ والتَّشهِيرُ فَإنَّه كَثِيرٌ في الآياتِ، يُبَيِّنُ [سُبحانَه وتَعالَى] مَن هو المُنافِقُ؟ ماذا يَقولُ المُنافِقُ؟ ماذا يَفعَلُ المُنافِقُ؟ ما هي عادةُ المُنافِقِ؟ ما هي طَرِيقةُ المُنافِقِ؟، وهكذا سُورةُ (التَّوْبَةِ) التي تُسَمَّى سُورةَ (الفاضِحةِ) بَيَّنَتِ الكَثِيرَ مِن مُؤامَراتِهم، قالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه {(التَّوْبَةُ) هِيَ (الْفَاضِحَةُ)، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ، وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَنْ تُبْقِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا [أيْ في سُورةِ (التَّوْبَةِ). وقد قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ في (فَتْحُ الباري): قَوْلُهُ {وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ} أَيْ كَقَوْلِهِ [تَعالَى] {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ}، {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}. انتهى باختصار]} رواه البخاري... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُواجِهُ المُنافِقِين بِما يَبْلُغُه عنهم {أنتَ قُلتَ كَذا؟}، فَإنْ أنكَرَ فَيُوضَعُ تَحْتَ المِجهَرِ [اِتِّقاءَ شَرِّه]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصبِرُ على أذَى المُنافِقِين، فَعَن عبدِالله بْنِ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قَالَ {لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ [أيْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ (التي هي نَفْسُها غَزْوَةُ هَوَازِنَ، والتي هي نَفْسُها غَزْوَةُ أَوْطَاسٍ)] آثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ [وهو مِن ساداتِ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ] مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ [هو عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، كانَ سَيِّدَ بَنِي فَزارةَ وفارِسَهم] مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَآثَرَهُمْ [أيْ فَضَّلَهم على غَيرِهم] يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ}؛ إذًا، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطَى [مِن] غَنائمِ حُنَيْنٍ الكَثِيرةِ الضَّخمةِ ساداتِ القَبائلِ وأشرافَ القَبائلِ، تَألِيفًا لهم، أُناسٌ حُدَثاءُ عَهْدٍ بِالإسلامِ، كان يَخْشَى عليهم، فَأَرادَ أنْ يُثَبِّتَهم أعطاهم كَثِيرًا، وأعطَى أُناسًا مِنَ المُتَّهَمِين بِعَدَواتِه والتَّأْلِيبِ عليه أيضًا، وأعطَى أُناسًا مِنَ أشرافِ العَرَبِ تَرغِيبًا لهم في الدُّخولِ في الإسلامِ، إذًا، أعطَى المُؤَلَّفةَ قُلوبُهم، أعطَى أُناسًا لِتَثبِيتِهم، وأعطَى أُناسًا لِكَفِّ شَرِّهم، أعطَى أُناسًا لِجَلبِهم، فقالَ رَجُلٌ [قال القَسْطَلَّاني (ت923هـ) في (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري): هو مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ المُنافِقُ. انتهى. وقالَ الشيخُ زَكَرِيَّا الأنصاري (ت926هـ) في (منحة الباري بشرح صحيح البخاري): هو مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ المُنافِقُ. انتهى. وقالَ الشيخُ عطية صقر (رئيس لجنة الإفتاء بالأزهر) في كتابِ (فتاوى دار الإفتاء المصرية): المُؤَلَّفةُ قُلوبُهم، منهم مُسلِمون، ومنهم كافِرون، والمُسلِمون أَقسامٌ أربَعةٌ؛ القِسمُ الأوَّلُ، قَومٌ مِن ساداتِ المُسلِمِين لَهم نُظَراءُ مِنَ الكُفَّارِ، إذا أعطَيناهم مِنَ الزَّكاةِ يُرجَى إسلامُ نُظَرائهم؛ القِسمُ الثانِي، زُعَماءُ ضُعَفاءُ الإيمانِ لَكِنَّهم مُطاعون في أقوامِهم، ويُرجَى بِإعطائهم مِنَ الزَّكاةِ تَثبِيتُ الإيمانِ في قُلوبِهم؛ القِسمُ الثالِثُ، قَومٌ مِنَ المُسلِمِين يُخْشَى أنْ يَستَمِيلَهم العَدُوُّ لِمَصلَحَتِه، وَهُمُ العُمَلاءُ الذِين يَنشُطون حين يَرَون الفائدةَ مُيَسَّرةً لهم؛ القِسمُ الرابِعُ، قَومٌ مِنَ المُسلِمِين يُحتاجُ إليهم لِجِبايَةِ الزَّكاةِ، لِأنَّهم ذَوُو نُفوذٍ في أقوامِهم، لا تُجبَى إلَّا بِسُلطانِهم... ثم قالَ -أيِ الشيخُ عطية صقر-: أمَّا الكافِرون مِنَ المُؤَلَّفةِ قُلوبُهم فَهُمْ قِسمان؛ القِسمُ الأوَّلُ، مَن يُرجَى إيمانُه؛ القِسمُ الثانِي، مَن يُخشَى شَرُّه، فَيُعطَى مِنَ الزَّكاةِ لِيُكَفَّ شَرُّه عنِ المُسلِمِين. انتهى باختصار] {وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ}، هذا شَخصٌ مع المُسلِمِين مُندَسٌّ بينهم [أيْ أنَّه ليس مِنَ المُسلِمِين حَقِيقةً، فَهو مُنافِقٌ يَتَظَاهَرُ بِالإسْلَامِ]، بَعْدَ أنْ رَأَى القِسمةَ بَعْدَ المَعرَكةِ قالَ عِبارةً في غايَةِ الكُفرِ والإيذاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قالَ الشيخُ اِبْنُ عثيمين في (شرح رياض الصالحين): هذه الكَلِمةُ كَلِمةُ كُفرٍ، أنْ يَنسِبَ اللهَ ورَسولَه إلى عَدَمِ العَدْلِ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: لَوْ قامَ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وقَتَلَ هذا الرَّجُلَ الذي قالَ {هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ}، هذا يَستَحِقُّ القَتْلَ بِلا شَكٍّ، لَكِنَّ الناسَ البَعِيدِين (أو العَرَبَ) الذِين سَلَّطوا الأضواءَ على المَدِينةِ [حَيثُ يُقِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، ويَنظُرون على هذه الشَّخصِيَّةِ [يَعنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] التي تَفَوَّقَتْ وانتَصَرَتْ (ماذا يَعمَلُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] مع الناسِ؟)، هَلْ يُسلِمون ويَذهَبون إليه؟، هَلْ هو مَأْمونٌ؟، فَلَوْ بَلَغَهم أنَّه [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَتَلَ واحِدًا مِنَ الذِين معه بِدُونِ سَببٍ واضِحٍ [أيْ فِيمَا يَرَى النَّاسُ]، هذا رَجُلٌ مُنافِقٌ مُندَسٌّ [يَعنِي الرَّجُلَ الذي قالَ {هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ}] تَكَلَّمَ كَلِمةً خَطَأً، لم يَعمَلْ جَرِيمةً واضِحةً لِلنَّاسِ، فَسَيَقولون {مُحَمَّدٌ يَقتُلُ أصحابَه}، ولِذلك صَبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وكانَ هَديُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقومُ على كَشفِ صِفاتِ المُنافِقِين، وتَعرِيفِ بَعضِ أصحابِه بِهؤلاء... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: إنَّ أسماءَ بَعضِ المُنافِقِين كانَتْ تَخْفَى على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَكِنَّ خَفاءَ أسمائهم لا يَعنِي خَفاءَ صِفاتِهم وعَلاماتِهم، بَلْ هُمْ مَعروفون، إمَّا بِعَلاماتِهم، وإمَّا بِأَعيَانِهم، قالَ تَعالَى {وَلَوْ نَشَاءُ لَأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}، قالَ الحافِظُ اِبنُ كَثِيرٍ [في تَفسِيرِه] رحِمَه اللهُ {(وَلَوْ نَشَاءُ يَا مُحَمَّدُ لَأرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ، فَعَرَفْتَ أعيانَهم)، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ}، لِماذا لم يَكشِفُ اللهُ كُلَّ أسماءِ المُنافِقِين؟ لِيُبَيِّنَ تَعالَى أنَّ السَّرائرَ هو الذي يَعلَمُها، ويَتَفَرَّدُ بِعِلْمِها؛ وقَولُه {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يَعني فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ وَيدُلُّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، وهذا [هو] الفَحْوَى، وَفَحْوَى الكَلامِ هُوَ لَحْنُ الْقَوْلِ؛ والصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وإنْ لم يَعلَموا بَعْضَ المُنافِقِين إلَّا أنَّهم كانوا يَعرِفونهم بِصِفاتِهم، ومِن ذلك قَولُ عبدِالله بنِ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه وهو يَتَحَدَّثُ عن صَلاةِ الجَماعةِ {وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ} رَواه مُسلِمٌ، وقالَ كَعْبُ [بْنُ مَالِكٍ] رَضيَ اللهُ عنه وهو يَحكِي قِصَّةَ تَخَلُّفِه عن غَزْوَةِ تَبُوكَ {فَطَفِقْتُ [أيْ فَاسْتَمْرَرْتُ] إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ -بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ} رَواه الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ، {مَغموصًا} يَعنِي {مَطعونًا عليه في دِينِه، مُتَّهَمًا بِالنِّفاقِ}، وظاهِرُ هذا أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَعرِفون المُنافِقِين بِصِفاتِهم، ومِنَ الحِكمةِ أنْ تُربَطَ الأشياءُ بِالعَلاماتِ والصِّفاتِ، وليس بِأَسْماءٍ مُعَيَّنِين، لِأنَّ النِّفاقَ ظاهِرةٌ مُتَكَرِّرةٌ، ولو بُيِّنَتْ أسماءُ هؤلاء كُلِّهم [يَعنِي لو تَمَّ تَعيِينُهم بِالوَحيِ بِدُونِ التَّعرِيفِ بِما يَغْلِبُ عليهم مِن صِفاتٍ] فَما الذي يَدُلُّ أصحابَ العُصورِ الأُخرَى والأجيَالَ القادِمةَ على المُنافِقِين؟... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: ومَن تَأَمَّل، وطابَقَ بَيْنَ صِفاتِ المُنافِقِين المَوجودةِ في [سُورةِ] (التَّوبةِ) وسُورةِ (النُّورِ) وسُورةِ (البَقَرةِ) وسُورةِ (النِّساءِ) وسُورةِ (الأحزابِ) وغَيرِها مِنَ السُّوَرِ، سَيَجِدُ أنَّ صِفاتِ هؤلاء مَوجودةٌ في كَثِيرٍ مِنَ الكُتَّابِ والصَّحَفِيِّين والمُمَثِّلِين، الذِين يَتَكَلَّمون الآنَ على المَلَأ، أنَّ عَلاماتِ النِّفاقِ مَوجودةٌ فيهم، وما ذَكَرَه اللهُ [أيْ مِن صِفاتِ المُنافِقِين] مَوجودٌ في كِتاباتِهم -{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}- وكَلامِهم الذي يَقولونه في تَمْثِيلِيَّاتٍ، أو في تَصرِيحاتٍ مُهِمَّةٍ، أو في مَقالاتٍ أو أشياءٍ يَكتُبونَها [قُلْتُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إنَّ الذي في كَلامِهم وكِتاباتِهم ليس النِّفاقَ، ولَكِنَّه الكُفْرُ الصُّراحُ البَيِّنُ الظاهِرُ الذي لا يَخْفَى على كُلِّ مَن حَقَّقَ ما لا يَصِحُّ الإيمانُ إلَّا به]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: وكانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عن إكرامِ المُنافِقِين، فَقالَ {لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ (سَيِّدٌ)، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ} رَواه أَبُو دَاوُدَ وصَحَّحَه الألبانِيُّ في صَحِيحِ الجامِع وهو حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فالذي يَقولُ لِلْمُنافِقِ {السَّيِّدُ فُلَانٌ الْفُلَانِيُّ} والذي يُكرِمُه بِهذه الألفاظِ يَكونُ قد أغضَبَ اللهَ تَعالَى، لِأنَّ هذا المُنافِقَ الذي يَطعَنُ في دِينِ اللهِ لا يُمكِنُ أنْ يُعَظَّمَ ويُكَرَّمَ (يُسبَغُ عليه ألفاظُ تَكرِيمٍ)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَكُنْ لِيُسْنِدَ لِأحَدٍ مِنَ المُنافِقِين وِلَايَةً عامَّةً إطلاقًا، ولم يَأْتَمِنْهم على مَصالِحِ الأُمَّةِ، ولا على وَظائفِ المُسلِمِين، ولم يَكُنْ لِيُسْنِدَ إليهم جِبايَةَ الأموالِ، ولا إمارةَ الحَربِ، ولا القَضاءَ بَيْنَ الناسِ، ولا الإمامةَ في الصَّلاةِ، أيُّ وِلايَةٍ مِن الوِلايَاتِ ما كانَ له أنْ يُسْنِدَها إلى مُنافِقٍ، لِأنَّهم يَكفُرون بِاللَّهِ ورَسولِه، ويُحارِبون المُؤمِنِين ويَكِيدون لهم. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (زَادُ الْمَعَادِ): وَأَمَّا تَرْكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ مَنْ قَدَحَ فِي عَدْلِهِ -بِقَوْلِهِ {اِعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ}- وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، وَلَيْسَ لأُمَّتِهِ تَرْكُ اِسْتِيفَاءِ حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قالَ اِبنُ عبدِالبر في (الاستذكار): قِيلَ لِمَالِكٍ {َرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ عَرَفَهُمْ؟}، فَقَالَ {إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَوْ قَتَلَهُمْ لِعِلْمِهِ فِيهِمْ وَهُمْ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى أَنْ يَقُولَ النَّاسُ (قَتَلَهُمْ لِلضَّغَائِنِ وَالْعَدَاوَةِ أَوْ لِمَا شَاءَ اللَّهُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإسلام)}. انتهى باختصار]؛ وَأَيْضًا لِئَلَّا يَتَحَدَّثُوا [أيِ الناسُ] أَنَّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ وَكُلُّ هَذَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ سعد فياض (عضو المكتب الدعوي والعلمي بالجبهة السلفية) في مَقالةٍ بِعُنوانِ (مَقاصِدُ الكُفرِ العالَمِيِّ) على هذا الرابط: تَكَفَّلَ اللهُ تَعالَى بِالرَّدِّ على [عَبْدِاللَّهِ] بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ بِآياتٍ تُتلَى إلى يَومِ القِيامةِ، فَأنزَلَ قَولَه تَعالَى {[يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، بَلْ وَقَدَّرَ سُبحانَه إذلالَ اِبْنِ أُبَيِّ [بْنِ] سَلُولَ على يَدِ اِبنِه الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ الذي قالَ لِأبِيه {وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَزِيزُ} أخرَجَه التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَه الألبانِيُّ في صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ [قالَ الشيخُ أسامة سليمان (مديرُ إدارة شؤون القرآن بجماعة أنصار السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ) في (شرح صحيح البخاري): ثم وَقَفَ على بابِ المَدِينةِ إلى أنْ جاءَ أبُوه، فَقَالَ {دَعْنِي أدخُلْها}، قالَ {لن تَدخُلَ المَدِينةَ إلَّا أنْ تَقولَ (أنَا الأَذَلُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ الأَعَزُّ)}، فَقالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ {أنَا الأَذَلُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ الأَعَزُّ}، فَسَمَحَ له بِدُخولِها؛ ومَوقِفُ الابْنِ هُنَا عِزَّةٌ وكَرامةٌ لِلإسلامِ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، واليَومَ العِزَّةُ والكَرامةُ ضاعَتْ في بِلادِ المُسلِمِين لِأنَّهم تَخَلَّوْا عن دِينِهم وعن عَقِيدَتِهم. انتهى]. انتهى باختصار. وجاءَ في مَقالةٍ على مَوقِعِ دائرةِ الإفتاءِ العامِّ الأُرْدُنِيَّةِ بِعُنوانِ (مَوقِفُ الإمامِ الشافِعِيِّ مِن سَدِّ الذَّرائعِ مع الاستِدلالِ) لِلشَّيخَين حارث محمد سلامه العيسى (الأستاذ المشارك في قسم الفقه وأصوله في كلية الشريعة) وأحمد غالب الخطيب (مفتي محافظة المفرق الأُرْدُنِيَّةِ) على هذا الرابط: إنَّ اللهَ لَمَّا أعلَمَ رَسولَه بِحالِ المُنافِقِين لم يُبطِلْ جَمِيعَ الأحكامِ المُتَعَلِّقةِ بِما أَعلَمَه به، فَقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ له {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، وقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ له {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} ومَنْعُهُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَهُمْ مِنَ الخُروجِ معه والجِهادِ في سَبِيلِ اللهِ عَمَلٌ تَرَتَّبَ على مَعرِفةِ سَرائرِهم وإنْ لم يَأمُرْه اللهُ بِقَتلِهم، وقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ له {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ونَهْيُه عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّه أنْ يُصَلِّي عليهم وكذا قِيَامَه على قُبورِهم، مَبنِيٌّ على مَعرِفةِ سَرائرِهم وإنْ لم يَأمُرْه اللهُ بِقَتلِهم [قالَ اِبنُ كَثِيرٍ في تَفسِيرِه: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَلَّا يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِذَا مَاتَ، وَأَلَّا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ، لِأنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَاتُوا عَلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ. انتهى]، قالَ الْقُرْطُبِيُّ [في (الجامع لأحكام القرآن)] في دَلالةِ قَولِ اللهِ تَعالَى (لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) {هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اِسْتِصْحَابَ الْمُخَذِّلِ فِي الْغَزَوَاتِ لَا يَجُوزُ} وهذا حُكمٌ تَرَتَّبَ على مَعرِفةِ النَّبِيِّ لِلْمُنافِقِين وفيه فائدةٌ كَبِيرةٌ لِمَجموعِ المُسلِمِين... ثم جاء -أيْ في المَقالةِ-: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قالَ لِنَبِيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، ولَحْنُ الْقَوْلِ أيْ فَحواه ومَعناه، قالَ اِبنُ كَثِيرٍ {أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامِهِمُ الدَّالِّ عَلَى مَقَاصِدِهِمْ، يَفْهَمُ الْمُتَكَلَّمُ مِنْ أَيِّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامِهِ وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ لَحْنِ الْقَوْلِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ}، فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أرشَدَ نَبِيَّه إلى مَعرِفةِ المُنافِقِين والنَّظَرِ إلى الأَماراتِ والعَلاماتِ التي يُعلَمُ بِها صِدقُ المُحِقِّ وبُطلانُ المُبطِلِ، وفي هذا أكبَرُ فائدةٍ لِلإسلامِ والمُسلِمِين وإنْ لم يَأمُرْه اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِقَتلِهم، وهذا يَدُلُّ على أنَّ عَدَمَ إعمالِ الدَّلالةِ في حُكمٍ -أيْ قَتلِهم بِدَلالةِ كُفرِهم- لا يَعنِي عَدَمَ إعمالِها في بَقِيَّةِ الأحكامِ (كالصَّلاةِ عليهم واصطِحابِهم في القِتالِ)... ثم جاءَ -أيْ في المَقالةِ-: رَوَى البُخارِيُّ مِن طَرِيقِ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ {لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ (وَكَيْفَ إِذْنُهَا)، قَالَ (أَنْ تَسْكُتَ)} ومِن طَرِيقِ عائشةَ قالَ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] {رِضَاهَا صَمْتُهَا}، قالَ اِبْنُ فَرْحُونٍ [في (تبصرة الحكام)] {فَجَعَلَ صَمْتَهَا قَرِينَةً عَلَى الرِّضَا، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا رَضِيَتْ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الأدِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ}. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ في (أحكام أهل الذمة): قَالَ شَيْخُنَا [اِبْنُ تَيْمِيَّةَ] {وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجْرِي الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي الأحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُونَ وَيُورَثُونَ، وَقَدْ مَاتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ [بْنِ سَلُولَ] وَغَيْرُهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِنِفَاقِهِمْ وَنُهِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَوَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا وَرِثَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ اِبْنُهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمِيرَاثَ مَدَارُهُ عَلَى النُّصْرَةِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى إِيمَانِ الْقُلُوبِ وَالْمُوَالَاةِ الْبَاطِنَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظَّاهِرِ يَنْصُرُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْعَلُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَالْمِيرَاثُ مَبْنَاهُ عَلَى الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ لَا عَلَى إِيمَانِ الْقُلُوبِ وَالْمُوَالَاةِ الْبَاطِنَةِ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في (شرح بلوغ المرام): المُنافِقِين يَجْرِي التَّوارُثُ بينهم وبَيْنَ المُؤمِنِين، لِأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَلَهم مُعاملَةَ المُسلِمِين ظاهِرًا، وهذا صَحِيحٌ فِيما إذا لم يُعلَمْ [أيْ بِالاعتِرافِ أوِ الشُّهودِ] نِفاقُه، أمَّا إذا عُلِمَ نِفاقُه وأعلَنَه فَإنَّه كافِرٌ، و{لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ}، لَكِنْ إذا كانَ لا يُعلِنُ نِفاقَه فَإنَّه يَجْرِي التَّوارُثُ بَيْنَه وبَيْنَ أقارِبِه المُسلِمِين. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ سفر الحوالي (رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى) في مَقالةٍ له على موقِعه في هذا الرابط: تارِكُ الصَّلاةِ، هذا بِحَسَبِ مَعرِفَتِه، فإجراءُ الأحكامِ عليه، يَختَلِفُ الحالُ بَيْنَ زَوجَتِه -مَثَلًا- التي تَعِيشُ معه في البَيتِ، والتي تَعلَمُ يَقِينًا أنَّ هذا الزَّوجَ لا يُصَلِّي، وبَيْنَ حالِ رَجُلٍ لا يَعرِفُه مِنَ الناسِ، ولو ذَهَبَ [أَيِ الرَّجُلُ الذي لا يَعرِفُه] وقابَلَه في أيِّ مَكانٍ لَسَلَّمَ عليه، ولو ذَبَحَ لَأكَلَ [أَيِ الرَّجُلُ الذي لا يعَرِفُه] ذَبِيحَتَه، ولَوْ تَكَلَّمَ [أيْ تارِكُ الصَّلاةِ] معه بِكَلاِم الإيمانِ أو الإسلامِ لخَاطَبَه بذلك، فَهذا رَجُلٌ [يَعنِي تارِكَ الصَّلاةِ] يَختَلِفُ حُكمُه في حَقِّ زَوجَتِه التي يَجِبُ عليها شَرعًا أنْ تُطالِبَ القَضاءَ بإلغاءِ العَقْدَ، وألَّا تُمَكِّنَه مِن نَفسِها، لِأنَّه كافِرٌ بِالنِّسبةِ لها، [يَختَلِفُ حُكْمُه في حَقِّ زَوجَتِه عن حُكْمِه في حَقِّ] الذي لا يَعرِفُ حَقِيقَتَه مِنَ الناسِ، [فالذي لا يَعرِفُ حَقِيقَتَه] يُعامِلُه مُعامَلةَ المُسلِمِين، فَنحن أُمِرْنا أنْ نُجرِيَ أحكامَ الإسلامِ الظاهِرةَ على كُلِّ مَن يَدَّعِي الإسلامَ في دارِ الإسلامِ، ولَكِنْ لا يَعنِي ذلك أنَّهم في الحَقِيقةِ وفي الباطِنِ وعند اللهِ أنَّهم مُؤمِنون، فَلَو ماتَ هذا الرَّجل فَإنَّ مَن كانَ يَعرِفُ حَقِيقَتَه وأنَّه تارِكٌ لِلصَّلاةِ، فإنَّه لا يُصلِّي عليه بَلْ يَترُكُه... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الحوالي-: حُذَيْفَةُ [بْنُ الْيَمَانِ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا أطلَعَه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسماءِ المُنافِقِين بِأعيانِهم، فَكانَ عُمَرُ يَنظُرُ، فَإذا رَأَى حُذَيْفَةَ يُصَلِّي على فُلانٍ [أيْ عند مَوْتِه] صَلَّى، لِأنَّه [يَكونُ حِينَئذٍ] مَعروفًا أنَّه غَيرُ مُنافِقٍ، وإنْ رَأَى حُذَيْفَةَ لم يُصَلِّ لم يُصَلِّ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ أحمدُ الحازمي في (الرَّدُّ على شُبهةِ الاستِدلالِ بِقَولِه تَعالَى "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ"): خَرَجَ اِبْنُ أُبَيٍّ [أيْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ] في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وقالَ فيها {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ}، قالَ قَولًا، هذا مُكَفِّرٌ أو لا؟، هذا مُكَفِّرٌ، لَكِنْ لم يُجْرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحُكمَ، بِاعتِبارِ الظاهِرِ لِأنَّه أنكَرَ [أيْ لِأنَّه اِعتَبَرَ ظاهِرَه الذي هو الإنكارُ. وقد رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {كُنْتُ [أيْ في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ] مَعَ عَمِّي، فَسَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ (ابْنَ سَلُولَ) يَقُولُ (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) وَقَالَ أَيْضًا (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ)، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) إِلَى قَوْلِهِ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ) إِلَى قَوْلِهِ (لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ)، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ (إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ)}. وقد قالَ الشيخُ أبو بكر القحطاني في (مُناظَرةٌ حَوْلَ العُذرِ بِالجَهلِ): النِّفاقُ، هو رَجُلٌ كافِرٌ ويُظهِرُ شَعائرَ الإسلامِ ولا يَثبُتُ كُفْرُه بِطَرِيقٍ شَرعِيٍّ. انتهى باختصار]، فَإذا نُسِبَ شَيءٌ ما إلى مُنافِقٍ فَأنكَرَ، حِينَئذٍ نَسِيرُ معه فَنَحكُمُ عليه بِما أظهَرَ... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الحازمي-: المُنافِقُ، هذا في باطِنِه كافِرٌ لَكِنَّه أظهَرَ الإسلامَ، فَنُجرِي عليه أحكامَ الإسلامِ [أيْ في الدُّنيَا]، ومِن ذلك إثباتُ الاسمِ [أيْ يُسَمَّى في الدُّنيَا بِـ (المُسلِم)] حتى يُظهِرَ الكُفرَ (حتى تَظهَرَ رِدَّتُه)، رِدَّتُه هذه على نَوعَين؛ قد يَكونُ [أيِ المُنافِقُ] في مَجلِسٍ خاصٍّ وأنت جالِسٌ معه فَعَلِمتَ به [أيْ بِكُفرِه] فَتُكَفِّرُه، لا إشكالَ فيه، فانتَقَلَ [عندك] مِن وَصفِ النِّفاقِ إلى الكُفرِ، ولا تُلزِمُ غَيْرَك بِما عَلِمتَه أنت؛ وقد يَكونُ الإعلانُ [أيْ إعلانُ كُفرِه] عامًّا، حِينَئذٍ اِنتَقَلَ على جِهةِ العُمومِ مِنَ النِّفاقِ إلى الكُفرِ [فَيَكونُ كافِرًا عند كُلِّ مَن بَلَغَه كُفْرُه]... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الحازمي-: قالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ [فِي (إعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ)] {وَأَمَّا قَوْلُهُ [يَعِني الشَّافِعِيَّ] (إنَّهُ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَمْ يَحْكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفْرِ مَعَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ)} يَعنِي أخبَرَ اللهُ تَعالَى نَبِيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأسماءِ بَعضِهم [أيْ بَعضِ المُنافِقين]، ومع ذلك أجرَى [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عليهم أحكامَ الإسلامِ، قالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ {فَجَوَابُهُ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى عِلْمِهِ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا أَجْرَاهَا عَلَى الأسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا أَدِلَّةً عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيهَا مُظْهِرُونَ لِخِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ، وَإِذَا أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ [أيْ لِحُكمِ اللهِ] الَّذِي شَرَعَهُ وَرَتَّبَهُ عَلَى تِلْكَ الأسْبَابِ كَمَا رَتَّبَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ حُكْمَهُ [أيِ الحُكمَ بِإسلامِه] وَأَطْلَعَ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُطَابِقْ قَوْلُهُمُ اِعْتِقَادَهُمْ... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الحازمي-: المُنافِقون لهم أحكامُهم، والكُفَّارُ المُظهِرون لِلْكُفرِ لهم أحكامُهم، قَولُه تَعالَى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} هذا مُختَصٌّ بِأهلِ النِّفاقِ، الذي أظهَرَ الإسلامَ وأبطَنَ الكُفرَ، وقد تَكونُ ثَمَّ قَرائنُ تَختَلِفُ بِدَلالاتِها مِن شَخصٍ إلى شَخصٍ [أيْ مِنَ المُنافِقِين]، مِن حالٍ إلى حالٍ، مَن عَلِمَ [دَلالاتِ هذه القَرائنِ على الكُفرِ] ونَزَّلَ الحُكمَ [بِكُفرِ أحَدِ المُنافِقِين] حِينَئذٍ لا يُنكِرُ على مَن لم يُنَزِّلِ الحُكمَ [لِأنَّ الأخيرَ رُبَّما لم تَظهَرْ له هذه القَرائنُ أو لم تَظهَرْ له دَلالاتُها على الكُفرِ]... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الحازمي-: قَولُه تَعالَى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، الآيَةُ نَصٌّ في المُنافِقِين [جاءَ في الموسوعةِ الحَدِيثِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف: {لَمَّا خَرَجَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِن أصْحَابِهِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ (نَقْتُلُهُمْ)، وقالَتْ فِرْقَةٌ (لا نَقْتُلُهُمْ)، فَنَزَلَتْ (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)}، في هذا الحَدِيثِ يَحكِي زَيدُ بنُ ثابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى غَزوةِ أُحُدٍ سَنةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجرةِ، بَعْدَما اِستَشارَ النَّاسَ في الخُروجِ، فأشارَ عليه الصَّحابةُ بِالخُروجِ لِمُلاقاةِ العَدُوِّ خارِجَ المَدِينةِ، وأشارَ عبدُاللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولَ -رَأْسُ المُنافِقِينَ- بِالبَقاءِ في المَدِينةِ والقِتالِ فيها، ولم يَكُنْ هذا نُصحًا، بَلْ حتَّى يَستَطِيعَ التَّهَرُّبَ أثناءَ القِتالِ، فلَمَّا أخَذَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بِرَأْيِ مَن قالوا بِالخُروجِ، تَحَيَّنَ اِبنُ سَلُولَ فُرصةً أثناءَ سَيرِ الجَيشِ، ثمَّ رَجَعَ بِمَن معه مِنَ المُنافِقِين، وكانوا حَوَالَيْ ثَلاثِ مِئَةٍ، بِما يُعادِلُ ثُلُثَ الجَيشِ تَقرِيبًا، فَلَمَّا فَعَلوا ذلك قالَتْ فِرقةٌ مِنَ الصَّحابةِ {نَقتُلُ الراجِعِينَ}، وقالَتْ فِرقةٌ أُخرَى {لا نَقتُلُهم} لِأنَّهم مُسلِمونَ حَسَبَ ظاهِرِهم، فَأَنزَلَ اللَهُ عزَّ وجَلَّ قَولَه {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} مُنكِرًا عليهم اِختِلافَهم إلى فِرقَتَين في الَّذِينَ أرْكَسَهُم اللهُ (أيْ أوقَعَهم في الخَطَأِ وأضَلَّهم ورَدَّهم إلى الكُفْرِ بَعْدَ الإيمانِ) والمعْنى {ما لَكُمُ اِختَلَفْتُم في شَأنِ قَومٍ نافَقوا نِفاقًا ظاهِرًا وتَفَرَّقْتُم فيه فِرقَتَين؟!، وما لَكُمْ لم تُثبِتوا القَولَ في كُفْرِهم؟!}. انتهى باختصار. قُلْتُ (أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِيُّ): لم يَأْمُرِ اللهُ بِقَتلِ عبدِاللهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولَ وأصحابِه، كَما أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عامَلَهم بِما أظهَروه مِنَ الإسلامِ، فَيَكونُ الإنكارُ الوارِدُ في الآيَةِ هو إنكارَ اِعتِقادِ أنَّهم مُسلِمون في باطِنِهم]، قالَ اِبْنُ السعدي [في (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)] رَحِمَه اللهُ تَعالَى {الْمُنَافِقونَ الْمَذْكُورونَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِمُ اِشْتِبَاهٌ} وَقَعَ اِشْتِبَاهٌ، هذا أخَذَ بِقَرِينةٍ، وهذا لم يَأخُذْ بِالقَرِينةِ، فاختَلَفوا في تَكفِيرِهم، فَلَم يُكَفِّرْ [أيِ الصَّحابةُ] بَعضُهم بَعضًا، بَلْ لم يُكَفِّرِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مَن لم يُكَفِّرْ هؤلاء المُنافِقِين، قالَ [أيِ الشيخُ عبدُالرحمن بنُ ناصر السعدي] {فَوَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمُ اِشْتِبَاهٌ، فَبَعْضُهُمْ تَحَرَّجَ عَنْ قِتَالِهِمْ وَقَطْعِ مُوَالَاتِهِمْ بِسَبَبِ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الإيمَانِ، وَبَعْضُهُمْ عَلِمَ أَحْوَالَهُمْ بِقَرَائِنِ أَفْعَالِهِمْ فَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَشْتَبِهُوا فِيهِمْ وَلَا تَشُكُّوا، بَلْ أَمْرُهُمْ وَاضِحٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ، إِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ}... ثم قالَ -أيِ الشَّيخُ الحازمي-: ثُمَّ اللهُ تَعالَى في هذه الآيَةِ أنكَرَ على مَن لم يُكَفِّرْ مع وُجودِ القَرائنِ، لا على مَن كَفَّرَ، {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، وإنْ لم يَكُنْ كَفَّرَ مَن لم يُكَفِّرْ، إلَّا أنَّه أنكَرَ على مَن لم يُكَفِّرْ مع وُجودِ القَرائنِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (بذل النصح): إنَّ قَتْلَ المُنافِقِ لا يَجوزُ ما دامَ مُنافِقًا، إجماعًا، لِأنَّه تَجرِي [عليه] أحكامُ المُسلِمِ في الدُّنْيا، وإذا أظهَرَ الكُفرَ فليس مُنافِقًا وإنَّما كافِرٌ فَيَجِبُ قَتْلُه كَما قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعضَ المُرتَدِّين كالْعُرَنِيِّينَ، وناكِحِ اِمرَأَةِ أبِيه، وابْنِ خَطَلٍ وأمثالِه [كَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ]، ولم يَقُلِ [أيْ ولم يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المُرتَدِّ] {لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ}، ومَحمَلُ الحَدِيثِ ليس في عُمومِ المُنافِقِين، وإنَّما في نِفاقٍ خاصٍّ (نِفاقِ الأذِيَّةِ حالَ حَيَاتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَإنَّه كانَ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَنتَقِمَ وأنْ يَعفُوَ، فَكانَ يَعفُو لِئَلَّا يَقولَ الناسُ تلك القالةَ السَّيِّئةَ المُنَفِّرةَ، والمُسقِطُ لِلْعُقوبةِ [هُنَا] عَفوُ صاحِبِ الحَقِّ الذي هو النَّبِيُّ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قُلْتُ: إسقاطُ العُقوبةِ هُنا لا يَعنِي أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشهَدُ لِمَن آذاه بِإسلامِه في الباطِنِ، بَلْ هذا المُؤْذِي مُنافِقٌ مَعلومُ النِّفاقِ قَطعًا ما دامَ ما أظهَرَه مِن كُفرٍ لا يَتَعَدَّى أذِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ حَيَاتِه مع عَفوِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حَقِّه، ولَولا عَفوُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقُتِلَ بِحَدِّ الرِّدَّة على أنَّه كافِرٌ -لا مُنافِقٌ- مع وُجُودِ الإقرارِ أو شَهادةِ شاهِدَيْ عَدلٍ]، أمَّا الحُدودُ التي هي لِلَّهِ سُبحانَه أو لِأصحابِه فَما كانَ يَقولُ فيها {لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ}، وإنَّما كانَ هذا فِيما يَتَعَلَّقُ بِالرَّسولِ الكَرِيمِ، فَتَأَمَّلْ هذا جَيِّدًا رَعاك اللهُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: ما كانَ كُفرًا حَقِيقةً بِالدَّلِيلِ فَلا يَجوزُ إلَّا بِالإكراهِ، وما كانَ أَمارةً وعَلَامةً فالأَمارةُ تَختَلِفُ دَلالَتَها مِن شَخصٍ لِآخَرَ ومِن وَقْتٍ لِآخَرَ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو عبدالرحمن الصومالي في (مُناظَرةٌ في حُكمِ مَن لا يُكَفِّرُ المُشرِكِين): إنَّ المَعدُوِدين في المُسلِمِين صِنفان، هما مُؤْمِنُون ومُنافِقُون، واللهُ عَزَّ وجَلَّ يَأْمُرُنا بِمُوالاةِ المُؤْمِنِين، ويُحذِّرُنا مِن مُوالاةِ المُنافِقِين والثِّقةِ بِهم، فَقالَ عنِ المُؤْمِنِين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، وقالَ عنِ المُنافِقِين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): المُنافِقون مُسلِمون في أحكامٍ، كُفَّارٌ في أحكامٍ، لِقِيَامِ جِهةِ إسلامٍ وجِهةِ كُفرٍ فيهم. انتهى. قُلْتُ (أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِيُّ): ومِمَّا سَبَقَ تَقدِيمُه مِن كَلامِ العُلَماءِ يَتَّضِحُ أنَّ المُنافِقَ يَختَلِفُ عنِ المُرتَدِّ مِن وُجوهٍ، منها؛ (أ)المُرتَدُّ يَثبُتُ كُفْرُه ظاهِرًا وباطِنًا -على تَفصِيلٍ سَيَأْتِي لاحِقًا- بِمُقتَضَى دَلِيلٍ مُباشِرٍ مِن أدِلَّةِ الثُّبوتِ الشَّرعِيَّةِ (اِعتِرافٍ، أو شَهَادَةِ شُّهُودٍ) على اِقتِرافِ فِعْلٍ مُكَفِّرٍ، وأَمَّا المُنافِقُ فَيَثبُتُ كُفْرُه بِاطِنًا -لا ظاهِرًا- بِمُقتَضَى قَرائنَ تُغَلِّبُ الظَّنَّ بِكُفرِه في الباطِنِ؛ (ب)المُرتَدُّ يُقتَلُ، وأَمَّا المُنافِقُ فَلا؛ (ت)لا يَجوزُ أنْ يَتَوَقَّفَ مُسلِمٌ في تَكفِيرِ مَن تَبَيَّنَ له رِدَّتُه ظاهِرًا وباطِنًا، وأَمَّا المُنافِقُ فَيَجِبُ تَكفِيرُه باطِنًا فَقَطْ؛ (ث)المُنافِقُ، يُبغِضُه المُسلِمُ بُغضًا أشَدَّ مِن بُغضِه لِلْمُرتَدِّ، فالمُنافِقُ في الآخِرةِ هو فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وضَرَرُه في الدُّنيَا على المُسلِمِين أشَدُّ ضَرَرًا مِنَ المُرتَدِّ، لِأنَّ المُنافِقَ رُبَّما يَغْتَرُّ بِه مَنْ لَا يَعْرِفُ جَلِيَّةَ أَمْرِه فَيَقْتَدِي بِه فِيمَا يَفْعَلُ وَيُصَدِّقُه فِيمَا يَقُولُ فَيَحَصُلَ بِهَذَا ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. قُلْتُ أيضًا: يَتَّضِحُ مِن كَلامِ العُلَماءِ أنَّ مُعامَلةَ المُسلِمِ لِلْمُنافِقِ تَختَلِفُ عن مُعامَلَتِه لِلْمُسلِمِ مِن وُجوهٍ، منها؛ (أ)المُنافِقُ، يَجِبُ أَخْذُ الْحَذَرِ والحَيْطَةِ مِنه، ووَضعُه تَحْتَ المِجهَرِ اِتِّقاءَ شَرِّه؛ (ب)المُنافِقُ، لا يُصاحِبُه المُسلِمُ ولا يُجالِسُه، لِأنَّ مَن صاحَبَ المُنافِقَ أو جالَسَه فَسَتَكونُ هذه الصُحبةُ أو تلك المُجالَسةُ قَرِينةٌ على أنَّه مُنافِقٌ مِثلُه؛ (ت)المُنافِقُ، لا يُسبَغُ عليه ألفاظُ تَكرِيمٍ، فَمَثَلًا لَا يُقالُ له {سَيِّدٌ}؛ (ث)المُنافِقُ، لا يُؤْتَمَنُ على مَصالِحِ الأُمَّةِ، ولا تُسْنَدُ إليه جِبايَةُ الأموالِ ولا إمارةُ الحَربِ ولا القَضاءُ بَيْنَ الناسِ ولا الإمامةُ في الصَّلاةِ؛ (ج)المُنافِقُ، لا يُؤذَنُ له بِالخُروجِ مع المُسلِمِين لِلْجِهادِ؛ (ح)المُنافِقُ إذا ماتَ، فَكُلُّ مَن عَلِمَ نِفاقَه لا يُصَلِّي عليه ولا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ. قُلْتُ أيضًا: يَتَّضِحُ مِن كَلامِ العُلَماءِ أنَّ المُنافِقَ أحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ؛ الأوَّلُ، مَن ظَهَرَتْ منه قَرائنُ تُغَلِّبُ الظَّنَّ بِكُفرِه في الباطِن؛ والثانِي، مَن عُلِمَ كُفْرُه بِالوحيِ (بِدونِ اِعتِرافٍ أو شَهَادَةِ شَاهِدَيْ عَدْلٍ)، وهذا الصِّنفُ مَعرِفَتُه مَقصورةٌ عَلَى زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بَعْدَهُ؛ والثالِثُ، مَن لم يَتَعَدَّى ما أظهَرَه مِن كُفرٍ سِوَى أذِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ حَيَاتِه مع عَفوِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حَقِّه)، وهذا الصِّنفُ وُجُودُه مَقصورٌ عَلَى زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ أيضًا: يَتَّضِحُ مِن كَلامِ العُلَماءِ أنَّ المُنافِقَ قد يَظهَرُ منه الكُفرَ الصَّرِيح لِشَخصٍ ما، كَزَوجٍ يَسُبُّ اللهَ أمامَ زَوجَتِه فَقَطْ ولا يَفعَلُ ذلك أمامَ سائرِ الناسِ، ولَكِنْ يَظهَرُ منه لِلناسِ قَرائنُ تُغَلِّبُ الظَّنَّ بِكُفرِه في الباطِنِ، فَحِينَئذٍ يَكونُ هذا الزَّوجُ مُرتَدًّا عند الزَّوجةِ مُنافِقًا عند سائرِ الناسِ، فَتُعامِلُه الزَّوجةُ مُعامَلةَ المُرتَدِّ ويُعامِلُه الناسُ مُعامَلةَ المُنافِقِ، ولا يُمكِنُ لِلْقاضِي أنْ يَحكُمَ بِرِدَّتِه إلَّا إذا اِعتَرَفَ أو شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ بِاقتِرافِه الفِعْلٍ المُكَفِّرٍ. قُلْتُ أيضًا: لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ {فُلانٌ يُجاهِرُ بِتَركِ الصَّلاةِ، فَهو مُنافِقٌ}، بَلِ الصَّحِيحُ أنْ يُقالَ {فُلانٌ يُجاهِرُ بِتَركِ الصَّلاةِ، فَهو كافِرٌ}، لِأنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ ليس قَرِينةً على الكُفرِ بَلْ هو بِإجماعِ الصَّحابةِ والتابِعِين كُفْرٌ في ذاتِه (كَما سَيَأْتِي لاحِقًا)، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ المُنافِقَ -بَعْدَ اِنقِطاعِ الوَحيِ- ليس هو مَن يَقْتَرِفُ الفِعلَ المُكَفِّرَ وإنَّما هو مَن ظَهَرَتْ منه قَرائنُ تُغَلِّبُ الظَّنَّ بِكُفرِه في الباطِنِ]، فبابُ التأويل مفتوح على مصراعيه، وساحة الأعذار الواهية والتأويلات الباطلة، تَسَعُ أطغى طغاة الأرض!!!؛ فَجَرَّأُوا الناسَ على تَرْكِ العَمَلِ، وعَيَّشُوهم على الرَّجاءِ المَحْضِ وعلى أَمَلِ وأَمَانِ الذَّرَّةِ الواحدةِ مِنَ الإيمانِ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}... وقال -أي الشيخُ الطرطوسي- في موضع آخر من كتابه: تَأَمَّلْ، هل تجد حالة تفريق بين زوجين بسبب ارتداد أحدهما عن الدين، علمًا أن مُجتَمَعاتِنا تَغَصُّ بالمُرتَدِّين والزَّنادِقةِ المُلْحِدِين؛ والمرأة التي تطلب التفريق بسبب حصول الردة لزوجها تُرمى -في كثيرٍ من مجتمعاتنا- بالجنون، وتُعاقب بالسجن وغير ذلك، وهذا كله بفعل مذهب أهل التجهم والإرجاء الذي لاقى رواجًا وقبولًا كبيرين عند طواغيت الحكم!؛ خطر المرجئة -وبخاصة في هذا الزمان- ليس محصورًا على بُعد الخلاف النظري الكلامي في المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، ولو كان الأمر كذلك لهان الخطب، ولما عنيناهم بالرد، وإنما هو يمتد ويمتد إلى أن يُلامس واقع الناس وحياتهم وطريقة تعاملهم مع ربهم عز وجل ومع أنفسهم ومع غيرهم من الناس!؛ بسبب أهل التجهم والإرجاء ومذهبهم الخبيث ترى كثيرًا من شباب الأمة يستحسنون العمل كجنود وجواسيس عند طواغيت الحكم الظالمين، ولا يتورعون من التجسس على المؤمنين الموحدين لصالح الطواغيت الآثمين بحجة أن الآخرين ولاة أمر شرعيين تجب طاعتهم وموالاتهم ونصرتهم على كل من يُخالفهم كما أفهمهم ذلك مشايخُ الإرجاء، عليهم من الله ما يستحقون. انتهى.

 

(9)وقال الشيخ حامد العلي (الأمين العام للحركة السلفية في الكويت) في مقالة له بعنوان (خطورة الإرجاء وسبب عداء المرجئة للجهاد) على هذا الرابط: المرجئةُ هي الفرقة التي تجعل الإيمان الذي فرضه الله تعالى على عباده وأرسله به رسله، هو تصديق القلب فحسب، أو هو [التصديق] مع النطق بالشهادتين، أو [هو] معهما [أي مع التصديق والنطق] عَمَلُ القلبِ على خلاف بينهم، وقد أخرجت المرجئة العمل من اسم (الإيمان) وجعلته أمرا زائدا على حقيقته، ليس جُزْءًا منها، خارجا عن ماهيته، وبنوا على هذا التصور الخاطئ عقيدتين ضالتين؛ إحداهما أن من تولى عن الانقياد بجوارحه لما جاءت به الرسل، فلم يعمل شَيْئًا قَطُّ مع العلم والتمكن، أن ذلك لا ينفي عنه اسم الإيمان، ولا يخرجه من دائرة الإسلام؛ الثانية أن الإيمان لا ينقضه فعل فاعل، مهما كان فعله موغلا في الكفر أو الإشراك، ما لم يقترن بفعله جحود أو استحلال، ذلك أن الإيمان هو التصديق، فلا ينقضه إلا التكذيب في زعمهم؛ مع أن بعض الذين يتبنون هاتين العقيدتين الضالتين، لا يقولون إن الإيمان هو التصديق فحسب [أي فَقَطْ]، ومع ذلك يتناقضون هذا التناقض القبيح، إذ الإيمان إن كان قولا وعملا، فلا بد أن يكون نقضه بالقول والعمل أيضا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ حامِدٌ العلي-: وتكمن خطورة هاتين العقيدتين في أنهما تجردان الإيمان الذي نزل به القرآن، من خاصيته الحيوية التي تربط بين الباطن والظاهر، والقلب والجوارح، والتي تُحَوِّلُ الإنسان إلى طاقة إيمانية هي ينبوع العمل الصالح -كما قال تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}- وليست كلمات باهتة مجردة؛ فهذان الاعتقادان يجعلان الإيمان كالتصورات النظرية الجامدة، أو كالعقائد الميتة التي لا حراك فيها، فهما في حقيقتهما إنما يهيئان الطريق لانحراف البشرية عن اتِّباع الرسل، ويفسحان السبيل لتعطيل ترجمة تعاليم الدين إلى واقع حياتي، كما أنهما يحرضان على الردة بالقول والعمل، ويجعلان التهجم على الدين سهل المنال، ذلك أنه يكون في مأمن من الحكم بالردة، تحت ذريعة عدم توفر شرط الجحود والاستحلال... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ حامِدٌ العلي- تحت عنوان (العلمانيون اللادينيون يفرحون بهذه العقيدة المنحرفة): وإن مما يثير الأَسَى أن هذا بعينه ما يُروِّجه زنادقةُ العصر العلمانيون اللادينيون، فغاية أمانيهم أن يختزل كل دين الإسلام إلى أمر يعتقده الإنسانُ -إن بدا له ذلك- بجَنَانِه [أي بقلبِه] وليس لأحد أن يسأله فيما وراء ذلك عن أي التزام من قول أو عمل، فالإيمان -إن كان لا بد منه- عند اللادينين لا ينبغي أن يعدو كونه تصديقا محضا، لا ينبني عليه أي موقف عملي، إلا أن يكون كمالا لا يؤثر زواله أجمع في حقيقة الإيمان... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ حامِدٌ العلي- تحت عنوان (من أسباب انتشار الإرجاء، والاستهانة بمنزلة العمل من الدين، وتهوين الوقوع في الردة): ولعل من أسباب انتشار ظاهرة الإرجاء في هذا الزمن، الذي تمر به الأمة (وهي تعاني تراجعا في التمسك بدينها، وهجمة من أعدائها)، أنها [أي ظاهرةَ الإرجاءِ] وافَقَتِ اِستِرواحَ النُّفوسِ إلى طَلَبِ الدَّعَةِ، والراحةِ مِن عَناءِ مُواجَهةِ الباطِلِ وأهلِه؛ ومن أسبابها [أي أسباب ظاهرةَ الإرجاءِ] أيضا الاسترسال والانقياد بغير شعور لضغط الواقع، مع الدعوة العالمية إلى حرية المعتقد، وترك الناس وشأنهم ما يفعلون، حتى لو كانت أفعالُهم نواقضَ تَهُدُّ كيانَ الإيمانِ هَدًّا؛ ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعارضة الباطل لا سيما إذا كان كفرا، يستدعي [أي يَتَطَلَّبُ] جهدا وجهادا يشق على النفوس، وقديما قيل {إن البدعةَ إذا وافَقَتْ هَوًى، فَمَا أَثْبَتَهَا في القُلُوبِ}... ثم قالَ -أَيِ الشَّيخُ حامِدٌ العلي-: الإرجاءُ -كَما قالَ المَأْمُونُ- دِينُ المُلوكِ، ولِهذا ما بَعُدَ عنِ الحَقِيقةِ مَن قالَ {إنَّ الإرجاءَ أصْلًا نَشَأَ نَشْأةً سِياسِيَّةً}، ولهذا كان المُرجِئةُ دَومًا أداةً طَيِّعةً بِيَدِ المُلوكِ والحُكَّامِ والسَّاسةِ، لِأنَّ محصلة عقيدتهم الضالة أنهم يقولون {دَعُوا مَن تَوَلَّى عليكم يقولُ ويفعلُ ما شاءَ، لِأنَّه مُؤْمِنٌ بِمُجَرَّدِ اِنتِسابِه إلى الإسلامِ، يَكفِيه ذلك، واللهُ يَحكُمُ فيه يومَ القيامةِ، ليس ذلك إليكم، فَدَعُوه يُوالِي الكُفَّارَ، ويُحارِبُ الإسلامَ، ويَفتَحُ بابَ كُلِّ شَرٍّ على الأُمَّةِ، فَإنَّما هي الذُّنوبُ، التي لا يَسلَمُ منها أحَدٌ، كُلُّ اِبنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، بَلْ هو خَيرٌ مِمَّن يُنكِرُ عليه، لِأنَّهم [أيِ الذِين يُنكِرُون عليه] خَوارِجُ، والعُصاةُ أهوَنُ شَرًّا مِنَ الخَوارِجِ}! [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الإعانة لطالب الإفادة): قالَتْ طائفةٌ مِن جُهَّالِ الرُّواةِ {إنَّ السُّلطانَ لا يُنكَرُ عليه المُحَرَّماتُ مِن الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالحَقِّ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ، وَبِالْيَدِ مِن غَيْرِ سِلَاحٍ، فَصَوَّرَ لَنا الإمامُ الْجَصَّاصُ [(ت370هـ)] أثَرَ هذه المَقالةِ الهَدَّامةِ على الأُمَّةِ الإسلامِيَّةِ وقالَ [في (أحكامُ القُرآنِ)] {لَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ وَفُقَهَائِهَا، سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ، وُجُوبَ ذَلِكَ، إِلَّا قَوْمٌ مِنَ الْحَشْوِ [يَعنِي الْحَشْوِيَّةَ، وقد قالَ الشيخ أحمد قوشتي (أستاذ العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى) في (الاتِّجاهاتُ الحَشْوِيَّةُ في الفِكْرِ الإسلامِيِّ): ظَهَرَ الحَشْوُ لَدَى جَماعةٍ مِنَ المُنتَسِبِينَ إلى عِلْمِ الحَدِيثِ أو التَّفسِيرِ، مِمَّن اِقتَصروا على جانِبِ الرِّوايَةِ دُونَ أنْ يَكونَ لَدَيْهِمْ مَلَكةُ النَّقدِ والتَّميِيزِ، وقد أَوقَعَهم هذا الأمرُ في ذِكْرِ ما لا يَصِحُّ بِحالٍ واعتِناقِ بَعضِ الآراءِ الشَّاذَّةِ. انتهى] وَجُهَّالِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَ[أَنْكَرُوا] الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالسِّلَاحِ، وَسَمَّوُا الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِتْنَةً إِذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إِلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، وَ[إِذَا اُحْتِيجَ فِيهِ إِلَى] قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، مَعَ مَا قَدْ سَمِعُوا فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ بِالْقَوْلِ، أَوْ بِالْيَدِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، فَصَارُوا شَرًّا عَلَى الأُمَّةِ مِنْ أَعْدَائِهَا الْمُخَالِفِينَ لَهَا، لِأنَّهُمْ أَقْعَدُوا النَّاسَ عَنْ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ، وَعَنِ الإنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ، حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَغَلُّبِ الْفُجَّارِ، بَلِ الْمَجُوسِ وَأَعْدَاءِ الإسْلَامِ، حَتَّى ذَهَبَتِ الثُّغُورُ، وَشَاعَ الظُّلْمُ، وَخَرِبَتِ الْبِلَادُ، وَذَهَبَ الدِّينُ وَالدُّنْيَا، وَظَهَرَتِ الزَّنْدَقَةُ وَالْغُلُوُّ وَمَذَاهِبُ الثَّنَوِيَّةِ وَالْخُرَّمِيَّةِ وَالْمَزْدَكِيَّةِ، وَالَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ[تَرْكُ] الإنْكَارِ عَلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ}؛ ويَقولُ [أيِ الْجَصَّاصُ] أيضا رَحِمَه اللهُ [في (أحكامُ القُرآنِ)] {وَلَعَمْرِي إِنَّهَا أَدَّتْ إِلَى غَلَبَةِ الْفُسَّاقِ عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بُلْدَانِهِمْ حَتَّى تَحَكَّمُوا، فَحَكَمُوا فِيهَا بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ، وَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ ذَهَابَ الثُّغُورِ وَغَلَبَةَ الْعَدُوِّ حِينَ رَكَنَ النَّاسُ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ}. انتهى باختصار]. انتهى باختصار.

 

(10)وقالَ الشيخُ سعودُ بن عبدالعزيز الخلف (رئيس قسم العقيدة في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في (أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة): وأهلُ البِدَعِ يتميزون بالأخذِ ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فقد أخذ المرجئة بأحاديث الوعد وتركوا أحاديث الوعيد، والخوارج أخذوا بأحاديث الوعيد وتركوا أحاديث الوعد، ومنهج أهل السنة وما يميزهم أنهم يأخذون بجميع النصوص ما أمكن الجمع بينها، فلهذا صار مذهبهم بناءً على هذه النصوص جميعها. انتهى باختصار. وقال الشيخ عبدالكريم الخضير (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في (إرشاد الأخيار إلى شرح جوامع الأخبار): أحيانا يَكونُ [أيِ الدَّاعِيَةُ] في أوساط متشددة مُفرطة، فيحسن بالداعي حينئذ أنه يلقي عليهم النصوص الواضحة في الوعد والترغيب، لأن فيهم من التشديد والشبه من الخوارج ما لا يداويه إلا ذاك، وإذا كان في مجتمع متفلت ضائع أو مجتمع يغلب عليه الإرجاء، فيعالجهم بنصوص الوعيد والترهيب، ولذا جاءت النصوص الشرعية بهذا وهذا، لأن النفوس ليست على هيئة واحدة، فإذا اشتط للشدة يعالج بنصوص الرفق، وإن اشتط للتساهل يعالج بنصوص الشدة والحزم، فيعالج كل مجتمع بما يناسبه. انتهى. وقال الشيخ عبدالكريم الخضير أيضا في (البسط المستدير في شرح البيقونية): أهل السنة وفقهم الله جل وعلا للنظر في النصوص بالعينين كلتيهما... ثم قال -أي الشيخ الخضير-: الخارجيُّ ينظر بِعَيْنٍ، المرجئُ ينظر بِعَيْنٍ، أهلُ السُّنة ينظرون للنصوص بالعينَين، فيعملون بنصوص الوعد، ويعملون بنصوص الوعيد، وبالجمع بينهما يكون المسلك الوسط. انتهى. وقالَ أبو حامد الغزالي (ت505هـ) في (إحياء علوم الدين): وَمَهْمَا كَانَ كَلَامُهُ [أيْ كَلامُ الْوَاعِظِ] مَائِلًا إِلَى الإرْجَاءِ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَكَانَ النَّاسُ يَزْدَادُونَ بِكَلَامِهِ جَرَاءَةً وَبِعَفْوِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وُثُوقًا يَزِيدُ بِسَبَبِهِ رَجَاؤُهُمْ عَلَى خَوْفِهِمْ، فَهُوَ [أيْ كَلامُ الْوَاعِظِ] مُنْكَرٌ وَيَجِبُ مَنْعُهُ [أيْ مَنْعُ الْوَاعِظِ] عَنْهُ، لِأنَّ فَسَادَ ذَلِكَ عَظِيمٌ، بَلْ لَوْ رَجَحَ خَوْفُهُمْ [أيْ خَوفُ الناسِ] عَلَى رَجَائِهِمْ فَذَلِكَ أَلْيَقُ وَأَقْرَبُ بِطِبَاعِ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُمْ إِلَى الْخَوْفِ أَحْوَجُ؛ وَإِنَّمَا الْعَدْلُ تَعْدِيلُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. انتهى.

 

(11)وقالَ الشيخُ فيصلٌ الجاسمُ (الإمامُ بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت) في هذا الرابط على موقعِه: أُمورُ الدِّينِ تَنقَسِمُ إلى مَسائلَ ظاهِرةٍ ومَسائلَ خَفِيَّةٍ، أُمورُ الدِّينِ ليستْ على حَدٍّ سَوَاءٍ، فمِنها أُمورٌ ظاهرةٌ معلومةٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورةً [المعلومُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ هو ما كانَ ظاهِرًا مُتَواتِرًا مِن أحكامِ الدِّينِ، مَعلومًا عند الخاصِّ والعامِّ، مِمَّا أَجْمَعَ عليه العلماءُ إجماعًا قَطعِيًّا، مِثْلَ وُجوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وتَحرِيمِ الرِّبا والخَمْرِ]، كمسائلِ التوحيدِ، ومنها مَسائلُ قد تَخفَى على بعضِ الناسِ [مِثْلَ خَلْقِ القرآنِ، والقَدَرِ، وسِحْرِ العَطْفِ وهو التَّأْلِيفُ بالسِّحْرِ بين المُتَباغِضَين بحيث أنَّ أَحَدَهما يَتَعَلَّقُ بالآخَرِ تَعَلُّقًا كُلِّيًّا بحيث أنَّه لا يَستطِيعُ أنْ يُفارِقَه]، فالجهلُ في الأُمورِ الظاهرةِ يَختلِفُ عنِ الجهلِ في الأُمورِ الخَفِيَّةِ؛ ومِنْ أَعظَمِ المسائلِ الظاهرةِ المعلومةِ مِنَ الدِّينِ ضرورةً توحيدُ اللهِ تَعالَى وإفرادُه بالعبادةِ، فإنَّ العَبدَ مَفطُورٌ على مَعرِفةِ اللهِ تَعالَى والإقرارِ برُبوبِيَّتِه وأُلوهِيَّتِه، واللهُ تَعالَى قد أَوضَحَه في كتابِه، وبَيَّنَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا شافِيًا قاطِعًا للعُذرِ، إذِ هو زُبْدَةُ الرسالةِ وأَساسُ المِلَّةِ ورُكْنُ الدِّينِ الأَعظَمُ، قالَ تعالَى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، وقالَ تعالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا، أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}؛ قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ [في كتابِه (درء تعارض العقل والنقل)] في بَيَانِ دَلَالةِ الفِطرةِ على توحيدِ اللهِ تعالَى وإبطالِ الشِّركِ {جميعُ بَنِي آدَمَ مُقِرُّون بهذا، شاهِدون به على أَنْفُسِهم، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لهم لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ مِمَّا خُلِقوا عَلَيْهِ وجُبِلُوا عَلَيْهِ وجُعِلَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا جَحْدُهُ؛ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ [أَيْ ثم قالَ تعالَى بعدَ قولِه {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}] (أَن تَقُولُوا) أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَلِئَلَّا تَقُولُوا (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [أَيْ] عَنِ الإِقْرَارِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَعَلَى نُفُوسِنَا بِالْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ [مَا] كَانُوا غَافِلِينَ عَنْ هَذَا، بَلْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ اللَّازِمَةِ لَهُمُ الَّتِي لَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَشَرٌ قَطُّ، بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ ضَرُورِيَّةً وَلَكِنْ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ عُلُومِ الْعَدَدِ وَالْحِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا إِذَا تَصَوَّرَتْ كَانَتْ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ غَافِلٌ عَنْهَا، وَأَمَّا الاِعْتِرَافُ بِالْخَالِقِ فَإِنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ لَازِمٌ لِلإِنْسَانِ، لَا يَغْفُلُ عَنْهُ أَحَدٌ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَسِيَهُ، وَلِهَذَا يُسَمَّى التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ تَذْكِيرًا، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِعُلُومٍ فِطْرِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ قَدْ يَنْسَاهَا الْعَبْدُ}... إلى أنْ قالَ [أَيِ ابنُ تيميةَ] {(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)، فَذَكَرَ [سُبْحَانَهُ] لَهُمْ حُجَّتَيْنِ يَدْفَعُهُمَا هَذَا الإِشْهَادُ [المُرادُ بالإشهادِ هنا قولُه تعالَى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}]، إِحْدَاهُمَا (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ لِكُلِّ بَشَرٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حُجَّةَ اللَّهِ فِي إِبْطَالِ التَّعْطِيلِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى نَفْيِ التَّعْطِيلِ، وَالثَّانِي (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ)، فهذا حُجَّةٌ لِدَفْعِ الشِّركِ كما أنَّ الأَوَّلَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ التعطيلِ، فالتعطيلُ مِثْلُ كُفْرِ فِرْعَوْنَ [حيثُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ والأُلُوهِيَّةَ] ونحوِه [كالنُّمْرُودِ الذي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ]، والشِّركُ مِثْلُ شِركِ المُشرِكِين مِن جميعِ الأُمَمِ؛ وقولُه (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [أَيْ] وَهُمْ آبَاؤُنَا الْمُشْرِكُونَ، أَفَتُعَاقِبُنَا بِذُنُوبِ غَيْرِنَا؟، وذلك لأنَّه [لَوْ] قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَارِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ، وَوَجَدُوا آبَاءَهُمْ مُشْرِكِينَ وَهُمْ ذُرِّيَّةٌ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ الْعَادِيَّةِ أَنْ يَحْتَذِيَ الرَّجُلُ حَذْوَ أَبِيهِ حَتَّى فِي الصِّنَاعَاتِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ، إِذْ كَانَ هُوَ الَّذِي رَبَّاهُ، وَلِهَذَا كَانَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ويُشَرِّكَانِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مُقْتَضَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ [لَكانُوا] قَالُوا (نَحْنُ مَعْذُورُونَ، وَآبَاؤُنَا هُمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَنَحْنُ كُنَّا ذُرِّيَّةً لَهُمْ بَعْدَهُمُ اِتَّبَعْناهم بِمُوجِبِ الطَّبِيعةِ المُعْتادةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يُبَيِّنُ خَطَأَهُمْ)، فَإِذَا كَانَ فِي فِطَرِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ رَبُّهُمْ، كَانَ مَعَهُمْ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الشِّرْكِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا احْتَجُّوا بِالْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ الآبَاءِ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمُ الْفِطْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ العَقْلِيَّةَ السَّابِقَةَ لِهَذِهِ الْعَادَةِ الأَبَوِيَّةِ، كما قالَ صلى الله عليه سلم (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ)، فَكَانَتِ الْفِطْرَةُ الْمُوجِبَةُ لِلإِسْلَامِ سَابِقَةً لِلتَّرْبِيَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ نَفْسَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُونَ التَّوْحِيدَ حُجَّةٌ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولٍ، فَإِنَّهُ جُعِلَ مَا تَقَدَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِدُونِ هَذَا، وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ تَعَالَى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فَإِنَّ الرَّسُولَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَكِنْ إِنْ لم يكُنْ في الْفِطْرَةِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ بِهِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الرِّسَالَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ [يُشِيرُ إلى قولِه تعالَى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}] الَّتِي تَتَضَمَّنُ إِقْرَارَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَمَعْرِفَتَهُمْ بِذَلِكَ، هذه المَعرِفةُ والشَّهَادَةُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ، بِهِ تَقُومُ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصْدِيقِ رُسُلِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا غَافِلًا) وَلَا (أَنَّ الذَّنْبَ كَانَ لِأبِي الْمُشْرِكِ دُونِي)، لِأنَّهُ عَارِفٌ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي التَّعْطِيلِ وَلَا الإِشْرَاكِ، بَلْ قَامَ بِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ -لِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ- لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ رَسُولِ إِلَيْهِم وَإِنْ كَانوا فَاعِلين لِمَا يَسْتَحِقُّون بِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسم-: فالجَهْلُ بأُمورِ التوحيدِ ليس كالجهلِ بغيرِها مِنَ المسائلِ، لأنَّ الفِطرةَ شاهِدةٌ بذلك دالَّةٌ عليه، وفي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ {خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: وقالَ الشيخُ صالح آل الشيخ [وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد] {مَن قامَ به الشِّركُ فهو مُشرِكٌ، لأنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ، واللهُ جَلَّ وعَلا أقامَ الدلائلَ على وَحْدَانِيَّتِه، في الأَنْفُسِ وفي الآفاقِ [قالَ تعالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}]، وهذه الدلائلُ حُجَّةٌ على المَرْءِ في أنَّه لا يُعذَرُ في أحكامِ الدُّنيا بارتكابِ الكُفرِ والشِّركِ، نَعنِي بأحكامِ الدُّنيا ما يَتَعَلَّقُ بالمُكَلَّفِ مِن حيثُ عَلاقَتُه بهذا الذي قامَ به هذا الشيءُ [أَيِ الكفرُ أو الشِّركُ]، مِن جِهَةِ الاستغفارِ له والأُضْحِيَّةِ عَنْهُ ونحوِ ذلك، أَمَّا الأشياءُ التي مَرْجِعُها إلى الإمامِ مِثْلُ استحلالِ الدَّمِ والمالِ والقِتالِ ونحوِ ذلك، فهذه إنَّما تكونُ بعدَ قِيَامِ الحُجَّةِ، فهناك شيءٌ مُتَعَلِّقٌ بالمُكَلَّفِ وهناك شيءٌ مُتَعَلِّقٌ بالإمامِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: لَمَّا كانتْ مسائلُ التوحيدِ الظاهرةُ كوُجوبِ إفرادِ اللهِ تعالَى بالعِبادةِ وبالدُّعاءِ والنَّذْرِ والذَّبحِ ونحوِ ذلك، مَسائلَ فِطْرِيَّةً، قد جَعَلَ اللهُ تَباركَ وتعالَى في فِطرةِ الإنسانِ ما يَدُلُّ عليها ويُرشِدُ إليها، فإنَّه لا يُحتاجُ في إقامةِ الحُجَّةِ على تاركِها إلى أكثرِ مِنَ التذكيرِ بها إذا طَرَأَ عليها مِنَ النَّشأةِ والأُلْفةِ [أَيِ الاعْتِيادِ] ما يَسْتُرُها ويُخْفِيها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: فمِن رَحمةِ اللهِ تعالَى بِعِبادِه أنَّه لا يُعذِّبُهم بهذه الفِطرةِ التي فَطَرَ الناسَ عليها حتى يَبعَثَ إليهم مَن يُذَكِّرُهم بها فتَتِمُّ الحُجَّةُ بهم عليهم، قالَ تعالَى {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وعلى هذا فمَن قامَتْ عليه الحُجَّةُ بالبَيَانِ والقرآنِ وذُكِّرَ بالتَّوحيدِ الذي فُطِرَ عليه الإنسانُ فقد انقَطَعَ في حَقِّه العُذرُ، فلا يُقبَلُ منه بعدَ ذلك الاعتذارُ بعَدَمِ الْفَهْمِ أو عَدَمِ التَّبَيُّنِ، والمُرادُ بالْفَهْمِ غيرِ المُشْتَرَطِ هنا الْفَهْمُ بأنَّ الحُجَّةَ قاطعةً لِشُبْهَتِه وأنَّها حَقٌّ في نَفْسِها، أمَّا الْفَهْمُ بمَعْنَى مَعرِفةِ مُرادِ المُتَكَلِّمِ ومفهومِ ومَقصودِ الخِطَابِ فهذا لا خِلَافَ في اشتراطِه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: الذي يُعذَرُ في مسائلِ التوحيدِ هو مَن كان حديثَ عَهْدٍ بإسلامٍ، أو نَشَأَ ببادِيَةٍ بعيدةٍ، أَمَّا مَن كان يَعِيشُ بين المُسلمِين ويَسمَعُ القرآنَ والسُّنَّةَ ويَسمَعُ بالحَقِّ، أو يَتَمَكَّنُ مِنَ العِلمِ، فلا يُعذَرُ بالجهلِ في مسائلِ التوحيدِ، وإنْ كان قد يُعذَرُ في غيرِها مِنَ المسائلِ التي قد يَخْفَى دَلِيلُها [وهي المسائلُ الخَفِيَّةُ لا المعلومةُ مِنَ الدِّينِ بالضَّرُورةِ]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: لَمَّا كانَتِ الفِطرةُ دالَّةً على التوحيدِ مُنَبِّهةً عليه، فإنَّ بُلوغَ العِلْمِ والتذكيرَ بهذه الفِطرةِ كافٍ في إقامةِ الحُجَّةِ، لظُهورِ الأَدِلَّةِ والبَراهِينِ وتَوافُرِ العلومِ الضَّرُوريَّةِ الفِطرِيَّةِ، ولذلك لا يُعذَرُ أَحَدٌ في الوقوعِ في الشِّركِ إذا كان مِمَّن يَسمَعُ القرآنَ والحديثَ، ويَسمَعَ بمَن يَدعو إلى التوحيدِ ويُحَذِّرُ مِنَ الشِّركِ، وهذا لا يَكادُ يَخْلُو منه بلدٌ مِن بلادِ الإسلامِ إلَّا ما نَدَرَ، وإنَّما الذي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفقِدَ العِلمَ بالقرآنِ ويَفقِدَ الداعِيَ إلى التوحيدِ هو مَن كان حديثَ عَهْدٍ بالإسلامِ، أو مَن كان يعيشُ في بلادٍ لا يَبْلُغُها العلمُ ولا يُوجدُ فيها دُعاةُ التوحيدِ، واليومَ بحَمدِ اللهِ قد انتشرَ العلمُ وتَهَيَّأَتْ أسبابُه في ظِلِّ التَّطَوُّرِ الكبيرِ في وسائلِ الإعلامِ، وقد حَصَلَ البَلَاغُ بدُعاةِ التوحيدِ في الإذاعةِ والتِّلفازِ والفضائِيَّاتِ والإنترنت وغيرِها مِن وسائلِ الإعلامِ، وحَصَلَ أيضًا باختلاطِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ، بحيث تَيَسَّرَ اللِّقاءُ بدُعاةِ التوحيدِ وتَهَيَّأَتِ الظُّروفُ الكثيرةُ للسَّماعِ بِدَاعِي التوحيدِ، ولا يَكادُ يُوجدُ أَحَدٌ مِن أهلِ الشِّركِ وعِبادةِ الأَولِياءِ إلَّا وقد سَمِعَ بدعوةِ أهلِ التوحيدِ، أو بدعوةِ مَن يُسَمُّونهم بالوهَّابِيَّةِ ونحوِ ذلك، فالتَّنبِيهُ قد حَصَلَ وانتشرَ؛ وإنَّما يُتَصَوَّرُ عَدَمُ ذلك [أَيْ عَدَمُ سَمَاعِ القرآنِ والحديثِ، وعَدَمُ السَّمَاعِ بمَن يَدعو إلى التوحيدِ ويُحَذِّرُ مِنَ الشِّركِ] فيمَن نَشَأَ بمكانٍ بعيدٍ عن بلادِ الإسلامِ كغَيَاهِبِ إفْرِيقِيَا وأطرافِ الدُّنيا، أو مَن كان يعيشُ ببلادِ الكفارِ بحيث لا يَسْمَعُ بالحَقِّ ولا يَتَمَكَّنُ منه، أو مَن كان حديثَ عَهْدٍ بإسلام... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسمُ-: مِنَ الأخطاءِ الشائعةِ حَمْلُ كلامِ أهلِ العِلْمِ في ضوابطِ تكفيرِ أَهْلِ الأهواءِ والبِدَعِ على تكفيرِ أَهْلِ الشِّركِ، مِنَ الأُمورِ المُهِمَّةِ التي لا بُدَّ مِن بَيَانِها والتي حَصَلَ فيها لَبْسٌ عند بعضِ مَن تَكَلَّمَ في هذه المسائلِ، عَدَمُ التَّفرِيقِ بين (مسائلِ التوحيدِ الفِطرِيَّةِ والكلامِ في أَهْلِ الشِّركِ) وبين (المسائلِ المُتَعَلِّقةِ بالصِّفاتِ [يعني صِفاتِ اللهِ تعالَى] وبأَهْلِ البِدَعِ والأَهْواءِ)، فحَمَلَ بعضُ مَن لم يَعْرِفْ مَوَاقِعَ الكلامِ كلامَ أهلِ العلمِ في عُذرِ أَهْلِ البِدَعِ والأهواءِ في بعضِ المسائلِ الخَفِيَّةِ، على أَهْلِ الشِّركِ وعِبادةِ الأَولِياءِ، فَسَوَّى بين ما دَلَّتْ عليه الفِطرةُ وبين ما قد تَخْفَى بعضُ أَدِلَّتِه لِمَا فيه مِنَ الاشتباهِ، ومَن لم يُفَرِّقْ في العُذرِ بالجهلِ بين مسائلِ التوحيدِ التي فَطَرَ اللهُ عليها الخَلْقَ وبين المسائلِ التي قد تَخْفَى وتَشْتَبِهُ، فقد أَلْغَى حُكْمَ الفِطرةِ! فصارَ وُجُودُ الفِطرةِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً! وهذا لازِمٌ لهم [أَيْ أنَّ مَن لم يُفَرِّقِ التَّفرِيقَ المذكورَ قد أَثْبَتَ على نَفْسِه أنَّه أَلْغَى حُكْمَ الفِطرةِ] لا مَنَاصَ منه، وقد نَقَلَ بعضُهم نُصوصًا لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ في (الخَطَأِ في مسائلِ الصِّفاتِ) وأرادَ تَعمِيمَها على مسائلِ التوحيدِ والشِّركِ، ومِمَّن وَقَعَ في ذلك قديمًا أَئمَّةُ الضلالِ كَدَاوُودَ بنِ جرجيس [أَشْهَرِ المُناوِئِين لدعوةِ الشيخِ محمد بنِ عبدالوهاب] وعثمانَ بنِ منصور [هو عثمانُ بنُ منصور الناصري (ت1282هـ) الذي أَلَّفَ كِتابًا أَسْمَاهُ (جِلاء الغمَّةِ عن تكفيرِ هذه الأُمَّة) يُعارِضُ به ما قَرَّرَه الشيخُ محمد بنُ عبدالوهاب مِن أُصولِ المِلَّةِ والدِّينِ، ويُجادِلُ بمَنْعِ تضليلِ عُبَّادِ الأولياءِ والصالحِين، ويُناضِلُ عن غُلَاةِ الرافضةِ والمُشرِكِين، الذِين أَنْزَلوا العِبَادَ بمَنْزِلةِ رَبِّ العالَمِين] وغيرِهم، وقد تَصَدَّى للرَّدِّ عليهم أَئمَّةُ الدَّعوةِ كالشيخِ عبدِالرحمن بنِ حسن [بن محمد بن عبدالوهاب] وابنِه عبدِاللطيف، وعبدِاللهِ أبي بُطَين [هو عبدُاللهِ بْنُ عبدِالرَّحمن مُفْتِي الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ ت1282هـ]، وغيرِهم، رَحِمَهم اللهُ أجمعِين. انتهى باختصار.

 

(12)وقالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في (شرح العقيدة السفارينية): مَعرِفةُ اللهِ عزَّ وجلَّ لا تحتاجُ إلى نَظَرٍ في الأصلِ، ولهذا، عوامُّ المسلمِين الآنَ هَلْ هُمْ فَكَّروا ونَظَروا في الآيَاتِ الكَونِيَّةِ والآيَاتِ الشرعِيَّةِ حتى عَرَفوا اللهَ، أم عَرَفوه بمُقتَضَى الفِطْرةِ؟، ما نَظَروا [قالَ الشوكاني في (التحف في مَذَاهِب السّلف): فَهُمْ [أَيْ أَهْلُ الكلامِ] مُتَّفِقُون فيما بينهم على أنَّ طريقَ السَّلفِ أَسْلَمُ، ولكنْ زَعَموا أنَّ طريقَ الخَلَفِ أَعْلَمُ، فكان غَايَةُ ما ظَفَروا به مِن هذه الأَعْلَمِيَّةِ لطريقِ الخَلَفِ أنْ تَمَنَّى مُحَقِّقُوهم وأذكياؤهم في آخِرِ أَمْرِهم دِينَ العجائزِ وقالوا {هَنِيئا للعامَّة}. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ ابنُ عثيمين-: لَوْ فُرِضَ أنَّ الإنسانَ احتاجَ إلى النَّظَرِ فحِينَئِذٍ يَجِبُ عليه النَّظَرُ، لو كان إيمانُه فيه شيءٌ مِنَ الضَّعْفِ، يحتاجُ إلى التَّقْوِيَةِ، فحِينَئِذٍ لا بُدَّ أنْ يَنْظُرَ، ولهذا قالَ تعالَى {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ}، وقالَ {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، وقالَ تعالَى {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، فإذا وَجَدَ الإنسانُ في إيمانِه ضَعْفًا حِينَئِذٍ يَجِبُ أنْ يَنْظُرَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ ابنُ عثيمين-: الحاصلُ أنَّ النَّظَرَ لا يَحتاجُ إليه الإنسانُ إلا للضرورةِ -كالدَّوَاءِ- لِضَعْفِ الإيمانِ، وإلَّا فمَعرِفةُ اللهِ مَركُوزةٌ بالفِطْرة... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ ابنُ عثيمين-: لكنْ ما هو الطريقُ إلى مَعرِفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟، الطريقُ، قُلْنا {بالفِطرةِ قَبْلَ كُلِّ شيءٍ}، فالإنسانُ مَفطورٌ على مَعرِفةِ رَبِّه تعالى وأنَّ له خالِقًا، وإنْ كان لا يَهتَدِي إلى معرفةِ صفاتِ الخالقِ على التفصيلِ، ولكنْ يَعرِفُ أنَّ له خالقًا كامِلًا مِن كُلِّ وَجْهٍ، ومِنَ الطُّرُقِ التي تُوَصِّلُ إلى مَعرِفةِ اللهِ العقلُ، الأُمورُ العقليَّةُ، فإنَّ العقلَ يَهتَدِي إلى مَعرِفةِ اللهِ بالنَّظَرِ إلى ذاتِه [قالَ تعالَى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}] (هذا إذا كان القَلْبُ سَلِيمًا مِنَ الشُّبُهات)، نَنْظُرُ في السماواتِ والأرضِ فنَستَدِلّ به على عِظَمِ اللهِ فإنَّ عِظَمَ المَخلوقِ يَدُلُّ على عِظَمِ الخالقِ، وهكذا. انتهى باختصار.

 

(13)وقالَ الشيخُ عبدُالرحمن البرَّاك (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في مقالة له بعنوان (مِن طُرُقِ الهِدَايَةِ العَقْلُ والسَّمْعُ) على موقعه في هذا الرابط: لقد فَطَرَ اللهُ عبادَه على معرفتِه، فإنَّ الإنسانَ -بفِطْرَتِه- يَعْلَمُ أنَّ كلَّ مخلوقٍ لا بُدَّ له مِن خالقٍ، وأنَّ المُحْدَثَ لا بُدَّ له مِن مُحْدِثٍ، وقد ذَكَرَ اللهُ الأدلَّةَ الكونيَّةَ -مِن آيَاتِ السَّماوات والأرض- على وُجودِه وقُدرَتِه وعِلْمِه وحِكْمَتِه، ولهذا يُذَكِّرُ اللهُ عبادَه بهذه الآيَاتِ، ويُنْكِرُ على المُشرِكِين إعراضَهم عنها، قال تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}؛ وهذه المعرفةُ -الحاصلةُ بالآيَاتِ الكونيَّةِ- هي مِن مَعرِفةِ العقلِ، فتحصلُ بالنَّظَرِ والتَّفَكُّرِ، ولهذا يقولُ تعالى {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}، ويقول تعالى {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}؛ والآيَاتُ بهذا المعنَى كثيرةٌ، ومع ذلك فالمعرفةُ الحاصلةُ بالعقلِ هي معرفةٌ إجماليَّةٌ، إذِ الإنسانُ لا يَعْرِفُ رَبَّه بأسمائه وصفاتِه وأفعالِه -على وَجْهِ التفصيلِ- إلَّا بما جاءَتْ به الرُّسُلُ ونَزَلَتْ به الكُتُبُ، فالرُّسُلُ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم جَاءُوا بتعريف العِباد بِرَبِّهم، بأسمائه وصفاتِه وأفعالِه، وبهذا يُعْلَمُ أنَّ العقولَ عاجزةٌ عن معرفةِ ما للهِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ على وجه التفصيل، فطريقُ العِلْمِ بما للهِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ -تفصيلًا- هو ما جاءت به الرُّسُلُ، ومع ذلك فلا يُحِيطُ به العبادُ عِلْمًا، مَهْمَا بَلَغوا مِن معرفةٍ، كما قالَ تعالى {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البرَّاك-: وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّ مِن طُرُقُ معرفةِ اللهِ طريقَين، العقلُ، والسَّمْعُ (وهو النَّقْلُ وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ)، وأنَّ مِن أسمائه وصفاتِه ما يُعْرَفُ بالعقلِ والسَّمْعِ، ومنها ما لا يُعْرَفُ إلَّا بالسَّمْعِ؛ وبهذه المُناسَبَةِ يَحْسُنُ التَّنبِيهُ إلى أنّه يَجِبُ تحكيمُ السَّمْعِ -وهو الوَحْيُ- وجَعْلُ العقلِ تابعًا مُهتَدِيًا بِهُدَى اللهِ، ومِنَ الضلالِ المُبِينِ أنْ يُعارَضَ النقلُ بالعقلِ، كما صَنَعَ كثيرٌ مِنَ طوائفِ الضلالِ مِنَ الفلاسفةِ والمتكلِّمِين؛ ووَفَّقَ اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للاعتصامِ بكتابِه وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم واقتفاءِ آثارِ السلفِ الصالحِ، فَحَكَّموا كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ووَضَعوا الأُمورَ في مواضعِها، وعَرَفوا فضيلةَ العقلِ، فَلَمْ يُعَطِّلوا دلالتَه، ولم يُقَدِّموه على نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، كما فَعَلَ الغالِطون والمُبْطِلون، فَهَدَى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ صِرَاطَه المستقيمَ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في مُحاضَرةٍ بِعُنْوانِ (العقل والنقل) مُفَرَّغَةٍ على موقِعِه في هذا الرابط: فالفِطْرةُ دالَّةٌ على توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وكذلك فإنَّ الفِطْرةَ دالَّةٌ على توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ (بالجُمْلَةِ)، فالخَلْقُ مَفطُورون على أنَّ اللهَ أجلُّ وأكبرُ وأعظمُ وأعلَى وأعلمُ وأكملُ مِن كُلِّ شيءٍ، هذا في فِطَرِ الناسِ، فلا يستطيعُ أَحَدٌ [أَنْ] يَعْرِفَ أنَّ للهِ وجْهًا أو أنَّ للهِ يَدَين، لكنْ يَعْرِفُ بالفِطْرةِ أنَّ اللهَ أكملُ وأعلمُ وأعلَى وأعظمُ، فهذه بالفِطْرةِ كُلُّها، أَمَّا تفاصيلُ الصِّفاتِ لا تُدْرَكُ إلَّا بالوَحْيِ، وكذلك فإنَّ الناسَ مَفْطُورون على الإقرارِ بوُجودِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والفِطْرةُ تَدُلُّ على صِفَةِ (الْعُلُوِّ) أيضًا، لأنَّ الأعرابَ والعَجائزَ والصِّبْيانَ -حتى الكُفَّار- إذا صارَ بهم ضُرٌّ ارتَفَعَتْ أَبْصارُهم إلى جِهَةِ الْعُلُوِّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجدُ-: الفِطْرةُ تَدُلُّ على توحيدِ الأُلُوهِيَّةِ، لأنَّ الفِطْرةَ تَأْبَى أنْ يكونَ هناك صانِعان وخالِقان يُقْصَدان معًا بالعبادِة، الفِطْرةُ تَتَّجِهُ إلى عِبَادةِ شيءٍ واحدٍ، لا تَقْبَلُ تَوزِيعَ العبادةِ، لكنَّ الناسَ هُمُ الذِين يَجْعَلون أَوْلادَهم مُشرِكِين، ويُرَبُّونهم على الشِّركِ. انتهى باختصار.

 

(14)وفي هذا الرابط سُئِلَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر: سَمِعتُ مقولةً يقولُها عامَّةُ الناسِ {إنَّ اللهَ عَرَفوه بالعقلِ}، وأريدُ أنْ أَعْرِفَ هذه المقولةَ، وهلِ اللهُ عَرَفْناه بالعقلِ أو القلبِ؟ وما الفَرْقُ بين القلبِ والعقلِ؟. فأجابَ المركزُ: فأمَّا مقولةُ {إنَّ اللهَ عَرَفوه بالعقلِ}، فهي صَحِيحةٌ في الجُملةِ، لأنَّ اللهَ كَرَّمَ الإنسانَ بالعقلِ وجَعَلَه مَنَاطَ التكليفِ، وهَيَّأَ له السُّبُلَ كي يَبحَثَ في الكَونِ بالنَّظَرِ والتَّأَمُّلِ والاستدلالِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ الإنسانَ يَستَدِلُّ على معرفةِ اللهِ بالعقلِ والشرعِ، ولكنَّ تفاصيلَ المعرفةِ لا تَثْبُتُ إلا بالوَحْيِ؛ وقولُك {عَرَفْناه بالعقلِ أو القلبِ؟}، فمعرفةُ اللهِ سبحانه تكون بالعقلِ والقلبِ معًا، فالتَّفَكُّرُ في مخلوقاتِ اللهِ يكونُ بالعقلِ، ثم يَنْتَقِلُ مِن دائرة العقلِ إلى دائرةِ اليَقِينِ بالقلبِ، وقد قَرَنَتِ الآيَاتُ القرآنيةُ التَّفَكُّرَ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ -وهذا يكون بالعقل- بالتَّوَجُّهِ القلبيِّ لِذِكْرِ اللهِ وعبادتِه، فقالَ اللهُ تعالَى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لّأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}؛ أمَّا الفارِقُ بين العقلَ والقلبِ، فالعقلُ يُرادُ به الغَرِيزةُ التي بها يَعْلَمُ الإنسانُ، والقلبُ هو مَحَلُّ الْعِلْمِ والإرادةِ، قالَ ابنُ تيميةَ [في مجموع الفتاوى] {إنَّ العقلَ له تَعَلُّقٌ بالدِّمَاغِ والقلبِ معًا، حيث يكون مَبْدَأُ الفِكْرِ والنَّظَرِ في الدِّمَاغِ، ومَبْدَأُ الإرادةِ والقَصْدِ في القلبِ، فالمُرِيدُ لا يكونُ مُرِيدًا إلَّا بعدَ تَصَوُّرِ المُرادِ}؛ ولهذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ {إنَّ القلبَ مَوطِنُ الهِدَايَةِ، والعقلُ مَوطِنُ الفِكْرِ}، ولذا قد يُوجَدُ في الناس مَن فَقَدَ عقلَ الهِدَايَةِ الذي مَحَلُّهُ القلبُ واكتسبَ عقلَ الفِكْرِ الذي مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ. انتهى باختصار.

 

(15)وقالَ الْقَرَافِيُّ (ت684هـ) في (شرح تنقيح الفصول): إنَّ أُصولَ الدِّيَاناتِ مُهِمَّةٌ عَظِيمةٌ، فَلِذَلِكَ شَرَعَ اللهُ تَعالَى فيها الإكراهَ دُونَ غَيرِها، فَيُكرَه على الإسلامِ بِالسَّيفِ والقِتالِ والقَتلِ وأخْذِ الأموالِ والذَّرارِيِّ [(ذَرَارِيّ) جَمْعُ (ذُرِّيَّة)، والّذُرِّيَّةُ هُمُ الصِّبْيَانُ أوِ النِّسَاءُ أَوْ كِلَاهُمَا]، وذلك أعظَمُ الإكراهِ، وإذا حَصَلَ الإيمانُ في هذه الحالةِ اُعتُبِرَ في ظاهِرِ الشَّرعِ، وغَيْرُه [أَيْ غَيْرُ أُصولِ الدِّينِ] لو وَقَعَ بِهذه الأسبابِ [أيْ بِالسَّيفِ والقِتالِ والقَتلِ وأخْذِ الأموالِ والذَّرارِيِّ] لم يُعتَبَرْ، ولِذَلِكَ لم يَعذُرْه [أيْ لم يَعذُرِ المُكَلَّفَ] اللهُ بِالجَهلِ في أُصولِ الدِّينِ إجماعًا... ثم قالَ -أَيِ الْقَرَافِيُّ-: إذا حَصَلَ الكُفرُ [أَيْ مِنَ المُجتَهِدِ في أُصولِ الدِّينِ] مع بَذلِ الجُهدِ يُؤاخِذُ اللهُ تَعالَى به ولا يَنفَعُه [أيْ ولا يَنفَعُ المُجتَهِدَ في أُصولِ الدِّينِ] بَذْلُ جُهدِه، لِعَظَمِ خَطَرِ البابِ وجَلالِة رُتبَتِه، وظَواهِرُ النُّصوصِ تَقتَضِي أنَّه مَن لم يُؤمِنْ بِاللَّهِ ورَسولِه ويَعمَلُ صالِحًا فإنَّ له نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فيها... ثم قالَ -أيِ الْقَرَافِيُّ-: وقِيَاسُ الأُصولِ على الفُروعِ غَلَطٌ لِعِظَمِ التَّفاوُتِ بينهما. انتهى باختصار.

 

(16)وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): أنواعُ الحُجَّةِ؛ (أ)الحُجَّةُ الرِّسالِيَّةُ، وهي قد قامتْ بالقرآنِ الكريمِ وبإرسالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فمن سمعَ بالقرآنِ وبالرسولِ صلى الله عليه وسلم فقد قامتْ عليه الحجةُ الرساليةُ [قالَ اِبنُ تيميةَ في (الرَّدُّ على المَنْطِقِيِّين): إنَّ حُجَّةَ اللهِ بِرُسُلِه قامَتْ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ، فَلَيسَ مِن شَرطِ حُجَّةِ اللهِ تَعالَى عِلْمُ الْمَدْعُوِّينَ بها، ولِهذا لم يَكُنْ إعراضُ الكُفَّار عنِ اِستِماعِ القُرآنِ وتَدَبُّرِه مانِعًا مِن قِيامِ حُجَّةِ اللهِ تَعالَى عليهم، وكذلك إعراضُهم عنِ اِستِماعِ المَنقولِ عنِ الأنبِياءِ وقِراءةِ الآثارِ المَأثورةِ عنهم لا يَمنَعُ الحُجَّةَ، إذِ المُكْنةُ حاصِلةٌ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): إنَّ حُجَّةَ الخَلقِ تَنتَفِي بَعْدَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ [يُشِيرُ إلى قَولِه تَعالَى {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}]، لِأنَّ التَّقيِيدَ بِالغايَةِ يَقتَضِي أنْ يَكونَ الحُكْمُ فِيما وَراءَ الغايَةِ هو نَقِيضَ الحُكمِ الذي قَبْلَها، وإلَّا فَلا مَعْنَى لِلتَّقيِيدِ {بَعْدَ الرُّسُلِ}، ولِأنَّ مِن حِكمةِ الإرسالِ قَطْعَ الحُجَّةِ مِنَ الناسِ، فَإنْ بَقِيَتْ بَعْدَه كانَ قَدحًا في الحِكمةِ، واللَّازِمُ [وَهُوَ هُنَا القَدحُ] باطِلٌ فالمَلزومُ مِثلُه [قالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في (شرح العقيدة الواسطية): وإذا بَطَلَ اللَّازِمُ بَطَلَ المَلزومُ. انتهى]؛ والمَقصودُ أنَّ الآيَةَ بَيَّنَتْ أنَّ حُجَّةَ الناسِ تَنقَطِعُ بِالإرسالِ [قالَ الشيخُ محمدُ بنُ عبدالوهاب في (الرسائل الشخصية): واعلَموا أنَّ اللهَ قد جَعَلَ لِلْهِدايَةِ والثَّباتِ أسبابًا، كَما جَعَلَ لِلضَّلالِ والزَّيغِ أسبابًا، فَمِن ذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه أنزَلَ الكِتابَ وأرسَلَ الرَّسولَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما اختَلَفوا فيه كَما قالَ تَعالَى {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فَبِإنزالِ الكُتُبِ وإرسالِ الرَّسولِ قَطَعَ العُذرَ وأقامَ الحُجَّةَ. انتهى]، وهذا [يَعنِي عابِدَ القَبرِ] أشرَكَ بَعْدَ الرُّسُلِ فَلا حُجَّةَ له بَلْ هو مُشرِكٌ مُعَذَّبٌ. انتهى. وقالَ الشيخُ أحمدُ الحازمي في (شرح مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد): العِبْرةُ في الحُجَّةِ الرِّسالِيَّةِ هي إمكانُ [أَيِ التَّمَكُّنُ مِنَ] العِلْمِ، وليس العِلْمَ بالفِعْلِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الحازمي-: قامَتْ عليه الحُجَّةُ الرِّسالِيَّةُ (أيْ بَلَغَتْه الدَّعوةُ)... ثم قالَ -أيِ الشيخُ الحازمي-: نُنَزِّلُ عليه الأحكامَ في الدُّنيا، سواء بَلَغَتْه الحُجَّةُ أَمْ لا، لَكِنْ لا نَحكُمُ عليه بِكَونِه خالِدًا مُخَلَّدًا في النارِ إلَّا إذا أُقِيمَتْ عليه الحُجَّةُ الرِّسالِيَّةُ... ثم قالَ -أي الشيخُ الحازمي-: اِشتِراطُ قِيَامِ الحُجَّةِ الرِّسالِيَّةِ هذا لا شَكَّ أنَّه شَرطٌ فِيما يتعلق بالحكم عليه بكونه كافرًا ظاهرًا وباطنًا، والقول بأنه كافرٌ ظاهرا وباطنا معناه ماذا؟ أنه يكون خالدًا مخلدًا في النار. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أحمدُ الحازمي أيضًا في (شرح مصباح الظلام): فهُمْ بمجرد تلبسهم بالشرك الأكبر حَكَمْنا عليهم بِأنهم مُشرِكون، وأمَّا كَونُهم خالدِين مخلدين في النار فهذا بناءً على قيام الحجة الرسالية بلغتهم أو لا. انتهى. وقالَ الشيخُ فيصلٌ الجاسمُ (الإمامُ بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت) في هذا الرابط على موقعه: قيام الحجة الرسالية شرطٌ في الحكم بالكفر على الباطن، أَمَّا الظاهرُ فيُحكمُ بالشرك على كل مَن تلبّس به... ثم قال -أي الشيخ الجاسم-: كل من ظهر منه شرك في العبادة فإنه يُحكم عليه به بعينه ظاهِرًا، لأن الأصل أننا نحكم على الظواهر، وأما البواطن فلا يحكم بها عليه إلا بعد قيام الحجة الرسالية، قال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، فمَن أُقِيمتْ عليه الحجةُ الرسالِيَّةُ حُكِمَ بِكُفرِه باطِنًا وظاهِرًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجاسم-: فالحُكمُ بِكُفرِ مَن وَقَعَ في الشرك عَينًا لا يَتَوَقَّفُ على قيام الحجة، وإنما الذي يتوقف على قيام الحجة هو الحكم على البواطن، فيكون كافِرًا ظاهِرًا وباطِنًا. انتهى]، وكما هو معلوم عند أهل السنة أنه لا يشترط فهم الحجة، فكل من بلغه القرآن وسماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يفهم القرآن [قال الشيخُ فيصل الجاسم في هذا الرابط على موقعه: والمراد بالفهم غير المشترط هنا [هو] الفهم بأن الحجة قاطعة لشبهته، وأنها حقٌّ في نفسها، أما الفهم بمعنى معرفة مراد المتكلم ومفهوم ومقصود الخطاب فهذا لا خلاف في اشتراطه] فقد قامت عليه الحجة الرسالية؛ (ب)الحُجة الحكمية: وهي أحكام الله التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تتنزل على أوصاف، فمن تلبس بالشرك يسمى مشركًا، ومن وقع في الكفر يسمى كافرًا، ومن زنى يسمى زانيًا، ومن سرق يسمى سارقًا، هذا هو حكمه في كتاب الله تعالى، ولقد سمى الله أهل الفترة كفارًا لوقوعهم في الشرك، وكذلك سمى الله أهل قريش كفارًا ومشركين قبل بعثته صلى الله عليه وسلم فيهم، وإن لم تقم عليهم الحجة الرسالية بَعْدُ، لكن قامت عليهم الحجة الحكمية لتلبسهم بالشرك والكفر، فسماهم الله كفارًا ومشركين، وكذلك أهل الفترة، لكن من رحمة الله تعالى بهم لم يعذبهم، ورَفَعَ المؤاخذةَ عنهم حتى تقام عليه الحجة الرسالية، لكنْ ما هو حكمهم الذي حكم الله به عليهم؟ حَكَمَ اللهُ عليهم بالكفر وسماهم مشركين، وهذا في القرآن كثير جِدًّا، لأن الحجة الحكمية تتنزل على المعين بمجرد تلبسه بالفعل، هذا هو حكمه عند الله، أما يعاقب أو لا يعاقب، يعذر أو لا يعذر، فهذه قضية أخرى غير الذي نتكلم فيها [قال الشيخ صالح آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في (شرح كشف الشبهات): فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك، سواءٌ أكان عالمًا أم كان جاهلًا، فإن أُقيمت عليه الحجة (الحجة الرسالية) فَتَرَكَ ذلك فإنه يعد كافرا ظاهرا وباطنا... ثم قال -أي الشيخ صالح-: لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه، لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزِّنَى فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالما بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فاسم الزنا عليه باق لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه. انتهى باختصار]، والإشكال الذي وقع فيه الإخوة هو عدم تفريقهم بين كفر الظاهر وكفر الباطن، فالذي يتلبس بالشرك يسمى مشركًا ظاهرًا، أَيْ حكمُه واسمُه مشركٌ، ليس له اسم غير هذا، وإن مات على هذا الشرك الظاهر الذي وقع فيه يعامل معاملة الكفار في الدنيا، وحكم الآخرة إلى الله، لأن أحكام الدنيا تجري على الظاهر من إسلام وكفر، فمن أظهر الإسلام فهو المسلم، ومن أظهر الكفر فهو الكافر المشرك؛ (ت)الحجة الحدية، التي هي الاستتابة، تكون في وجود خلافة أو إمام أو سلطان، لأنه لا يقيمها إلا الإمام المتمكن، فإذا أصر الرجل على كُفرِه وشِركِه أقام عليه الحَدَّ بعد إقامةِ الحُجَّةِ واستِيفاءِ الشُّروطِ وانتِفاءِ المَوانِعِ [قالَ الشيخُ تركي البنعلي في (شرح شروط وموانع التكفير): الاستِتابةُ، لا نُسَلِّمُ بِأنَّها مِن ضَوابِطِ التَّكفِيرِ، إذْ أنَّ الاستِتابةَ يُلجَأُ إليها عند إقامةِ الحُدودِ الشَّرعِيَّةِ، يُلجَأُ إليها بَعْدَ الحُكمِ بِالرِّدَّةِ وإلَّا فَمِمَّ يُستَتابُ؟!... ثم قالَ -أيِ الشيخُ البنعلي-: الاستِتابةُ تَكونُ بَعْدَ الحُكمِ بِالتَّكفِيرِ لا قَبْلَ الحُكمِ بِالتَّكفِيرِ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ عبدُالله الغليفي في كِتابِه (العذر بالجهل، أسماء وأحكام): والشروط والموانع لا تُذكَرُ إلَّا عند الاستتابة عند القاضِي والحاكمِ ووَلِيِّ الأمرِ المسلمِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (مُناظَرةٌ في حُكمِ مَن لا يُكَفِّرُ المُشرِكِين): ونَعتَبِرُ عند التَّكفِيرِ ما يَعتَبِرُه أهلُ العِلْمِ مِنَ الشُّروطِ والمَوانِعِ، كالعَقلِ والاختِيَارِ وقَصدِ الفِعْلِ والتَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ [فِي الشُّروطِ]، وفي المَوانِعِ الجُنونُ والإكراهُ والخَطَأُ والجَهلُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: أصلُ الدِّينِ لا يُعذَرُ فيه أحَدٌ بِجَهلٍ أو تَأوِيلٍ، [وأصلُ الدِّينِ] هو ما يَدخُلُ به المَرءُ في الإسلامِ (الشَّهادَتان وما يَدخُلُ في مَعنَى الشَّهادَتَين)، وما لا يَدخُلُ في مَعنَى الشَّهادَتَين لا يَدخُلُ في أصلِ الدِّينِ الذي لا عُذرَ فيه لِأحَدٍ إلَّا بِإكراهٍ أوِ اِنتِفاءِ قَصدٍ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (الجَوابُ المَسبوكُ "المَجموعةُ الأُولَى"): هناك شُروطٌ أجمَعَ الناسُ على مُراعاتِها في بابِ التَّكفِيرِ، وهي العَقلُ، والاختِيارُ (الطَّوعُ)، وقَصدُ الفِعلِ والقَولِ؛ وهناك مَوانِعُ مِن التَّكفِيرِ مُجمَعٌ عليها، وهي عَدَمُ العَقلِ، والإكراهُ، وانتِفاءُ القَصدِ؛ وهناك شُروطٌ اُختُلِفَ في مُراعاتِها، كالبُلوغِ، والصَّحوِ؛ ومَوانِعُ تَنازَعَ الناسُ فيها، كَعَدَمِ البُلوغِ، والسُّكْرِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (الانتصار للأئمة الأبرار): إنَّ (الغُلُوَّ) في مَعناه اللُّغَوِيِّ يَدورُ حَوْلَ تَجاوُزِ الحَدِّ وتَعَدِّيه، أمَّا الحَقِيقةُ الشَّرعِيَّةُ فَهو [أيِ الغُلُوُّ] مُجاوزةُ الاعتِدالِ الشَّرعِيِّ في الاعتِقادِ والقَولِ والفِعْلِ، وقِيلَ {تَجاوُزُ الحَدِّ الشَّرعِيِّ بِالزِّيادةِ على ما جاءَتْ بِه الشَّرِيعةُ سَواءً في الاعتِقادِ أمْ في العَمَلِ}، يَقولُ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ [في (اِقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ)] {الغُلُوُّ مُجاوَزةُ الحَدِّ بِأنْ يُزادَ في الشَّيءِ (في حَمدِه أو ذَمِّه) على ما يَستَحِقُّ}، وقال سليمانُ بنُ عبدالله [بن محمد بن عبدالوهاب في (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)] {وضابِطُه [أيْ ضابِطُ الغُلُوِّ] تَعَدِّي ما أمَرَ اللهُ به، وهو الطٌّغيَانُ الذي نَهَى اللهُ عنه في قَولِه (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)}، ولَه أسبابٌ كَثِيرةٌ يَجمَعُها (الإعراضُ عن دِينِ اللهِ وما جاءَتْ بِه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ)، والمَرجِعُ فِيما يُعَدُّ مِنَ الغُلُوِّ في الدِّينِ وما لا يُعتَبَرُ مِنه كِتابُ رَبِّ العالَمِين وسُنَّةُ سَيِّدِ المُرسَلِين، لِأنَّ الغُلُوَّ مُجاوَزةُ الحَدِّ الشَّرعِيِّ فَلا بُدَّ مِن مَعرِفةِ حُدودِ الشَّرعِ أوَّلًا، ثم ما خَرَجَ عنه مِنَ الأفعالِ والأقوالِ والاعتِقاداتِ فَهو مِنَ الغُلُوِّ في الدِّينِ، وما لم يَخرُجْ فَلَيْسَ مِنَ الغُلُوِّ في الدِّينِ وإنْ سَمَّاه بَعضُ الناسِ غُلُوًّا، لِأنَّ المُقَصِّرَ في العِبادةِ قد يَرَى السابِقَ غالِيًا بَلِ المُقتَصَدَ، ويَرَى العَلْمَانِيُّ واللِّيبرالِيُّ الإسلامِيَّ غالِيًا، والقاعِدُ المُجاهِدَ غالِيًا، وغَيرُ المُكَفِّرِ مَن كَفَّرَ مَن كَفَّرَه اللهُ ورَسولُه غالِيًا، كَما رَأَى أبو حامد الْغَزَالِيُّ [ت505هـ] تَكفِيرَ القائلِين بِخَلقِ القُرآنِ مِنَ التَّسَرُّعِ إلى التَّكفِيرِ، واعتَبَرَ الْجُوَيْنِيُّ [ت478هـ] تَكفِيرَ القائلِين بِخَلقِ القُرآنِ زَلَلًا في التَّكفِيرِ وأنَّه لا يُعَدُّ مَذهَبًا في الفِقْهِ، رَغْمَ كَونِه مَذهَبَ السَّلَفِ... ثم قالَ -أَيِ الشَّيخُ الصومالي-: وقَدِ اِختَلَفَ أهلُ العِلْمِ في تَكفِيرِ تارِكِ الصَّلاةِ، وَ[تارِكِ] الزَّكاةِ، وَ[تارِكِ] الصَّومِ، وَ[تارِكِ] الحَجِّ، والساحِرِ، والسَّكرانِ [جاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ الكُوَيْتِيَّةِ: اِتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ [وهو الذي تَناوَلَ المُسكِرَ اِضْطِرارًا أو إكراهًا] لا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى تَكْفِيرِهِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ مُكَفِّرٌ. انتهى]، والكاذِبِ على رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، ومُرجِئةِ الفُقَهاءِ... ثم قالَ -أَيِ الشَّيخُ الصومالي-: والضابِطُ [أيْ في التَّكفِيرِ] تَحَقُّقُ السَّبَبِ المُكَفِّرِ مِنَ العاقِلِ المُختارِ، ثم تَختَلِفُ المَذاهِبُ في الشُّروطِ والمَوانِعِ [أيْ في المُتَبَقِّي منها، بَعْدَمَا اِتَّفَقوا على اِعتِبارِ شَرْطَيِ العَقلِ والاختِيَارِ، ومانِعَيِ الجُنونِ والإكراهِ]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): فَمَنْ بَدَّعَ أو حَكَمَ بِالغُلُوِّ لِعَدَمِ اِعتِبارٍ لِبَعضِ الشُّروطِ [يَعنِي شُروطَ ومَوانِعَ التَّكفِيرِ] فَهُوَ الغالِي في البابِ، لِأنَّ أهلَ السُّنَّةِ اِختَلَفوا في اِعتِبارِ بَعضِها فَلَمْ يُبَدِّعْ بَعضُهم بَعضًا، ومِن ذلك؛ (أ)أنَّ أكثَرَ عُلَماءِ السَّلَفِ لا يَعتَبِرون البُلوغَ شَرطًا مِن شُروطِ التَّكفِيرِ ولا عَدَمَ البُلوغِ مانِعًا؛ (ب)وكذلك جُمهورُ الحَنَفِيَّةِ والمالِكِيَّةِ لا يَعتَبِرون الجَهْلَ مانِعًا مِنَ التَّكفِيرِ؛ (ت)وتَصِحُّ رِدَّةُ السَّكرانِ عند الجُمهورِ، والسُّكْرُ مانِعٌ مِنَ التَّكفِيرِ عند الحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عند الحَنابِلةِ؛ ولا تَراهُمْ يَحكُمون بِالغُلُوِّ على المَذاهِبِ المُخالِفةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: اِتَّفَقَ الناسُ [يَعنِي في شُروطِ ومَوانِعِ التَّكفِيرِ] على اِعتِبارِ الاختِيارِ والعَقلِ والجُنونِ والإكراهِ، واختَلفوا في غَيرِها. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضا في (سِلْسِلَةُ مَقالاتٍ في الرَّدِّ على الدُّكْتُورِ طارق عبدالحليم): فالعامِّيُّ كالعالِمِ في الضَّرورِيَّاتِ والمَسائلِ الظاهِرةِ، فَيَجوزُ له التَّكفِيرُ فيها، ويَشهَدُ لِهذا قاعِدةُ الأمرِ بِالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، لِأنَّ شَرْطَ الآمِرِ والناهِي العِلمُ بِما يَأْمُرُ به أو يَنْهَى عنه مِن كَونِه مَعروفًا أو مُنكَرًا، وليس مِن شَرطِه أنْ يَكونَ فَقِيهًا عالِمًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: لِلتَّكفِيرِ رُكنٌ واحِدٌ، وشَرطان [قالَ الشيخُ تركي البنعلي في (شَرحُ شُروطِ ومَوانِعِ التَّكفِيرِ): إذا كانَ ثُبوتُ أمرٍ مُعَيَّنٍ مانِعًا فانتِفاؤه شَرطٌ وإذا كانَ اِنتِفاؤه مانِعًا فَثُبوتُه شَرطٌ، والعَكسُ بِالعَكسِ، إذَنِ الشُّروطُ في الفاعِلِ هي بِعَكسِ المَوانِعِ، فَمَثَلًا لو تَكَلَّمْنا بِأنَّه مِنَ المَوانِعِ الشَّرعِيَّةِ الإكراهُ فَ[يَكونُ] مِنَ الشُّروطِ في الفاعِلِ الاختِيارُ، أنَّه يَكونُ مُختارًا في فِعْلِه هذا الفِعلَ -أو قَولِه هذا القَولَ- المُكَفِّرَ، أمَّا إنْ كانَ مُكرَهًا فَهذا مانِعٌ مِن مَوانِعِ التَّكفِيرِ. انتهى] عند أكثَرِ العُلَماءِ؛ أمَّا الرُّكنُ فَجَرَيانُ السَّبَبِ [أَيْ سَبَبِ الكُفرِ] مِنَ العاقِلِ، والفَرْضُ [أَيْ (والمُقَدَّرُ) أو (والمُتَصَوَّرُ)] أنَّه [أَيِ السَّبَبَ] قَدْ جَرَى مِن فاعِلِه بِالبَيِّنةِ الشَّرعِيَّةِ؛ وأمَّا الشَّرطان فَهُما العَقلُ والاختِيارُ، والأصلُ في الناسِ العَقلُ والاختِيارُ؛ وأمَّا المانِعان فَعَدَمُ العَقلِ، والإكراهُ، والأصلُ عَدَمُهما حتى يَثبُتَ العَكْسُ؛ فَثَبَتَ أنَّ العامِّيَّ يَكفِيه في التَّكفِيرِ في الضَّرورِيَّاتِ العِلمُ بِكَونِ السَّبَبِ كُفرًا مَعلومًا مِنَ الدِّينِ، وعَدَمُ العِلْمِ بِالمانِعِ، وبِهذا تَتِمُّ له شُروطُ التَّكفِيرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: لا يُتَوَقَّفُ في تَكفِيرِ المُعَيَّنِ عند وُقوعِه في الكُفرِ وثُبوتِه شَرعًا إذا لم يُعلَمْ وُجودُ مانِعٍ، لِأنَّ الحُكمَ يَثبُتُ بِسَبَبِه [أَيْ لِأنَّ الأصلَ تَرَتُّبُ الحُكْمِ على السَبَبِ]، فإذا تَحَقَّقَ [أَيِ السَبَبُ] لم يُترَكْ [أَيِ الحُكْمُ] لِاحتِمالِ المانِعِ، لِأنَّ الأصلَ العَدَمُ [أَيْ عَدَمُ وُجودِ المانِعِ] فَيُكتَفَى بِالأصلِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: لا يَجوزُ تَرْكُ العَمَلِ بِالسَّبَبِ المَعلومِ لِاحتِمالِ المانِعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: الأسبابُ الشَّرعِيَّةُ لا يَجوزُ إهمالُها بِدَعوَى الاحتِمالِ، والدَّلِيلُ أنَّ ما كانَ ثابِتًا بِقَطْعٍ أو بِغَلَبةِ ظَنٍّ لا يُعارَضُ بِوَهمٍ واحتِمالٍ، فَلا عِبرةَ بِالاحتِمالِ في مُقابِلِ المَعلومِ مِنَ الأسبابِ، فالمُحتَمَلُ مَشكوكٌ فيه والمَعلومُ ثابِتٌ، وعند التَّعارُضِ لا يَنبَغِي الالتِفاتُ إلى المَشكوكِ، فالقاعِدةُ الشَّرعِيَّةُ هي إلغاءُ كُلِّ مَشكوكٍ فيه والعَمَلُ بِالمُتَحَقِّقِ مِنَ الأسبابِ [جاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ الكُوَيْتِيَّةِ: فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَهَلْ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؟، اِنْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ {الشَّكَّ فِي الْمَانِعِ لا أَثَرَ لَهُ}. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: قالَ الإمامُ شهابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ (ت684هـ) [في (نفائس الأصول في شرح المحصول)] {والشَّكُّ في المانِعِ لا يَمنَعُ تَرَتُّبَ الحُكمِ، لِأنَّ القاعِدةَ أنَّ المَشكوكاتِ كالمَعدوماتِ، فَكُلُّ شَيءٍ شَكَكنا في وُجودِه أو عَدَمِه جَعَلناه مَعدومًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ المانِعَ يَمنَعُ الحُكمَ بِوُجودِه لا بِاحتِمالِه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ اِحتِمالَ المانِعِ لا يَمنَعُ تَرْتِيبَ الحُكمِ على السَّبَبِ، وإنَّ الأصلَ عَدَمُ المانِعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: وقالَ تاجُ الدِّينِ السبكِيُّ (ت771هـ) [في (الإبهاج في شرح المنهاج)] {والشَّكُّ في المانِعِ لا يَقتَضِي الشَّكَّ في الحُكمِ، لِأنَّ الأصلَ عَدَمُه [أَيْ عَدَمُ وُجودِ المانِعِ]}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ يُوسُفُ بْنُ الْجَوْزِيِّ (ت656هـ) [في (الإيضاح لقوانين الاصطلاح)] {الشُّبهةُ إنَّما تُسقِطُ الحُدودَ إذا كانَتْ مُتَحَقِّقةَ الوُجودِ لا مُتَوَهَّمةً}، وقَالَ في المانِعِ {الأصلُ عَدَمُ المانِعِ، فَمَنِ اِدَّعَى وُجودَه كانَ عليه البَيانُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: قالَ أبو الفضل الجيزاوي [شيخ الأزهر] (ت1346هـ) [في (حاشية الجيزاوي على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب)] {العُلَماءُ والعُقَلاءُ على أنَّه إذا تَمَّ المُقتَضِي [أَيْ سَبَبُ الحُكمِ] لا يَتَوَقَّفون إلى أنْ يَظُنُّوا [أَيْ يَغْلِبَ على ظَنِّهم] عَدَمَ المانِعِ، بَلِ المَدارُ على عَدَمِ ظُهورِ المانِعِ} [قالَ صالح بن مهدي المقبلي (ت1108هـ) في (نجاح الطالب على مختصر ابن الحاجب، بعناية الشيخ وليد بن عبدالرحمن الربيعي): وهذه اِستِدلالاتُ العُلَماءِ والعُقَلاءِ، إذا تَمَّ المُقتَضِي لا يَتَوَقَّفون إلى أنْ يَظهَرَ لهم عَدَمُ المانِعِ، بَلْ يَكفِيهم أنْ لا يَظهَرَ المانِعُ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ المانِعَ الأصلُ فيه العَدَمُ، وإنَّ السَّبَبَ يَستَقِلُّ بِالحُكمِ، ولا أثَرَ لِلمانِعِ حتى يُعلَمَ يَقِينًا أو يُظَنُّ [أَيْ يَغْلِبَ على الظَّنِّ وُجودُه] بِأمارةٍ شَرعِيَّةٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ عَدَمَ المانِعِ ليس جُزْءًا مِنَ المُقتَضِي، بِل وُجودُه [أَيِ المانِعِ] مانِعٌ لِلحُكمِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ الحُكمَ يَثبُتُ بِسَبَبِه [لِأنَّ الأصلَ تَرَتُّبُ الحُكْمِ على السَبَبِ]، ووُجودَ المانَعِ يَدفَعُه [أَيْ يَدفَعُ الحُكْمَ]، فإذا لم يُعلَمْ [أَيِ المانَعُ] اِستَقَلَّ السَّبَبُ بِالحُكمِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: مُرادُ الفُقَهاءِ بِانتِفاءِ المانِعِ عَدَمُ العِلْمِ بِوُجودِ المانِعِ عند الحُكمِ، ولا يَعنون بِانتِفاءِ المانِعِ العِلمَ بِانتِفائه حَقِيقةً، بَلِ المَقصودُ أنْ لا يَظهَرَ المانِعُ أو يُظَنَّ [أَيْ أنْ لا يَظهَرَ المانِعُ ولا يَغْلِبَ على الظَّنِّ وُجودُه] في المَحِلِّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: الأصلُ تَرَتُّبُ الحُكمِ على سَبَبِه، وهذا مَذهَبُ السَّلَفِ الصالِحِ، بينما يَرَى آخَرون في عَصرِنا عَدَمَ الاعتِمادِ على السَّبَبِ لِاحتِمالِ المانِعِ، فَيُوجِبون البَحْثَ عنه [أَيْ عنِ المانِعِ]، ثم بَعْدَ التَّحَقُّقِ مِن عَدَمِه [أَيْ مِن عَدَمِ وُجودِ المانِعِ] يَأْتِي الحُكْمُ، وحَقِيقةُ مَذهَبِهم (رَبطُ عَدَمِ الحُكمِ بِاحتِمالِ المانِعِ)، وهذا خُروجٌ مِن مَذاهِبِ أهلِ العِلْمِ، ولا دَلِيلَ إلَّا الهَوَى، لِأنَّ مانِعِيَّةَ المانِعِ [عند أهلِ العِلْمِ] رَبْطُ عَدَمِ الحُكمِ بِوُجودِ المانِعِ لا بِاحتِمالِه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: ويَلزَمُ المانِعِين مِنَ الحُكمِ لِمُجَرَّدِ اِحتِمالِ المانِعِ الخُروجُ مِنَ الدِّينِ، لِأنَّ حَقِيقةَ مَذهَبِهم رَدُّ العَمَلِ بِالظَّواهِرِ مِن عُمومِ الكِتابِ، وأخبارِ الآحادِ، وشَهادةِ العُدولِ، وأخبارِ الثِّقاتِ، لِاحتِمالِ النَّسخِ والتَّخصِيصِ، و[احتِمالِ] الفِسقِ المانِعِ مِن قَبُولِ الشَّهادةِ، واحتِمالِ الكَذِبِ والكُفرِ والفِسقِ المانِعِ مِن قَبُولِ الأخبارِ، بَلْ يَلزَمُهم أنْ لا يُصَحِّحوا نِكَاحَ اِمرَأَةٍ ولا حِلَّ ذَبِيحةِ مُسلِمٍ، لِاحتِمالِ أنْ تَكونَ المَرأةُ مَحْرَمًا له أو مُعْتَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ أو كافِرةً، و[احتِمالِ] أنْ يَكونَ الذَّابِحُ مُشرِكًا أو مُرتَدًّا... إلى آخِرِ القائمةِ. انتهى باختصار]، التي يَحِلُّ بِها دَمُه ومالُه [قُلْتُ: وبِذلك يُعْلَمُ أنَّ (أ)المشركَ الذي قامَتْ عليه الحُجَّةُ الحَدِّيَّةُ قد قامَتْ عليه الحُجَّتان الحُكمِيَّةُ والرِّسالِيَّةُ؛ (ب)المشركَ الذي قامَتْ عليه الحجة الرسالية قد قامَتْ عليه الحجة الحُكمِيَّةُ، لَكِنْ قد لا يَكونُ قامَتْ عليه الحُجَّةُ الحَدِّيَّةُ؛ (ت)كُلَّ من تلبس بالشرك قامَتْ عليه الحجة الحكميةُ؛ (ث)من قامَتْ عليه الحجة الحكميةُ قد لا يَكونُ قامَتْ عليه الحجتان الرساليةُ والحدية؛ (ج)قد تقام الحجتان الرساليةُ والحدية معا في بعض الأحوال، ومن ذلك حَدِيثُ عَهْدٍ بإسلامٍ يتلبس بالشرك الأكبر فيَسْتَتِيبُهُ القاضي، فهنا تقوم الحُجَّتان الرساليةُ والحَدِّيَّةُ معا]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: والإشكالُ الآخَرُ في فَهْمِ [قَوْلِ] العَلَماءِ {ألَّا يُقِيمَ الحُجَّةَ إلَّا عالِمٌ أو أمِيرٌ مُطاعٌ}، ففهموا من هذا القول أنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، وأن المقصود بالحجة هنا (الرسالية) [في حين أن المقصود هنا هو الحجة الحدية]، وأن الذي يقيمها عالم أو أمير أو قاضي حتى يُسَمَّى [أيْ مَن قامَ به الكُفْرُ] كافرًا، فخلطوا بين الحجة الرسالية، والحدية (التي هي الاستتابة)، والحكمية (التي هي حكمه بعد تلبسه بالشرك)، والخلط في فهم هذه الأمور يؤدي إلى إشكالات وسوء فهم لأقوال أهل العلم، والذي فَصَّلَ في ذلك وبَيَّنَه أحسَنَ بَيَانٍ فضيلةُ الشيخ صالح آل الشيخ [وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد] في شروحه لكتب العقيدة، فَفَرَّقَ بين معنى (كفر ظاهر) و(كفر ظاهر وباطن)، وبين الكفر والتكفير [قالَ أبو حامد الغزالي (ت505هـ) في (الاقْتِصَادُ فِي الاعتِقادِ) تحتَ عُنْوانِ (بَيَانُ مَن يَجِبُ تَكفِيرُه مِنَ الفِرَقِ): اِعلَمْ أنَّ لِلفِرَقِ في هذا مُبالَغاتٍ وتَعَصُّباتٍ، فَرُبَّما اِنتَهَى بَعضُ الطَّوائفِ إلى تَكفِيرِ كُلِّ فِرْقةٍ سِوَى الفِرْقةِ التي يَعْتَزِي [أيْ يَنتَسِبُ] إليها، فَإذا أَرَدتَ أنْ تَعرِفَ سَبِيلَ الحَقِّ فيه فاعلَمْ قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ أنَّ هذه مَسألَةٌ فِقهِيَّةٌ، أعنِي الحُكمَ بِتَكفِيرِ مَن قالَ قَولًا وتَعاطَى فِعْلًا [قالَ الشيخُ حاتم العوني (عضو هيئة التدريس في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى) تَعلِيقًا على هذا الكَلامِ على مَوقِعِه في هذا الرابط: فَهُوَ [أَيِ الغزالي] يُصَرِّح أنها مَسأَلةٌ فِقهِيَّةٌ؛ والفِقهِيُّ في هذا البابِ هو تَنزِيلُ حُكمِ التَّكفِيرِ على الأعيانِ، لا تَقرِيرُ ما يُنافِي الإيمانَ، إذْ تَقرِيرُ الإيمانِ وما يُنافِيه [وهو الكُفْرُ] هو أصلُ الأُصولِ العَقَدِيَّةِ وليس مَسأَلةً فِقهِيَّةً. انتهى]. انتهى. وقالَ العزُّ بنُ عبدالسلام في (قواعد الأحكام): إنَّ الْكَافِرَ الْحَقِيقِيَّ أَقْبَحُ مِنَ الْكَافِرِ الْحُكْمِيِّ. انتهى. وقالَ (موقعُ الإسلام سؤال وجواب) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط: أَمَّا في الدُّنْيَا فأطفالُ المُشركِين تَبَعٌ لآبائهم في الأحكامِ، فلا يُغَسَّلُون ولا يُصَلَّى عليهم ولا يُدفَنون في مَقابِرِ المُسلمِين؛ وكَونُ أطفالِ المُشركِين يَتْبَعون آباءَهم في أحكامِ الدُّنْيَا لا يَعْنِي أنَّهم في حَقِيقةِ الأَمْرِ كفارٌ، وإنَّما يُقالُ {هُمْ كفارٌ حُكْمًا تَبَعًا لآبائِهم، لا حَقِيقةً}؛ وقد عَرَضْنا هذه المسألةَ على شَيْخِنا عبدِالرحمن البراك [أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية] حَفِظَهُ اللهُ تَعالَى، فقالَ {أطفالُ المُشركِين كفارٌ حُكْمًا لا حَقِيقةً، ومَعْنَى الكُفرِ الحُكْمِيِّ أنَّهم يَتْبَعون آباءَهم في أحكامِ الدُّنْيَا}. انتهى باختصار. وقالَ ابنُ القيم في (شفاء العليل): وقد يكونُ في بلادِ الكُفْرِ مَن هو مُؤمِنٌ يَكْتُمُ إيمانَه ولا يَعْلَمُ المسلمون حالَه فلا يُغَسَّلُ، ولا يُصَلَّى عليه، ويُدفَنُ مع المُشرِكِين، وهو في الآخِرةِ مِن أهلِ الجَنَّةِ، كما أنَّ المُنافِقِين في الدُّنْيَا تَجرِي عليهم أحكامُ المسلمِين وَهُمْ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النارِ، فحُكْمُ الدارِ الآخِرةِ غيرُ حُكْمِ الدارِ الدُّنْيَا. انتهى]، وبين الحجة الرسالية والحدية والحكمية... ثم قال -أَيِ الشيخُ الغليفي-: فمَن قامَ به الكُفْرُ أو قامَ به الشِّركُ، سواء كان معذورًا أو غير معذور [أي سواء قامت عليه الحجة الرسالية، أو لم تقم]، يسمى مشركًا، فليس العذر في نفي الاسم عنه مع تلبسه بالشرك، فهذا لا يتصور لأن الوصف لازم له لتلبسه به، أما العذر المقصود فهو [ما يترتب عليه] رفع الإثم والمؤاخذة... ثم قال -أَيِ الشيخُ الغليفي-: و[الحجة] الحدية هي التي يُنظر [فيها] في الشروط والموانع، لإنزال العقوبة عليه لا لِيُسَمَّي كافِرًا [في فتوى صَوْتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ للشيخِ صالح الفوزان على هذا الرابط، سُئِلَ الشيخُ: بعضُ طَلَبةِ العلمِ المُعاصِرِين يقولون {إنَّ الذِين يُكَفِّرون الذِين يَطُوفون على القُبورِ هُمْ تكفيرِيُّون، لأنه قد يكونُ الذي يَطُوفُ على القبرِ مَجْنُونًا، والصحيحُ أنه لا يُكَفَّرُ أَحَدٌ حتى تَثْبُتَ الشُّروطُ وتَنْتَفِي المَوانعُ}، هَلْ مِثْلُ هذا الكَلامِ صَحِيحٌ؟. فَصَدَّرَ الشَّيخُ جَوَابَه بِقَوْلِه: هذا كَلامُ المُرْجِئةِ، هذا كَلامُ المُرْجِئةِ [قالَ الشيخُ عبدُالرحمن البرَّاك (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في (إجابات الشيخ عبدالرحمن البراك على أسئلة أعضاء ملتقى أهل الحديث): فمعلوم لجميع المسلمين أن الطَّوَافَ بِالبَيتِ العَتِيقِ عبادة شَرَعَها اللهُ في الحج والعمرة وفي غيرهما، ولم يُشَرِّعِ اللهُ الطَّوَافَ بغير بيته فَمَن طافَ على بَنِيَّةٍ أو قبرٍ أو غيرِهما عِبادةً لله فهو مبتدعٌ ضالٌّ مُتَقَرِّبٌ إلى الله بما لم يُشَرِّعْه، ومع ذلك فهو وسيلة إلى الشرك الأكبر فيجب الإنكار عليه [أيْ على مَن فَعَلَه] وبيان أن عمله باطل مردود عليه كما قال صلى الله عليه وسلم {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ}؛ أمَّا مَن قَصَدَ بذلك الطَّوَافِ التَّقَرُّبَ إلى صاحب القبرِ فهو حينئِذٍ عابِدٌ له بِهذا الطَّوَافِ فيكون مُشرِكًا شِركًا أكبَرَ كما لو ذَبَحَ له أو صَلَّى له؛ وهذا التفصيلُ هو الذي تقتضيه الأُصولُ، كما يَدُلُّ لِذلك قولُه صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى}، فلا بد مِنِ اِعتِبارِ المقاصدِ، والغالب على أهل القبور القَصْدُ الثاني، وهو أنهم يتقربون إلى المَيِّتِ بذلك، فَهم بذلك العَمَلِ كُفَّارٌ مُشرِكون لِأنهم عَبَدوا مع اللهِ غيرَه، والسَّلَفُ المتقدِّمون مِن أهل القرونِ المُفَضَّلةِ لم يتكلموا في ذلك لِأنه لم يَقْعْ ولم يُعرَفْ في عصرهم لِأنَّ القُبورِيَّةَ إنَّما نَشَأَتْ في القَرنِ الرابِعِ. انتهى]. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو عبدالله يوسف الزاكوري في مقالة له بعنوان (الرَّدُّ على مَنِ اِحتَجَّ بكَلامِ ابنِ العربي المالكي في مَسأَلةِ "العُذرِ بِالجَهلِ") على موقعه في هذا الرابط: وسُئلَ العَلَّامةُ الفوزانُ في (نواقض الإسلام) {ما قَولُكم في مَن يَقولُ (لا نُكَفِّرُ المُعَيَّنَ إلَّا إذا اِستَوفَى الشُّروطَ وانتَفَتِ المَوانِعُ)؟}؛ الشيخُ {مَنِ الذي يَقولُ هذا؟!، مَن صَدَرَ منه الكفرُ قولًا أو فعلًا أو اعتقادًا أو شَكًّا [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (نَظَراتٌ نَقدِيَّةٌ في أخبارٍ نَبَوِيَّةٍ "الجُزءُ الثالِثُ"): لا يَعدُو المُقتَضِي لِلْكُفرِ، إمَّا يَكونُ قَولًا أو فِعلًا أو اِعتِقادًا او شَكًّا (فِيما يَكونُ الشَّكُّ فيه كُفرًا) أو جَهلًا (لِمَا يَكونُ الجَهلُ به كُفرًا). انتهى]، فَإنَّه يُحكَمُ بِكُفرِه، أمَّا ما في قَلْبِه هذا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، نحن ما وُكِّلْنا بِالقُلوبِ، نحن مُوَكَّلون بِالظاهِرِ، فَمَنْ أظهَرَ الكُفرَ حَكَمنا عليه بِالكُفرِ وعامَلْناه مُعامَلةَ الكافِرِ، وأمَّا ما في قَلْبِه فَهذا إلى اللهِ سُبحانَه، اللهُ لم يَكِلْ إلَينا أُمورَ القُلوبِ}. انتهى باختصار]... ثم قال -أَيِ الشيخُ الغليفي-: فإن مصادر التشريع وتلقي العقيدة والدين عند أهل السنة والجماعة آية محكمة من كتاب الله، وحديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بفهم الصحابة رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونقول؛ أولًا، هل تجد في القرآن الكريم من أوله إلى آخره آية واحدة تسمي الكافر المتلبس بشرك بغير اسمه؟، هل تجد آية واحدة في كتاب الله تقول أن المتلبسَ بشركٍ مسلمٌ، أو فِعْلَه فِعْلُ كُفرٍ وهو لا يَكْفُرُ ولا يُسَمَّى مشركًا؟، هل تجد في كتاب الله مثل هذا التخبط والاضطراب في تغيير الأحكام وتسمية الأشياء بغير اسمها؟، هل تجد في القرآن مثل هذا أيها السُني الموحد؟؛ ثانيًا، هذا كتاب الله بين أيدينا، وهذه سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محفوظة في السطور وفي الصدور، ائتونا بآية واحدة أو حديث صحيح، يدل على أن المتلبس بشرك لا يسمي مشركًا، بل نصوص القرآن والسنة متواترة على أن المتلبس بشرك يسمى مشركًا، فكل من قام به الشرك يسمى مشركًا، وكل مَن قامَ به الكُفْرُ يُسَمَّى كافِرًا، تمامًا مثل مَن سرق يسمى سارقًا، ومن عصى يُسمى عاصيًا، ومن أشرك يسمى مشركًا، وهذا الذي أفتى به الشيخ عبدالعزيز بن باز -واللجنة الدائمة- فقال رحمه الله {فالبيانُ وإقامةُ الحُجَّةِ، للإعذارِ إليه قَبْلَ إنزالِ العُقوبةِ به، لا لِيُسَمَّى كافرًا بعدَ البَيانِ، فإنه يُسَمَّى [أَيْ قَبْلَ البَيَانِ] كافرًا بما حَدَثَ منه مِن سُجودٍ لغيرِ اللهِ، أو نَذْرِه قُرْبةً أو ذَبْحِه شاةً لغيرِ اللهِ [قُلْتُ: تَجِدُ على هذا الرابط هذه الفَتْوَى أَصْدَرَتْها اللجنةُ الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وعبدالرزاق عفيفي وعبدالله بن قعود)]}، فهل بعد هذا البيان والوضوح بيان؟!، فمن أين لكم هذا الفهم، وهذا الكتاب والسنة وفَهْمُ سلف الأمة؛ ثالثًا، هل فهم الصحابة (رَضِيَ اللهُ عنهم) هذا الفهم الذي فهمتموه، وقالوا أن المتلبس بشرك لا يسمى مشركًا، وأن المتلبس بكفر لا يسمى كافرًا، ومن قال من الصحابة هذا القول؟! {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، فإن قالوا {عندنا دليل من القرآن يثبت ويدل على نفي الاسم عن من تلبس بشرك، ولا يسميه مشركًا، وهو قول الله تعالى في سورة الإسراء (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً)}، قلنا، هذا ليس فيه دليل على ما تدعيه، فأنت تدعي وتقول {إن المتلبس بشرك لا يسمى مشركًا}، والآية دليل على نفي العذاب والعقوبة ورفع المؤاخذة، قبل قيام الحجة الرسالية، أي قبل إنزال الكتب وإرسال الرسل، وهذا حق ونحن نقول به، فالآية دليل على نفي العقوبة لا نفي الاسم، لكن قبل إنزال القرآن وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا نسمى المتلبس بشرك؟!، ماذا نسميه وهو متلبس بشرك ظاهر؟!، نسميه مسلمًا أم نتوقف في عدم تسميته؟!، أم نخترع له اسمًا من عند أنفسنا ونترك ما سماه اللهُ به؟!، وقد مر معك أن أهل الفترة سماهم الله مشركين وأهل قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم سماهم مشركين، وأَبَوَيِ النبي صلى الله عليه وسلم سماهم مشركين، والذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سماهم مشركين، مع عدم قيام الحجة الرسالية عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فكيفَ بمن قامت عليه الحجة الرسالية والحجة الحكمية والقرآن يتلى عليه ليلًا ونهارًا، أيهما أولى بالعذر؟!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: وكَما يَكونُ المُتَشابِهُ في كلامِ اللهِ يَكونُ في كَلامِ العُلَماءِ مُتَشابِهٌ أيضًا [قالَ اِبنُ كَثِيرٍ في تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}: يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، أَيْ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدَّلَالَةِ، لَا الْتِبَاسَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رَدَّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى الْوَاضِحِ مِنْهُ، وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ، فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ... ثم قالَ -أَيِ اِبنُ كَثِيرٍ-: قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أَيْ [هُنَّ] أَصْلُهُ الَّذِي يَرْجِعُ [أَيْ كُلُّ مُتَشَابِهٍ] إِلَيْهِ عِنْدَ الاشْتِبَاه،ِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أَيْ تَحْتَمِلُ دَلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ الْمُحْكَمِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمُرَادِ... ثم قالَ -أَيِ اِبنُ كَثِيرٍ-: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ {(مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) فِيهِنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ، وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ}، قَالَ {وَالْمُتَشَابِهَاتُ فِي الصِّدْقِ، لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ -كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ- أَلَّا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَا يُحَرَّفْنَ عَنِ الْحَقِّ}... ثم قالَ -أَيِ اِبنُ كَثِيرٍ-: قَالَ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أَيْ [فِي قُلُوبِهِمْ] ضَلَالٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أَيْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَيُنْزِلُوهُ عَلَيْهَا، لِاحْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمَا يَصْرِفُونَهُ، فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهِ لِأنَّهُ دَامِغٌ لَهُمْ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. انتهى باختصار. وَقالَ اِبْنُ كَثِيرٍ أيضًا في (البداية والنهاية): وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَأْخُذُونَ بِالْمُحْكَمِ وَيَرُدُّونَ مَا تَشَابَهَ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. انتهى]، والأصلُ ألَّا نتعلق بِالمُتَشابِهِ مِنَ الآيات والأحاديث، والمُتَشابِهِ مِن كلام العلماء فضلًا من أن نجعله أصلًا من أصول الأحكام ونستدل بأقوال الرجال وننتصر لها ونقدمها على النصوص، ومن الخطأ أن نتنزل مع المخالف ونترك الاستدلال بالكتاب والسنة وفهم الصحابة ونتنزل مع المخالف إلى أقوال الرجال، فكلما أتى بقول عالم أتينا بقول آخر لعالم ضده، وهكذا، ولن تنتهي شبهات أهل الزيغ والضلال ويصير الرد من أقوال الرجال ونترك الوحيين الكتاب والسنة ونترك قول الصحابة وفهمهم إلى قول وفهم غيرهم... ثم قال -أي الشيخ الغليفي- بعد أن نقل أقوالا للشيوخ (محمد بن عبدالوهاب، وعبدالرحمن بن حسن، وسليمان بن سحمان، وعبدالله بن عبدالرّحمن أبو بُطَين "مُفْتِي الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ ت1282هـ"، وابن باز، وصالح الفوزان، وعبدالعزيز الراجحي، وصالح آل الشيخ "وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد"): ورُبَّما يَقولُ قائلٌ مِن أهل الزيغ الذِين يَتَّبِعون المُتَشابِهَ مِن كَلامِ أهلِ العِلْمِ {إنَّ هذه الفتاوى في أهل السعودية ولا تتنزل على واقعنا في مصر، لأن التوحيد منتشر هناك ويدرس في المدارس، أما في مصر والبلاد الإسلامية فالتوحيد غير منتشر بل الجهل وقلة العلم، وهؤلاء العلماء الأعلام لا يعرفون واقع مصر، وأهل مكة أدرى بشعابها}، فنقول لهذا القائل وأمثاله، لا يجوز لكم أن تقولوا هذا الكلام المتهافت وأنتم تنتسبون إلى العلم وأهله، فهلا وقرتم العلماء وعرفتم قدرهم؟!، إن قولكم هذا قدح للعلماء ورميهم بالجهل وعدم الدراية بالواقع ومناط الفتوى، وقد كان نائب الرئيس هو فضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي -رحمه الله- وهو مصري ومن جهابذة العلماء وأوعية العلم [قلتُ: كان نائبَ مفتي المملكة العربية السعودية، وعضوَ هيئة كبار العلماء، ونائبَ رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء]، فهل يجهلُ واقع مصر وحال أهلها؟!، وكثير من طلبة العلم يترددون على اللجنة الدائمة من كل البلاد الإسلامية ويعملون معها، فاتقوا الله أيها الإخوة في دينكم وفي علمائكم، ولا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فتهلكوا، وصاحب الحق وطالبه يكفيه دليل أما أهل الهوى والباطل فلا يكفيهم ألف دليل لأنهم أهل زيغ، ويكفي في ذلك ما كتبه العلماء وأهل العلم في هذه المسألة مثل الشيخ عبدالله السعدي الغامدي والشيخ ابن باز في كتاب عقيدة الموحدين [هذا الكتاب للشيخ عبدالله السعدي الغامدي، بتقديم الشيخ ابن باز]، والشيخ صالح الفوزان في كتاب عارض الجهل [هذا الكتاب للشيخ أبي العُلا بن راشد بن أبي العُلا، وقد راجَعَه وقَدَّمَ له وقَرَّظَه الشيخُ صالح الفوزان]، والشيخ صالح آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز الراجحي في كتاب أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر [هذا الكتاب للشيوخ صالح الفوزان، وعبدالعزيز الراجحي، وصالح آل الشيخ]، وما كتبه أَئِمَّةُ الدَّعوةِ [النَّجْدِيَّةِ السَّلَفِيةِ] في (الدُّرَر السَّنِيَّة [في الأجوبة النَّجْدِيَّة] وكتاب الفتاوى النجدية [يعني كتاب (فتاوى الأئمة النجدية حول قضايا الأمة المصيرية)])، وفتاوى اللجنة الدائمة [للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ]، هذه كتب أهل العلم بين أيديكم وفي وسعكم الإطلاع عليها والاتصال بالعلماء والسؤال والتعلم وتحقيق المسائل وخصوصًا مسائل العقيدة والتوحيد والإيمان والكفر التي لا تؤخذ إلا من أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: فهل من طالب علم يتقي الله، ويتجرد بصدق وإخلاص، وينصر الحق ويصدع به، فإن هذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة، على أن من قام به الشرك يسمى مشركًا، ومَن قامَ به الكُفْرُ يُسَمَّى كافِرًا، أَلَا يَعْلَمُ ذلك!، أَلَمْ يَدْرُسْه دراسةَ علمٍ وتحقيقِ؟، فمتى يهتم أهل التوحيد بدراسة التوحيد وتحقيق مسائله، ومراجعة كبار العلماء فيما أُشْكِلَ عليهم... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: الإمامُ حَمَدُ بن عَتِيقٍ (ت1301هـ) قال في (الدِّفاع عن أهلِ السُّنَّةِ والاتِّباعِ) {إذا تكلم بالكفر من غير إكراه كفر}، وقال [في (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك)] {فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يُقبل منه لأن الحكم بالظاهر، وهو قد أظهر الكفر فيكون كافرًا}، هل تجد أيها الموحد طالب الحق أصرح من ذلك، أن مَن قامَ به الكُفْرُ يُسَمَّى كافِرًا؟!، هل قال الشيخ أن فعله فعل كفر وهو لا يكفر؟!، هل قال ذلك يا أهل الإرجاء والضلال؟!، فالأحكام تجري على الظاهر، فمن ظهر منه إسلام حكمنا بإسلامه وقلنا إنه مسلم، ومن أظهر الشرك حكمنا بكفره وقلنا إنه مشرك... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: نقول لهؤلاء الذين يفرقون بين الفعل والفاعل، تعلَّموا التوحيدَ وتعلَّموا تعريفَه وحَدَّهُ، فإنكم تجهلون الشرك ولا تستطيعون أن تعرفوه، فتعلَّموا التوحيدَ أولًا فهو حق عليكم، ومن لم يعرف التوحيد ولا يعرف الشرك فكيف يدعو إلى شيء يجهله، وكيف يحذر الناس من شيء لا يعرفه، وإن عَرَفَ مُجْمَلَه جَهِلَ تفاصيلَه؟!، فهذا خطر عظيم كما قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في رسالة (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد)... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: سماحة الشيخ العلامة البحاثة بكر بن عبدالله أبو زيد -رحمه الله- قال [في (درء الفتنة عن أهل السنة)] بعد أن ضرب أمثلة لكفر الأقوال والأعمال {فكل هؤلاء قد كفَّرهم اللهُ ورسولُه بعد إيمانهم بأقوال وأعمال صدرت منهم ولو لم يعتقدوها بقلوبهم، لا كما يقول المرجئة المنحرفون، نعوذ بالله من ذلك}، يقول الشيخ {كفرهم الله ورسوله بأقوال وأعمال صدرت منهم} أي أن الذي كفرهم هو الله -سبحانه- وسماهم كفارًا، فإن التسمية ليست لنا، بل هي لله ورسوله، ولا يجوز أن نغير اسمًا ولا حكمًا من أحكام الله، فَاسْمٌ سَمَّاه اللهُ كفرًا وسَمَّى فاعلَه كافرًا لا يجوز لنا أن نُغَيِّرَه بأهوائنا ونقول هذه السخافات والأقوال الساذجة مِن {لا بد من إقامة الحجة عليه، ولا بد من أن الذي يقيم الحجة يكون معتبرًا عند من يقيمها عليه}، يا أَسَفَاهُ على دعاة التوحيد!، أيقول هذا رجل معه عقل ويعي ما يقول؟!، أتدرون معنى هذا القول السخيف الساذج؟!، ألا تستحون من أنفسكم؟!، من قال هذا من أهل العلم {أن الذي يقيم الحجة لا بد وأن يكون معتبرًا؟!}، الله أكبر، إِذَنْ لو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنزل الله لهم ملكًا أو جاءهم أبو بكر أو عمر، ولم يرضوا به ولم يكن معتبرًا عندهم، لم تقم عليهم الحجة!، لو جاءهم أحد من الصحابة أو التابعين أو ابن تيمية وابن عبدالوهاب وابن باز والفوزان، كل هؤلاء لم تقم بهم الحجة لأنهم غير معتبرين عند من يقيمون عليهم الحجة!، ثم أي حجة تقصدون، إن كانت الحجة الحدية التي هي الاستتابة فهذه للإمام والحاكم والعالم الذي يعرف ما به يكون الكفر والقتل واستحلال المال، وإن قلتم {الحجة الرسالية} فقد قامت بالقرآن وبالرسول، وإن قلتم {قامت ولكن لم يفهمها}، قلنا لكم، لا يُشتَرَطُ الفَهمُ في المَسائلِ الظاهِرةِ الجَلِيَّةِ [سُئلَ الشَّيخُ صالح الفوزان في (أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان والكفر): هل يشترط في إقامة الحجة فهم الحجة فهمًا واضِحًا جَلِيًّا، أم يكفي مُجَرَّدُ إقامَتِها؟. فأجاب الشيخ: إذا بَلَغَه الدليلُ مِنَ القرآنِ أو مِنَ السُّنَّةِ على وَجْهٍ يفهمه لو أرادَ، أَيْ بَلَغَه بِلُغَتِهِ، وعلى وَجْهٍ يفهمه، ثم لم يَلتَفِتْ إليه ولم يَعمَلْ به، فهذا لا يُعذر بالجهل لأنه مُفَرِّطٌ [قالَ الشنقيطي في (أضواء البيان): وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لِلتَّقْلِيدِ الأعْمَى اِضْطِرَارًا حَقِيقِيًّا، بِحَيْثُ يَكُونُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ عَلَى غَيْرِهِ [أيْ عَلَى غَيْرِ التَّقلِيدِ] مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ لِكَوْنِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْفَهْمِ، أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْفَهْمِ وَقَدْ عَاقَتْهُ عَوَائِقُ قَاهِرَةٌ عَنِ التَّعَلُّمِ، أَوْ هُوَ فِي أَثْنَاءِ التَّعَلُّمِ وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّمُ تَدْرِيجًا لِأنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَجِدْ كُفْئًا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ لِلضَّرُورَةِ لِأنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنْهُ؛ أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى التَّعَلُّمِ الْمُفَرِّطُ فِيهِ، وَالْمُقَدِّمُ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنَ الْوَحْيِ، فَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْذُورٍ. انتهى]. انتهى. وقالَ الشيخُ فيصلٌ الجاسمُ (الإمامُ بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت) في هذا الرابط على موقعه: والمراد بالفهم غير المشترط هنا [هو] الفهم بأن الحجة قاطعة لشبهته، وأنها حقٌّ في نفسها، أما الفهم بمعنى معرفة مراد المتكلم ومفهوم ومقصود الخطاب فهذا لا خلاف في اشتراطه. انتهى. وقالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين (عُضوُ هَيْئةِ كِبارِ العُلَماءِ) في تَفْسِيرِه: يُقالُ {كَيْفَ كانَ القُرآنُ وهو عَرَبِيٌّ بَيَانًا لِلنَّاسِ كُلِّهم وفِيهم العَجَمُ الذِين لا يَعرِفون لُغةَ العَرَبِ؟}؛ نَقولُ، لِأنَّ هؤلاء سَيُقَيِّضُ لهم مَن يُبَلِّغُهم إيَّاه، ولِهذا كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ المُسلِمِين الآنَ الذِين لهم قَدَمُ صِدقٍ في العِلْمِ والدِّين، كَثِيرٌ مِنهم عَجَمٌ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: فالحاصِلُ، إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، العَجَمُ بَلَغَهم القُرآنُ بِواسِطةٍ، ما هو لازِمٌ أنَّهم يَأخُذون مِنَ القُرآنِ نَفسِه. انتهى] ولَكِنْ يُشتَرَطُ في المَسائلِ الخَفِيَّةِ، كَما قالَ العُلَماءُ، فالتوحيد وصرف العبادة لغير الله من ذبح وطواف ودعاء ونذر واستغاثة، كلها أمور جلية وليست خفية ولا يَسَعُ أحَدًا يَدَّعِي الإسلامَ ويعيشُ بين المسلمِين الجَهلُ بالتوحيدِ والمسائلِ الجليَّةِ منه، فهل تشترطون الفَهْمَ في التوحيد والمسائل الجليَّةِ والقرآن يُتلَى ليلًا ونهارًا، ودعاة التوحيد في كل مكان ويبلغونه بكل وسيلة، فإن قلتم {إن كل الدعاة غير معتبرين، ولا بُدَّ أنْ يَقْبَلَهم ويَرْضَى عنهم حتى تُقامَ الحجةُ} [قال الشيخُ فيصل الجاسم في هذا الرابط على موقعه: بل بالَغَ بعضُهم وظَنَّ أن الحجة لا تقوم إلَّا مِمَّن يَعرِفُه المُخاطَبُ ويَثِقُ به، وهذا جَهلٌ وضلالةٌ، فقد كانَ النبيُّ يبعث الرُّسُلَ إلى كسرى وقيصر فَتَقومُ بِهم الحُجَّةُ، مع كَونِ العَرَبِ كانوا مُستَحقَرِين عند فارس والروم وغَيرِهم مِنَ الأُمَمِ آنَذَاكَ. انتهى]، قُلْنا، يَكفِي فيها البلوغُ والسماعُ رَضِيَ أو لم يَرْضَ، لأنَّ هذا شرطٌ لا يَنضَبِطُ، ولم يَقُلْه أحَدٌ مِن أهلِ العلمِ الْبَتَّةَ، بل لو جاء طفلٌ يَتَكَلَّمُ في السابعة أو العاشرة من عمره، وقال لِرَجُلٍ لا يُصَلِّي أو يَذبَحُ لغيرِ اللهِ أن هذا كفرٌ وشركٌ وهذا مِمَّا حرَّمه الله وكَتَبَ على مَن ماتَ عليه الخلودَ في النار وذَكَرَ له الأدلةَ من القرآن والسنة وفَهْمِ الصحابةِ وعلماءِ الأمةِ بلُغَةٍ يفهمها فقد قامت على المخالف الحجة، وإن قلتم {إن هذا غير معتبر عند المخالف}، قلنا، ومن يكون معتبرًا في نظركم، أليس العلم هو معرفة الحق بدليله؟!، أم أن الذي يقيم الحجة لا بد وأن تتوفر فيه شروط معينة اشترطها أهل الإرجاء والضلال؟!، بل أقام اللهُ الحجةَ بالرسل وبالكتب وبلغت الكفار ولكن لم يفهموها وحكم الله بكفرهم وضلالهم، هذا الشرط [الذي تشترطونه] لا لينضبط أبدًا، لأنه شرط باطل، فكلما أتى رجل من أهل العلم يقيم الحجة الرسالية والبلاغ على أحد، قال له {أنت غير معتبر عندي ولا أقبل كلامك، فأنا على ما أنا عليه حتى يأتيَ رجلٌ أعتبره وأرتضيه وأقبله حتى يقيمَ عَلَيَّ الحجةَ، فقد وجدتُ الآباءَ والأجدادَ على هذا الدين ولن أتركه لقولك، وأنا في كل ذلك معذور لأنني لم تقم على الحجة ولم أجد من يكون معتبرًا عندي}، أيقول ذلك عاقل، فضلًا عن مسلم أو طالب علم يتصدر المجالس ويفتى الناس، إن هذا الهراء فيه رد لأمر الله ورسوله، إذ جعل السماع وبلوغ الرسالة والقرآن حجة، فالحجة قامت بإرسال الرسول والسماع به وبالقرآن، فمن بلغه القرآن وسمع بالرسول فقد قامت عليه الحجة الرسالية وإن لم يفهمها، لأن اشتراط الفهم لا يكون إلا في المسائل الخفية... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: فهل يحق لهم بعد كل هذه الأدلة أن يتوقفوا في المشرك الذي ظهر منه الشرك الأكبر؟!، هل يجوز لهم بعد ذلك أن يتهموا أهل السنة أنهم من أهل الغلو؟!، هل الذي يقول {إن كل مَن قامَ به الشِّركُ يُسَمَّى مُشرِكًا وكل مَن قامَ به الكُفْرُ يُسَمَّى كافِرًا} من أهل الغلو؟!، هل كل من يقول بكفر الحاكم المُبَدِّلِ لشرع الله الصَّادِّ عن سبيل الله المحارِبِ لأولياء الله، من الخوارج وأهل الغلو؟!، إن قلتم علينا ذلك، فعليكم أن تقولوا ذلك أيضًا على الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام من السلف ومن تبعهم إلى يوم الدين فَهُمْ على هذا القولِ... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب علماء السنة، ومراجعة أهل العلم فيما أشكل عليه، مثل اللجنة الدائمة [للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ] وهيئة كبار العلماء، الذين هم أفهم وأعلم بنصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة منا، وخصوصًا أَئِمَّةَ الدَّعوةِ [النَّجْدِيَّةِ السَّلَفِيةِ] الذين عايَشوا هذه المسائلَ وحَقَّقوها وحَرَّروا مَناطَها [قالَ الشيخُ خبَّاب بن مروان الحمد (المراقب الشرعي على البرامج الإعلامية في قناة المجد الفضائية) في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (الفَرقُ بَيْنَ تَخرِيجِ المَناطِ وتَنقِيحِ المَناطِ وتَحقِيقِ المَناطِ) على هذا الرابط: المَناطُ هو الوَصفُ الذي يُناطُ به الحُكْمُ ومِن مَعانِيه (العِلَّةُ)، ومِنَ المَعروفِ أنَّ الحُكمَ يَدورُ مع عِلَّتِه وُجودًا وعَدَمًا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخِ عبدالرزاق عفيفي (نائبِ مفتي المملكة العربية السعودية، وعضوِ هيئة كبار العلماء، ونائبِ رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في تَعلِيقِه على (الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي الْمُتَوَفَّى عامَ 631هـ): مَنَاطُ الْحُكْمِ يَكُونُ عِلَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، [وَ]يَكُونُ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا [قُلْتُ: وهذا يَعنِي أنَّ (المَناطَ) أعَمُّ مِنَ (العِلَّةِ)]. انتهى باختصار. وجاءَ في مجلة البحوث الإسلامية التابعة للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في هذا الرابط: إنَّ (تَنقِيحَ المَناطِ) هو اِجتِهادُ المُجتَهِدِ في تَعرِيفِ الأوصافِ المُختَلِفةِ لِمَحَلِّ الحُكمِ، لِتَحدِيدِ ما يَصلُحُ منها مَناطًا لِلْحُكمِ، واستِبعادِ ما عَداه بَعْدَ أنْ يَكونَ قد عَلِمَ مَناطَ الحُكمِ على الجُملةِ [قالَ الشيخُ خبَّاب بن مروان الحمد في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (الفَرقُ بَيْنَ تَخرِيجِ المَناطِ وتَنقِيحِ المَناطِ وتَحقِيقِ المَناطِ) على هذا الرابط: تَنقِيحُ المَناطِ [هو] وُجودُ أوصافٍ لا يُمكِنُ تَعلِيلُ الحُكمِ بِها لِأنَّها أوصافٌ غَيرُ مُؤَثِّرةٍ، واستِبقاءُ الوَصفِ المُؤَثِّرِ لِتَعلِيلِ الحُكمِ، وذلك تَخلِيصًا لِمَناطِ الحُكمِ مِمَّا ليس بِمَناطٍ له. انتهى]؛ وأمَّا (تَحقِيقُ المَناطِ) فَهو إقامةُ الدَّلِيلِ على أنَّ عِلَّةَ الأصلِ [الْمَقِيسِ عَلَيْهِ] مَوجودةٌ في الفَرعِ [الْمَقِيسِ]، سَواءٌ كانَتِ العِلَّةُ في الأصْلِ مَنصوصةً أو مُستَنبَطةً؛ وأمَّا (تَخرِيجُ المَناطِ) فَهو اِستِخراجُ عِلَّةٍ مُعَيَّنةٍ لِلْحُكمِ [قالَ الشيخُ خبَّاب بن مروان الحمد في مَقالةٍ له بِعُنوانِ (الفَرقُ بَيْنَ تَخرِيجِ المَناطِ وتَنقِيحِ المَناطِ وتَحقِيقِ المَناطِ) على هذا الرابط: تَخرِيجُ المَناطِ [هو] وُجودُ حُكمٍ شَرعِيٍّ مَنصوصٍ عليه، دُونَ بَيَانِ العِلَّةِ منه، فَيُحاوِلُ طالِبُ العِلْمِ الاجتِهادَ في التَّعَرُّفِ على عِلَّةِ الحُكمِ الشَّرعِيِّ واستِخراجَه لها. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ أبو بكر القحطاني في (شَرحُ قاعِدةِ "مَن لم يُكَفِّرِ الكافِرَ"): هناك آلِيَّةٌ وَضَعَها الأُصولِيُّون، وهي مَوضوعٌ مَعروفٌ، وهي قَضِيَّةُ تَخرِيجِ المَناطِ، يَعْنِي أنَا أُظهِرُ هذه المَناطاتِ وأُخرِجُها، ثم أُنَقِّحُها (وهو [ما] يُسَمَّى "تَنقِيحُ المَناطِ"، أيْ آخُذُ المَناطَ الصالِحَ وأُبْعِدُ ما يَشوبُها مِنَ المَناطاتِ غَيرِ الصالِحةِ)، ثم بَعْدَ ذلك أُحَقِّقُه [أيِ المَناطَ] وبِالتالِي أُرَتِّبُ الحُكمَ عليه؛ يُسَمِّيه [أيْ يُسَمِّي هذا المَوضوعَ] بَعضُ العُلَماءِ (السَّبْرُ والتَّقسِيمُ) لاستِخراجِ المَناطِ وبِناءِ الحُكمِ عليه. انتهى] وفَصَّلوا فيها وأفرَدوها بِالتصنيفِ والرَّدِّ على أهل الأهواء والبدعِ. انتهى باختصار.

 

 

تَمَّ الجُزءُ الثالِثُ بِحَمدِ اللَّهِ وَتَوفِيقِهِ

الفَقِيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ

أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِي

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

تابع الشيخ أبا سلمان الصومالي على:
فيسبوك
تويتر
يوتيوب
tgstat

 

 

 

 

Free Web Hosting