حِوَارٌ حَوْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ

(النُّسخةُ 1.76 - الجُزءُ الثانِي)

 

جَمعُ وتَرتِيبُ

أَبِي ذَرٍّ التَّوحِيدِيِّ

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

 

حُقوقُ النَّشرِ والبَيعِ مَكفولةٌ لِكُلِّ أحَدٍ

 

اِنتَقِلْ إلى المُقَدِّمةِ أو إلى الجُزءِ:

 

 

المسألة السابعة والعشرون

 

زيد: مَن هُمُ القُبُورِيُّون؟.

 

عمرو: جاءَ في كتابِ (الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة) للشيخَين ناصر القفاري (رئيس قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة القصيم) وناصر العقل (رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض): المَقَابِرِيُّون -أو القُبُورِيُّون- هُمْ أولئك الذِين يُعظِّمون القُبورَ والأَضْرِحةَ، ويَبْنُون عليها القِبابَ، ويتَّخِذونها مَساجِدَ وأَعيَادًا، ويَذبَحون عندها النُّذُورَ وَالْقَرَابِينِ، ويَتَمسَّحون بها، زَعْمًا منهم أنَّ المَوتَى يَنْفَعونهم أو يَضُرُّون، فيَدْعُونهم ويَرْجُونهم مع اللهِ، ويَزعُمون أنَّ لهم قُدرةً على تَصرِيفِ الأقدارِ ومَقالِيدِ الكَوْنِ، وهذا شِركٌ وضلالٌ مُبِينٌ، فالقُبُورِيَّةُ مِنَ البِدَعِ الشِّركِيَّةِ التي تُرَوِّجُها الطُّرُقُ الصُّوفِيَّةُ، وأَوَّلُ مَن ابْتَدَعَها ونَشَرَها الرَّافِضةُ وفِرَقُهم كالفاطِمِيِّين والْقَرَامِطَةِ. انتهى.

 

ويقولُ الشيخُ عبدُالرحيم السلمي (عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة بجامعة أم القرى) في (شرح كتاب التوحيد): والقُبُورِيُّون هُمُ الذِين يَعبُدون القُبورَ ويَعكُفُون عندها ويُعَظِّمونها ويَغْلُون فيها، وقد بَدَأَتِ القُبُورِيَّةُ في تاريخِ الإنسانِيَّةِ منذ بِدايَةِ الشِّركِ، بَلْ إنَّ أَوَّلَ شِرْكٍ وقَعَ في حَيَاةِ الإنسانِيَّةِ كان بسببِ الغُلُوِّ في الصالحِين وتَعظِيمِ آثارِهم والعُكُوفِ على قُبورِهم، وهكذا اسْتَمَرَّ الشِّركُ في الإنسانِيَّةِ، وفي التاريخِ البَشَرِيِّ، وكان أبْرَزُ نَوعٍ مِن أنواعِ الشِّركِ في حَيَاةِ الناسِ هو التَّعَبُّدُ لأصحابِ القُبورِ. انتهى.

 

ويقولُ الشيخُ ناصر العقل (رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) في (شرحِ بابِ توحيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مِن فتاوى ابنِ تيميةَ): لا يُمكِنُ أنْ يكونَ هناك رافِضِيٌّ بلا تَصَوُّفٍ بمعناه المَنْهَجِيِّ، بمَعْنَى ما مِن رافِضِيٌّ إِلَّا وهو مِنَ القُبُورِيِّين، وليس هناك رافِضِيٌّ ليس مِن عُبَّادِ المَشاهدِ، وليس هناك رافِضِيٌّ ليس عنده بِدَعٌ في الأَوْرادِ، لا يُمْكِنُ إلَّا في النادِرِ، والنادِرُ لا حُكْمَ له. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ ابنُ جبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء) في (شرح اعتقاد أَهْلِ السُّنَّةِ): أهلُ التوحيدِ الذِين يستقبلون القِبْلةَ ويَتَوَجَّهون إليها ويَعتَرِفون بقِبْلةِ المسلمِين، وكُلُّ مَن كان مِنَ الأُمَّةِ المحمديةِ الذِين استجابوا للهِ تعالَى ولرسولِه يُسَمَّوْنَ أَهْلَ القِبْلةِ، أَيْ أنَّهم في صلاتِهم وذبائحِهم يَستقبِلون القِبْلةَ [قالَ الشيخُ ابنُ باز على موقعِه في هذا الرابط: فلو ذَبَحَ إلى غيرِ القِبْلةِ أَجْزَأَ ذلك وصَحَّ، لكِنَّ استقبالَه بالذَّبِيحةِ القِبْلةَ يكونُ أَفْضَلَ]، وأنَّهم يَحِنِّون إلى القِبْلةِ ويذهبون إليها حُجَّاجًا وعُمَّارًا، فلذلك يُسَمَّوْنَ أَهْلَ القِبْلةِ، فَهُمْ يؤمنون باللهِ تعالَى إلهًا ورَبًّا وخالِقًا، ويَعبُدونه ولا يَعبُدون غيرَه، ولا يَصْرِفُون شيئًا مِن عِبَادتِه ولا مِن حَقِّه لمَخلوقٍ سِوَاه، فَهُمْ أهْلُ التوحيدِ، يقولون {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ويَعمَلون بها، فلا يَدْخُلُ في ذلك الذِين يَعبُدون القُبورَ -ويُسَمَّوْنَ القُبُورِيِّين- فإنَّهم ليسوا مِن أهْلِ التوحيدِ، لِأنَّهم شابَهوا قَوْمَ نُوحٍ الذِين عَبَدوا وَدًّا وسُوَاعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا، وشابَهوا قَوْمَ إبراهيمَ الذِين كانوا يَعبُدون التَّماثِيلَ ويَعْكُفون لها، وكذلك [لا يَدْخُلُ في أَهْلِ القِبْلةِ وأَهْلِ التوحيدِ] الذِين يَعبُدون الأشْجارَ والأحْجارَ، يَتَبَرَّكون بهذه الشَّجَرةِ ويَعتقِدون فيها، أو يَتَبَرَّكون بهذا الغارِ أو بهذه الصَّخْرةِ أو القُبَّةِ أو العَيْنِ أو ما أَشْبَهَ ذلك، ويَعتقِدون أنَّها تَنْفَعُ وتَشْفَعُ وتَدْفَعُ وتُفِيدُهم، فَلِأجْلِ ذلك يَتَمَسَّحون بها ويَعْكُفون عندها ويَأخذون تُرْبَتَها، وربَّما أيضًا دَعَوْهَا كدُعاءِ المُشرِكِين الْعُزَّى، يا عُزَّى يا عُزَّى، فمِثْلُ هؤلاء ليسوا مِن أهْلِ القِبْلةِ ولو صَلُّوا وصاموا، وليسوا مِن أهْلِ التوحيدِ. انتهى.

 

زيد: ما الفَرْقُ بَيْنَ التَّوَسُّلِ البِدْعِيِّ والتَّوَسُّلِ الشِّرْكِيِّ؟.

 

عمرو: قالَ الشيخُ بدرُ بنُ علي بن طامي العتيبي في مَقالةٍ له على هذا الرابط: لِيُعْلَمْ أنَّ التَّوَسُّلَ هو التَّوَسُّطُ في الدُّعاءِ، وعليه فأركانُه ثَلاثةٌ، مُتَوَسِّلٌ وَمُتَوَسَّلٌ به وَمُتَوَسَّلٌ إليه، فَإنْ نَقَصَ منها رُكْنٌ فلا يُعَدُّ مِنَ التَّوَسُّلِ ولا مِن مَعناه؛ والمُتَوَسَّلُ إليه في كُلِّ حالٍ هو اللهُ تعالى، فَمِن عِندهِ تُقْضَى الحاجاتُ وتُلَبَّى الرَّغَباتُ؛ والمُتَوَسِّلُ هو الدَّاعِي؛ ويَبْقَى المُتَوَسَّلُ به، [وَ]هُوَ وَسِيلةُ الدُّعاءِ، وهو على قِسْمَين، (1)مَشروعٌ، (2)غَيْرُ مَشروعٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العتيبي-: أَمَّا المُتَوَسَّلُ به المَشروعُ، فَصُّوَرُه عِدَّةٌ ومنها؛ التَّوَسُّلُ إلى الله تعالى بأسمائِه وصِفاتِه، كقولِ {يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ برَحْمَتِك أستغيثُ}، فالمُتَوَسِّلُ هو الداعِي، والوسيلةُ [المُتَوَسَّلُ به] هي تَعظِيمُ اللهِ بِاسْمِ الحِّيِّ والقَيُّومِ، وبِصِفةِ الحَيَاةِ والقَيُّومِيَّةِ [قالَ الشيخُ المهتدي بالله الإبراهيمي في (توفيق اللطيف المنان): فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ، وهو أَمْرٌ مَعلومٌ بِضَرورةِ العَقلِ، حَيثُ أنَّ تَدبِيرَ الكَونِ واستِمرارِيَّتَه لا تَصدُرُ إلَّا مِن فاعِلٍ، والفاعِلُ لا يَكونُ إلَّا حَيًّا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الإبراهيمي-: حَيَاةُ اللهِ ليس لَها نِهايَةٌ ولا بِدايَةٌ فَلا يُقابِلُها مَوتٌ ولا عَدَمٌ لِأنَّه سُبحانَه أَوَّلٌ بِلا اِبتِداءٍ وآخِرٌ بِلا اِنتِهاءٍ. انتهى]، والمُتَوَسَّلُ إليه هو الله تعالى، فهو المُغِيثُ وَحْدَه سبحانه دُونَ ما سِوَاه؛ ومِن صُوَرِ التَّوَسُّلِ [المَشروعِ]، التَّوَسُّلُ بِالإيمانِ بِاللهِ والإيمانِ بِرَسولِه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}؛ ومِن صُوَرِ التَّوَسُّلِ [المَشروعِ]، التَّوَسُّلُ بِالأعمالِ الصالِحةِ الظاهِرةِ والباطِنةِ، كما في قِصَّةِ الذِين اِنطَبقَتْ عليهم الصَّخْرَةُ في الغارِ [يَعْنِي القِصَّةَ الوارِدةَ في الحَدِيثِ المَعروفِ بِاسْمِ (حَدِيثُ الغارِ)] فَتَوَسَّلُوا إلى اللهِ تعالى بِصالحِ أعمالِهم وخالِصِها؛ ومِن صُوَرِ التَّوَسُّلِ [المَشروعِ]، التَّوَسُّلُ بِدُعاءِ الصالِحِين الأحيَاءِ [يَعنِي الأحيَاءَ الحاضِرِين لا الأحيَاءَ الغائِبِين]، كما ثَبَتَ مِن أكثرِ مِن وَجْهٍ عن عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنه أنَّه قالَ في الاسْتِسْقاءِ {اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، ثم أَمَرَ العَبَّاسَ بأن يَقُومَ ويَدْعُوَ اللهَ تَعالَى [الشاهِدُ هنا هو أَمْرُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه لِلعَبَّاسِ بِأنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعالَى]، وفي ذلك أنَّه [أَيْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه] تَوَسَّلَ إلى اللهِ تعالى بِدُعاءِ العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولا يَجُوزُ أنْ يُطْلَبَ ذلك مِنَ المَيِّتِ [قُلْتُ: بَلْ إنَّ طَلَبَ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ -أَوْ مِنَ الحَيِّ الغائِبِ- شِرْكٌ أَكْبَرُ، وسَيَأْتِي بَيَانُ ذلك مِن كَلامِ أهْلِ العِلْمِ]، ولو جازَ لَمَا كانَ يَلِيقُ بِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وفِقْهِه ومَحَبَّتِه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقَدِّمَ دُعاءَ العَبَّاسِ على دُعاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك تَوَسَّلَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ [في الاسْتِسْقاءِ] بِدُعاءِ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ [وهو مِنَ التَّابِعِين]؛ فَهذه كُلُّها صُوَرُ التَّوَسُّلِ المَشروعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العتيبي-: أَمَّا التَّوَسُّلُ المَمنوعُ وغَيْرُ المَشروعِ، فَهو التَّوَسُّلُ بِجَاهِ أو بِحَقِّ أو بِذَاتِ الأنبياءِ والصالِحِين، كقولِ القائلِ {اللَّهُمَّ إِنِّي أسألُك بِجَاهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم} أو {بِحَقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم} أو {بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم}، وهنا جَعَلَ الداعِي الوسيلةَ حَقَّ أو جَاهَ أو ذَاتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا النَّوْعُ مِنَ التَّوَسُّلِ بِدْعَةٌ لا تَجُوزُ، لِأنَّ هذا لم يَرِدْ به حَدِيثٌ صحيحٌ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يَفْعَلْه الصحابةُ رضي الله عنهم، فالتَّوَسُّلُ بِحَقِّ المَخلوقِ وجَاهِهِ وذاتِهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ [وهو وَسِيلةٌ إلى الشِّركِ، وسَيَأْتِي بَيَانُ ذلك مِن كَلامِ أهْلِ العِلْمِ]، ولم يَقُلْ أَحَدٌ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ بِأنَّه شِرْكٌ أَكْبَرُ، هذا إذا كانَتِ البَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَمَّا إنْ كانَتِ البَاءُ لِلقَسَمِ فَإنَّ هذا مِنَ الشِّركِ مِن وَجْهٍ آخَرَ وهو الحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعالَى، [فَ]الحَلِفُ بِغَيرِ اللهِ تَعالَى مِنَ الشِّركِ بِلا خِلَافٍ، فَقَدْ سَمَّاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شِرْكًا، ولا يَجُوزُ لِأحَدٍ مِنَ العالَمِين أنْ يُخْرِجَه مِن مُسَمَّى الشِّركِ، ولَكِنْ هَلْ هو مِنَ الشِّركِ المُخْرِجِ مِنَ المِلَّةِ أَمْ لا؟، البَحْثُ والتَّفصِيلُ فيه مَشهورٌ [قالَ الشيخُ سليمانُ بنُ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ت1233هـ) في (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد): قَولُه {فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ} [يُشِيرُ إلى قَولِه صلى الله عليه وسلم {مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ}] أخَذَ به [أَيْ بِظاهِره] طائفةٌ مِنَ العُلَماءِ فَقالوا {يَكفُرُ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ كُفْرَ شِرْكٍ}، قالوا {ولِهذا أَمَرَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَجدِيدِ إسلامِه بِقَولِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، فَلَولا أنَّه كُفْرٌ يَنْقُلُ عنِ المِلَّةِ لم يُؤْمَرْ بِذلك}. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في (قواعِدُ في التَّكفِيرِ): فإذا أطلَقَ الشارِعُ على فِعلٍ مُعَيَّنٍ حُكْمَ الكُفرِ، فالأصلُ أنْ يُحمَلَ هذا الكُفرُ على ظاهِرِه ومَدلولاتِه الشَّرعِيَّةِ، وهو الكٌفرُ الأكبَرُ المُناقِضُ لِلإيمانِ الذي يُخرِجُ صاحِبَه مِنَ المِلَّةِ ويُوجِبُ لِصاحِبِه الخُلودَ في نارِ جَهَنَّمَ، ولا يَجوزُ صَرفُ هذا الكُفرِ عن ظاهِرِه ومَدلولِه هذا إلى كُفرِ النِّعمةِ -أو الكُفرِ الأصغَرِ- الرَّدِيفِ لِلمَعصِيَةِ (أَوِ الذَّنبِ الذي لا يَسْتَوْجِبُ الخُلودَ في نارِ جَهَنَّمَ) إلَّا بِدلِيلٍ شَرعِيٍّ آخَرَ يُفِيدُ هذا الصَّرفَ والتَّأْوِيلَ، فَإذا اِنعَدَمَ الدَّلِيلُ أَوِ القَرِينةُ الشَّرعِيَّةُ الصارِفةُ تَعَيَّنَ الوُقوفُ على الحُكْمِ بِمَدلولِه ومَعناه الأَوَّلِ ولا بُدَّ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الفصل الأول من أجوبة اللقاء المفتوح): إنَّ الكُفرَ إذا وَرَدَ مُجَرَّدا عنِ القَرائنِ فَإنَّما يَقَعُ على الكُفرِ الأكبَرِ، ثم إنَّه قد يَقَعُ على كُفرِ النِّعمةِ ويَفتَقِرُ إلى قَرِينةٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (القَولُ الصائبُ في قِصَّةِ حاطِبٍ): إنَّ الكُفرَ والنِّفاقَ والشِّركَ إذا وَرَدَ مُجَرَّدا عنِ القَرائنِ إنَّما يُحمَلُ على المُنافِي لِلإيمانِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (الفتاوي الشرعية عن الأسئلة الجيبوتية): حَيثُمَا وَقَعَ في حَدِيثٍ أو آيَةٍ {مَن فَعَلَ كَذا فَقَدْ كَفَرَ (أو أشرَكَ)} يُحمَلُ على الكُفرِ الأكبَرِ إلَّا بِصارِفٍ يُوجِبُ الحَمْلَ على الأصغَرِ، فالأصلُ في الكُفرِ المُجَرَّدِ عنِ القَرائنِ أنَّه الكُفرُ الأكبَرُ؛ قالَ الإمامُ العَلَّامةُ أحمَدُ بْنُ إبراهيمَ الثَّقفيُّ (ت708هـ) [في (ملاك التأويل)] {الكُفرُ إذا وَرَدَ مُجَرَّدًا عنِ القَرائنِ، إنَّما يَقَعُ على الكُفرِ في الدِّينِ، ثم إنَّه قد يَقَعُ على كُفرِ النِّعمةِ ويَفتَقِرُ إلى قَرِينةٍ}؛ ويَقولُ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحمِه اللهُ [في (شَرْحُ عُمْدَةِ الفِقْهِ)] {الكُفْرُ المُطلَقُ لا يَجوزُ أنْ يُرادَ به إلَّا الكُفْرُ الذي هو خِلافُ الإيمانِ، لِأنَّ هذا هو المَعْنَى الشَّرعِيُّ}، ويَقولُ [أيِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا [في (شَرْحُ عُمْدَةِ الفِقْهِ)] {إنَّ الكُفرَ المُطلَقَ هو الكُفْرُ الأعظَمُ المُخرِجُ عنِ المِلَّةِ، فَيَنصَرِفُ الإطلاقُ إليه}؛ وقالَ أبو حيَّان الأندلسي [في (البحر المحيط) في تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}] {إنَّ الكُفرَ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدِّينِ}؛ وقالَ العَلَّامةُ العيني (ت855هـ) [في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري)] {إنَّ عُرْفَ الشَّارِعِ يَقْتَضِي أَنَّ لَفْظَةَ الشِّرْكِ عِنْدَ الإطْلَاقِ تُحْمَلُ عَلَى مُقَابِلِ التَّوْحِيدِ}؛ وقالَ القاضِي شَمسُ الدِّينِ الهَرَوِيُّ (ت829هـ) [في (فضل المنعم في شرح مسلم)] {إذا أُطْلِقَ الكُفْرُ في لِسانِ الشَّرعِ يَتَبَادَرُ إلى الفَهمِ الكُفْرُ بِاللَّهِ، وصارَ هذا -لِقُوَّتِه وأصالَتِه- كَأَنَّه حَقِيقَتُه، ويَصرَفُ إلى الباقِي بِالقَرائنِ}؛ وقالَ العَلَّامةُ الصَّنْعَانِيُّ (ت1182هـ) في الكُفرِ والشِّركِ [في (منحة الغفار حاشية ضوء النهار)] {الأصلُ في إطلاقِهما الكُفْرُ الحَقِيقِيُّ}. انتهى باختصار. وجاءَ في المَوسوعةِ العَقَدِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): الأَصْلُ أنْ تُحمَلَ ألفاظُ الكُفرِ والشِّركِ الوارِدةُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ على حَقِيقَتِها المُطلَقةِ، ومُسَمَّاها المُطلَقِ، وذلك كَوْنُها مُخرِجةً مِنَ المِلَّةِ، حتى يَجِيءَ ما يَمْنَعُ ذلك ويَقتَضِي الحَمْلَ على الكُفرِ الأصغَرِ والشِّركِ الأصغَرِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في (التنبيهات المختصرة على المسائل المنتشرة): فالعَمَلُ مِنَ الإيمانِ ورُكْنُ فيه [قالَ الشيخُ فالح الحربي (المُدَرِّسُ بِالجامِعةِ الإسلامِيَّةِ) في (البرهان على صواب الشيخ عبدالله الغديان، وخطأ الحلبي، في مسائل الإيمان): قالَ الشيخُ صالح آل الشيخ في (شرح العقيدة الواسطية) {الأدِلَّةُ دَلَّتْ على أنَّ العَمَلَ رُكنٌ في الإيمانِ}. انتهى]؛ ومِنَ الأعمالِ ما هو مِن أَصْلِ الدِّين، يَزُولُ أَصْلُ الإيمانِ بزَوَالِه وتَخَلُّفِه؛ ومنها ما هو مِنَ الإيمانِ الواجبِ، لا يَزُولُ أَصْلُ الإيمانِ بزَوَالِه؛ ومنها ما هو مِنَ الإيمانِ المُستَحَبِّ [قُلْتُ: مَن حَقَّقَ الإيمانَ الواجِبَ فَقَدْ حَقَّقَ الكَمالَ الواجِبَ، ومَن حَقَّقَ الإيمانَ المُستَحَبَّ فَقَدْ حَقَّقَ الكَمالَ المُستَحَبَّ]؛ وهذا هو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، أَصْلُ الإيمانِ يُقابِلُ الإسلامَ [يَعنِي الإسلامَ الحَقِيقِيَّ لا الحُكْمِيَّ] يُقابِلُ الظالِمَ لِنَفْسِه، والإيمانُ الواجبُ يُقابِلُ الإيمانَ يُقابِلُ المُقتَصِدَ، والإيمانُ المُستَحَبُّ يُقابِلُ الإحسانَ يُقابِلُ السابِقَ بالخَيْراتِ، ولا يَزُولُ الإيمانُ بالكُلِّيَّةِ ويَخْرُجُ [أَيِ العَبْدُ] مِنَ الإسلامِ إلَّا بارتكابِ ناقِضٍ يَزُولُ به أَصْلُ الإيمانِ... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: ضابِطُ الكُفرِ الأصغَرِ، هو كُلُّ ذَنبٍ سَمَّاه الشارِعُ كُفرًا مع ثُبوتِ إسلامِ فاعِلِه بِالنَّصِّ أو بِالإجماعِ... ثم قال -أي الشيخ الغليفي-: الأصلُ أنْ تُحمَلَ ألفاظُ الكُفرِ والشِّركِ الوارِدة في الكِتابِ والسُّنَّةِ على حَقِيقَتِها المُطلَقةِ ومُسَمَّاها المُطلَقِ، وذلك كَوْنُها مُخرِجةً مِنَ المِلَّةِ، حتى يَجِيءَ ما يَمْنَعُ ذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغليفي-: الأصلُ في نَفيِ الإيمانِ- في النُّصوصِ- أنَّه على مَراتِبَ، أَوَّلُها نَفيُ الصِّحَّةِ، فَإنْ مَنَعَ مانِعٌ فَنَفيُ الكَمَالِ الواجِبِ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العتيبي-: الاستِغاثةُ لها رُكْنَان، المُستَغِيثُ وَالمُستُغاثُ به، ولا رُكْنَ ثالِثَ لها، وأمَّا التَّوَسُّلُ فأركانُه ثَلاثَةٌ كَما تَقَدَّمَ (مُتَوَسِّلٌ ومُتَوَسَّلٌ به ومُتَوَسَّلٌ إليه)، هذا مِن وَجْهٍ؛ والوَجْهُ الآخر، أنَّ قولَ الرَّجُلِ {يا فلانُ أَغِثْنِي} أو {يا رَسُولَ اللهِ نَفِّسْ كُرْبَتِي} في فَهْمِ كُلِّ عَرَبِيٍّ وعاقِلٍ يُسَمَّى اِستِغاثةً ولا يُسَمَّى تَوَسُّلًا، فَقَدْ طَلَبَ منه الغَوْثَ وطَلَبَ منه تَنْفِيسَ الكُرْبَةِ، ولا يُقالُ بِأنَّ مُرادَه {يا فُلانُ اُدْعُ اللهَ أنْ يُغِيثَنِي}، أو {يا رَسولَ اللهِ اُدْعُ اللهَ أنْ يُنَفِّسَ كُرْبَتِي} [قُلْتُ: بَلْ إنَّ قَولَه {يا فُلانُ اُدْعُ اللهَ أنْ يُغِيثَنِي} أو {يا رَسولَ اللهِ اُدْعُ اللهَ أن يُنَفِّسَ كُرْبَتِي}، شِرْكٌ أَكْبَرُ أيضًا إذا كانَ يَدعُو مَيِّتًا أو غائبًا، وسَيَأْتِي بَيَانُ ذلك مِن كَلامِ أهْلِ العِلْمِ]، لِأنَّ هذا لم يَرِدْ في كلامِه، وفي حَقِيقةِ الحالِ هو يُرِيدُ ذلك مِمَّن دَعاهُ، ولو أرادَه مِنَ اللهِ لَطَلَبَه مِنَ اللهِ مُباشَرةً. انتهى باختصار.

 

وجاءَ في كِتابِ (اللُّؤلُؤُ المَكِينُ مِن فَتَاوى الشَّيْخِ ابْنِ جِبْرِين)، أنَّ الشيخَ سُئِلَ: هَلْ يَجوزُ لِأحَدٍ مِنَ الناسِ في هذا الزمانِ أنْ يُقْسِمَ على اللهِ أنْ يُحَقِّقَ له كذا وكذا مِمَّا يُرِيدُ أَمْ لا؟. فأجابَ الشيخُ: لا يَجوزُ الإقسامُ على اللهِ تعالى بقولِه {أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يا رَبِّ أَنْ تُنَزِّلَ المَطَرَ، أو تَهْزِمَ اليَهودَ، أو تُغْنِيَ فُلَانًا، أو تُعْطِيَه كذا، أو تُحَقِّقَ لِي ما أَطْلُبُه في هذا المكانِ}، ونحوِ ذلك، فإنَّ مَعْناها أنَّ العَبْدَ يُلْزِمُ رَبَّه ويَفْرِضُ عليه؛ واللهُ تعالى هو الذي يَتَصَرَّفُ في العِبادِ، وليس العَبْدُ أَهْلًا أنْ يَأْمُرَ رَبَّه بِأَمْرٍ على وَجْهِ الإلْزامِ، بَلْ إنَّ ذلك مُنْقِصٌ لِلتَّوحِيدِ، أو مِمَّا يُنَافِي كَمالَه أو أَصْلَه (على حَسَبِ النِّيَّةِ)؛ فَأَمَّا ما رُوِيَ عن بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الإقسامِ على اللهِ، فَلَعَلَّ ذلك مِن بابِ الدُّعاءِ، وأَمَّا قَولُه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأبَرَّهُ}، رَواه البُخَارِيُّ، فَهذا على وَجْهِ الفَرْضِ [أَيْ على وَجْهِ التَّقدِيرِ والتَّصَوُّرِ]، يَعْنِي {أنَّ اللهَ تَعالَى يُجِيبُ دَعْوَتَه، مع العِلْمِ أنَّه لا يَجْرُؤُ أنْ يُقْسِمَ على رَبِّه}. انتهى. وقَالَ النَّوَوِيُّ في (شَرحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ) في شَرْحِ قولِه صلى الله عليه وسلم {لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأبَرَّهُ}: وَقِيلَ مَعْنَى الْقَسَمِ هُنَا الدُّعَاءُ، وَ[مَعْنَى] إِبْرَارِه إِجَابَتُهُ. انتهى.

 

وذَكَرَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في كِتابِه (حُكْمُ الطَّلَبِ مِنَ المَيِّتِ والغائبِ) أنَّ الشيخَ اِبنَ باز سُئلَ في شَرْحِه لِـ (كَشْفُ الشُّبُهاتِ) {إذا قالَ [أَيِ الدَّاعِي] لِلقَبرِ [أَيْ للمَيِّتِ] {اُدْعُ لي عند اللهِ؟}، فَأجابَ الشيخُ: ما يَجُوزُ، هذا مِنَ الشِّركِ شِركًا أكبَرَ، لِأنَّه طَلَبَ منه ما لا يَقْدِرُ عليه. فَقِيلَ لِلشيخِ {زَعَمَ بَعضُ الناسِ أنَّ هذا قَولُ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ، صَحِيحٌ هذا يا شيخُ؟}، فَأجابَ الشيخُ: نَعَمْ، هذا هو مِثْلُ ما صَرَّحَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ، صَرَّحَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ أنَّه شِركٌ أكبَرُ. انتهى باختصار.

 

وسُئِلَ الشيخُ صالحٌ آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في (إتحافُ السائلِ بِما في الطَّحَاوِيَّةِ مِن مَسائلَ): مَن سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَدْعُوَ له وأنْ يَطْلُبَ له المَغفِرةَ مِنَ اللهِ، بَعْدَ مَوْتِه [أَيْ بَعْدَ أنْ ماتَ صلى الله عليه وسلم]، هَلْ هذا شِركٌ؟. فأجابَ الشيخُ: نَعَمْ، هو شِركٌ أكبَرُ، لِأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لا يُدْعَى بَعْدَ مَوْتِه، فَطَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ، وطَلَبُ الدُّعاءِ بِالإغاثةِ أو الاستِسقاءِ، يَعنِي أنْ يَدْعُوَ [المَيِّتُ] اللهَ أنْ يُغِيثَ [الداعِي]، أو أنْ يَدْعُوَ اللهَ أنْ يَغْفِرَ، أنْ يَدْعُوَ اللهَ أنْ يُعْطِي، ونَحْوَ ذلك، هذا كُلُّه داخِلٌ في لَفْظِ (الدُّعاءِ)، واللهُ عزَّ وجلَّ قالَ {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، والذي يَقولُ {إنَّ هذه الصُّورةَ، وهي طَلَبُ الدُّعاءِ [مِنَ المَيِّتِ]، تَخْرُجُ عنِ الطَّلَبِ الذي به يَكُونُ الشِّركُ شِركًا} فَإنَّه يَنْقُضُ أَصْلَ التَّوحِيدِ كُلَّه في هذا البابِ، فَكُلُّ أنواعِ الطَّلَبِ، طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ، أو طَلَبُ الإغاثةِ مِنَ المَيِّتِ أو طَلَبُ الإعانةِ [مِنَ المَيِّتِ]، أو نَحْوُ ذلك، كُلُّها بابٌ واحِدٌ، هي طَلَبٌ، والطَّلَبُ دُعاءٌ، فَدَاخِلَةٌ في قَولِه تَعالَى {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، وفي قَولِه {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، وفي قَولِه {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، ونَحْوِ ذلك مِنَ الآيَاتِ، فالتَّفرِيقُ مُضَادٌّ لِلدَّلِيلِ، ومَن فَهِمَ مِن كَلامِ بَعضِ أَئِمَّتِنا التَّفرِيقَ، أو أنَّ طَلَبَ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ بِدْعةٌ، لا يَعْنِي أنَّه ليس بِشِرْكٍ بَلْ هو بِدْعةٌ شِرْكِيَّةٌ (يَعْنِي ما كانَ أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَفعَلونه)، وإنَّما كانوا يَتَقَرَّبُون [إلى آلِهَتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ] لِيَدْعُوا لهم، لَكِنْ أنْ يُطْلَبَ مِنَ المَيِّتِ الدُّعاءُ، هذا بِدْعَةٌ ما كانَتْ أَصْلًا مَوجودةً لا عند الجاهِلِيِّين ولا عند المُسلِمِين، فَحَدَثَتْ، فَهِيَ بِدْعَةٌ ولا شَكَّ، ولَكِنَّها بِدْعَةٌ شِركِيَّةٌ كُفْرِيَّةٌ وهي مَعْنَى الشَّفاعةِ، إِيشْ مَعْنَى الشَّفاعةِ التي مَن طَلَبَها مِن غَيرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ؟، الشَّفاعةُ طَلَبُ الدُّعاءِ، طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ هو الشَّفاعةُ. انتهى باختصار.

 

وسُئِلَ الشيخُ صالحٌ آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في (شرح كَشْفِ الشُّبُهاتِ): ما رَأْيُكَ فِيمَن يَنْسُبُ لِشَيخِ الإسلامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ أنَّ سُؤَالَ المَيِّتِ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لك ليس مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ بَلْ هو بِدْعَةٌ؟. فأجابَ الشيخُ: هذا جاءَ في كَلامِ شَيخِ الإسلامِ، صَحِيحٌ، لَكِنَّ البِدْعَةَ يُرِيدُ بها البِدْعَةَ الحادِثةَ، يَعْنِي التي حَدَثَتْ في هذه الأُمَّةِ، وليس مُرادُه رحِمَه اللهُ بِالبِدْعَةِ أنَّها البِدعةُ التي لَيسَتْ شِرْكًا، لِأنَّ البِدَعَ التي حَدَثَتْ في الأُمَّةِ منها بِدَعٌ كُفْرِيَّةٌ شِرْكِيَّةٌ ومنها بِدَعٌ دُونَ ذلك، فَقَوْلُه {وأمَّا سُؤَالُ المَيِّتِ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لِلسَّائلِ فَإنَّه بِدْعَةٌ} يَعْنِي هذا حَدَثَ في هذه الأُمَّةِ، حتى أَهْلُ الجاهِلِيَّةِ ما يَفعَلون هذا، ما يَقولون [لِآلِهَتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ] {اُدْعُ اللهَ لنا}، إنَّما يَقولون {اِشْفَعْ لنا}؛ فَمَسألةُ أنْ يَطْلُبَ مِنَ المَيِّتِ الدُّعاءَ هذه بِدْعةٌ حَدَثَتْ، حتى المُشرِكِين لَيْسَتْ عندهم وأَهْلِ الجاهِلِيَّةِ لَيْسَتْ عندهم، بَلْ حَدَثَتْ في هذه الأُمَّةِ، وإنَّما كانَ عند أهلِ الجاهِلِيَّةِ الطَّلَبُ بِلَفْظِ الشَّفاعةِ {اِشْفَعْ لنا}، يَأْتُون ويَتَقَرَّبون لِأجْلِ أنْ يَشْفَعَ، يَتَعَبَّدون لِأجْلِ أنْ يَشْفَعَ، أو يُخاطِبُونه بِالشَّفاعةِ ويَقولون {اِشْفَعْ لنا بكذا وكذا}، أمَّا {اُدْعُ اللهَ لنا} هذه بِدْعةٌ حَدَثَتْ في الأُمَّةِ؛ فَكَلامُ شَيخِ الإسلامِ صَحِيحٌ أنَّها بِدْعةٌ مُحْدَثَةٌ، وكَوْنُها بِدْعةً لا يَعْنِي أَنْ لا تَكُونَ شِرْكًا أكبَرَ. انتهى باختصار.

 

وقالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ في كِتابِه (قاعِدةٌ عَظِيمةٌ في الفَرقِ بَيْنَ عِباداتِ أهلِ الإسلامِ والإيمانِ وعِباداتِ أهلِ الشِّركِ والنِّفاقِ) بِتَحقِيقِ الشيخِ سليمان بْنِ صالح الغصن: فَلَوْ شُرِعَ أنْ يُطْلَبَ مِنَ المَيِّتِ الدُّعاءُ والشَّفاعةُ، كَما كانَ يُطْلَبُ منه في حَيَاتِه، كان ذلك مَشروعًا في حَقِّ الأنبِياءِ والصالِحِين، فَكانَ يُسَنُّ أنْ يَأتِيَ الرَّجُلُ قَبْرَ الرَّجُلِ الصالِحِ، نَبِيًّا كانَ أو غَيْرَه، فَيَقولُ {اُدْعُ لِي بِالمَغفِرةِ، والنَّصْرِ، والهُدَى، والرِّزْقِ}، {اِشْفَعْ لِي إلى رَبِّك}، فيَتَّخِذُ الرَّجُلَ الصالِحَ شَفِيعًا بَعْدَ المَوتِ [أَيْ مَوْتِ الرَّجُلِ الصالِحِ]، كَما يَفعَلُ ذلك النَّصارَى، وكَما تَفعَلُ كَثِيرٌ مِن مُبْتَدِعةِ المُسلِمِين، وإذا جازَ طَلَبُ هذا منه جازَ أنْ يُطْلَبَ ذلك مِنَ المَلائكةِ، فَيُقالُ {يا جِبرِيلُ، يا مِيكَائِيلُ، اِشْفَعْ لنا إلى رَبِّك، اُدْعُ لنا}، ومَعلومٌ أنَّ هذا ليس مِن دِينِ المُسلِمِين ولا دِينِ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، لم يَسُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنبياءِ لِلخَلْقِ أنْ يَطلُبوا مِنَ الصالِحِين المَوْتَى، والغائبِين، والملائكةِ، دُعاءً ولا شَفاعةً، بَلْ هذا أَصْلُ الشِّرْكِ، فَإنَّ المُشرِكِين إنَّما اِتَّخَذُوهم شُفَعاءَ، قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ، قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ}، وقال {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ، لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقال تعالى {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى}، وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ، لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، وقال {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}، وقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}، وقال {يُدَبِّرُ الأَمْرَ، مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}، فهذه الشَّفاعةُ التي كانَ المُشرِكون يُثْبِتُونها أَبْطَلَها القُرآنُ في غَيرِ مَوْضِعٍ... ثم قالَ -أَيِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ-: والمقصودُ هنا التَّنْبِيهُ علَى أنَّ الشِّركَ أنواعٌ، فَنَوْعٌ منه يَتَّخِذُونهم شُفَعاءَ، يَطْلُبون منهم الشَّفاعةَ والدُّعاءَ، مِنَ المَوْتَى والغائبِين، ومِن تَمَاثِيلِهم... ثم قالَ -أَيِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ-: فَمَعرِفةُ المُسلِمِ بِدِينِ الجاهِلِيَّةِ هو مِمَّا يُعَرِّفُه بِدِينِ الإسلامِ الذي بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه، ويُعْرِّفُ الفَرْقَ بَيْنَ دِينِ المُسلِمِين الحُنَفاءِ أَهْلِ التَّوحِيدِ والإخلاصِ أَتْباعِ الأنبِياءِ، ودِينِ غَيرِهم، ومَن لم يُمَيِّزْ بَيْنَ هذا وهذا فَهو في جاهِلِيَّةٍ وضَلَالٍ وشِرْكٍ وجَهْلٍ، ولِهذا يُنْكِرُ هؤلاء ما كان عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، مِن [إِخلاصِ] الدِّينِ للهِ، إِذْ ليستْ لهم به خِبْرَةٌ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، ولا لهم فَهْمٌ في القرآنِ يَعْرِفُون به توحيدَ القرآنِ، ولا لهم مَعْرِفةٌ بحقيقةِ الإيمانِ والتوحيدِ الذي أَرْسَلَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه، فليس لهم عِلْمٌ لا بالقرآنِ، ولا بالإيمانِ، ولا بأحوالِ الناسِ وما نُقِلَ مِن أخبارِهم، ومَعْرِفةُ هذا مِن أَهَمِّ الأُمُورِ، وأَنْفَعِها، وأَوْجَبِها، وهذه جُمْلَةٌ لها بَسْطٌ، مَضْمُونُها مَعْرِفةُ ما بَعَثَ اللهُ به الرسولَ، وما جاءَ به الكِتابُ والسُّنَّةُ. انتهى.

 

وقالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا في (اِقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ): ومِن رَحمةِ اللهِ تَعالَى أنَّ الدُّعاءَ المُتَضَمِّنَ شِرْكًا، كَدُعاءِ غَيرِه أنْ يَفْعَلَ [شَيْئًا مِمَّا لا يَقْدِرُ عليه غيرُ اللهِ، كَإنزالِ المَطَرِ عندَ الجَدْبِ]، أو دُعائِه [وهو حَيٌّ غائبٌ، أَوْ وهو مَيِّتٌ] أنْ يَدْعُوَ اللهَ، ونَحْوِ ذلك، لا يُورِثُ حُصُولَ الغَرَضِ -شُبْهةً- إلَّا في الأمُورِ الحَقِيرةِ، فأمَّا الأُمُورُ العَظيمةُ كإنزالِ الغَيْثِ عند القُحُوطِ، وكَشْفِ العذابِ النازِلِ، فلا يَنْفَعُ فيه هذا الشِّرْكُ، كما قال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}، وقال تعالى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا}، وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، فكَوْنُ هذه المَطالبِ العَظِيمةِ لا يَستجِيبُ فيها إلَّا هو سُبحانَه دَلَّ على تَوحِيدِه، وقَطَعَ شُبْهَةَ مَن أشركَ به، وعُلِمَ بذلك أنَّ ما دُونَ هذا أيضًا مِنَ الإجاباتِ إنَّما حُصُولُها مِنْهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، وإنْ كانَتْ تَجْرِي بِأسبابٍ مُحَرَّمةٍ أو مُباحةٍ، كَما أنَّ خَلْقَهُ للسمواتِ والأرضِ والرِّيَاحِ والسَّحابِ وغيرِ ذلك مِن الأجسامِ العظيمةِ دَلَّ على وَحْدَانِيَّتِه وأنَّه خالِقُ كُلِّ شيءٍ وأنَّ ما دُونَ هذا بأنْ يكونَ خَلْقًا له أَوْلَى [قال الشيخُ عبدُالله الخليفي في مقالة بعنوان (قاعِدةٌ مُهِمَّةٌ في إجابةِ دُعاءِ المُشرِكِين) على مَوقِعِه في هذا الرابط: كَلامُ شَيخِ الإسلامِ هذا جَلِيلٌ، وقَلَّ مَن يُنَبِّهُ عليه، وهو أنَّ المُشرِكِين قد يُجابُ دُعاؤهم لِمَعْبُودِيهم اِستِدراجًا، غَيْرَ أنَّ هذا الاستِدراجَ لا يَكونُ في الأُمُورِ العَظِيمةِ الجَلِيلةِ كَإنزالِ الغَيْثِ عند القُحُوطِ، أو كَشْفِ العذابِ النازِلِ، بَلْ في هذه لا يَنْفَعُ إلَّا تَوْحِيدُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ-: فإذا كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قد نَهَى عنِ الصَّلاةِ -التي تَتَضَمَّنُ الدُّعاءَ لِلَّهِ وَحْدَهُ خالِصًا- عند القُبورِ، لِئَلَّا يُفْضِي ذلك إلى نَوْعٍ مِنَ الشِّركِ بِرَبِّهم، فَكَيْفَ إذا وُجِدَ ما هو عَيْنُ الشِّركِ مِنَ الرَّغبةِ إليهم سَوَاءٌ طُلِبَ منهم قَضَاءُ الحاجاتِ وتَفْرِيجُ الكُرُبَاتِ، أو طُلِبَ منهم أنْ يَطْلُبوا ذلك مِنَ اللهِ. انتهى باختصار.

 

وقالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا في (مجموع الفتاوى): وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ {إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِهِمْ، أَيْ نَطْلُبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ أَنْ يَشْفَعُوا، فَإِذَا أَتَيْنَا قَبْرَ أَحَدِهِمْ طَلَبْنَا مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَنَا، فَإِذَا صَوَّرْنَا تِمْثَالَهُ -وَالتَّمَاثِيلُ إمَّا مُجَسَّدَةٌ، وَإِمَّا تَمَاثِيلُ مُصَوَّرَةٌ كَمَا يُصَوِّرُهَا النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ- فَمَقْصُودُنَا بِهَذِهِ التَّمَاثِيلِ تَذَكُّرُ أَصْحَابِهَا وَسِيَرِهِمْ، وَنَحْنُ نُخَاطِبُ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ وَمَقْصُودُنَا خِطَابُ أَصْحَابِهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا إلَى اللَّهِ}، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ {يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَوْ يَا سَيِّدِي جِرْجِسُ أَوْ بُطْرُسُ أَوْ يَا سِتِّي الْحَنُونَةُ مَرْيَمُ أَوْ يَا سَيِّدِي الْخَلِيلُ أَوْ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، اِشْفَعْ لِي إلَى رَبِّك}، وَقَدْ يُخَاطِبُونَ الْمَيِّتَ عِنْدَ قَبْرِهِ {سَلْ لِي رَبَّك}، أَوْ يُخَاطِبُونَ الْحَيَّ وَهُوَ غَائِبٌ كَمَا يُخَاطِبُونَهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا حَيًّا، وَيُنْشِدُونَ قَصَائِدَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فِيهَا {يَا سَيِّدِي فُلَانٌ، أَنَا فِي حَسْبِك، أَنَا فِي جِوَارِك، اِشْفَعْ لِي إلَى اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَنْصُرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، سَلِ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا هَذِهِ الشِّدَّةَ، أَشْكُو إلَيْك كَذَا وَكَذَا فَسَلِ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ هَذِهِ الْكُرْبَةَ}، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ {سَلِ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي}، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ قَوْلَه تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، وَيَقُولُونَ {إذَا طَلَبْنَا مِنْهُ [صلى الله عليه وسلم] الاِسْتِغْفَارَ بَعْدَ مَوْتِهِ كُنَّا بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ طَلَبُوا الاِسْتِغْفَارَ مِنَ الصَّحَابَةِ [أَيْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ في طَلَبِهم اِستِغفارَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لهم وهو حَيٌّ]}، وَيُخَالِفُونَ بِذَلِكَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَطْلُبْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَلَا سَأَلَهُ شَيْئًا وَلَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَحَكَوْا حِكَايَةً مَكْذُوبَةً عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهَذِهِ الأَنْوَاعُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ وَالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَفِي مَغِيبِهِمْ، وَخِطَابِ تَمَاثِيلِهِمْ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِبَادَاتِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. انتهى باختصار.

 

وسُئِلَ الشيخُ ابنُ باز في شَرْحِه لِـ (كَشْفُ الشُّبُهاتِ): كَثِيرٌ مِنَ الطَّلَبةِ يَفْهَمون أنَّ الشِّركَ هو طَلَبُ قَضاءِ الحاجَةِ مِنَ الأمواتِ، أمَّا إذا طَلَبَ [أَيِ الداعِي] منهم الشَّفاعةَ فَإنَّه يَطْلُبُ مِنْهُمُ الدُّعاءَ، ويَقولُ [أَيِ الواحِدُ مِنَ الطَّلَبةِ المَذكورِين] {هذا ليس مِنَ الشِّرْكِ الأكبَرِ، لَكِنْ يَكُونُ مِنَ البِدعةِ}؟. فأجابَ الشيخُ: لا، بَلْ هذا مِنَ الشِّرْكِ الأكبَرِ، لا يَستَطِيعون [أَيِ الأمواتُ] أنْ يَدْعُوا له ولا أنْ يَشْفَعوا له، كُلُّهم مُرْتَهَنُون بِأعمالِهم، ولِهذا لَمَّا اِستَسقَى عُمَرُ والصَّحابةُ ما اِسْتَسْقَوْا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَشْفَعَ لَهُمْ، بَلِ اِسْتَسْقَوْا بِالعَبَّاسِ وبِيَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ وبِالدُّعاءِ، ولو كانَ هذا [أَيْ طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ الأمواتِ] شَرْعِيًّا لَاسْتَسْقَوْا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولَقَالُوا {اُدْعُ لَنا يا رَسولَ اللهِ} وهو في قَبْرِه. انتهى باختصار.

 

وفي هذا الرابط على موقع الشيخِ اِبنِ باز، سُئِلَ الشيخُ: كَثِيرٌ مِنَ الناسِ يَقولون {الشَّفاعةَ يَا مُحَمَّدُ}، هَلْ هي شِرْكٌ، وإنْ كانَ شِرْكًا ماذا يَقولون؟. فأجابَ الشيخُ: طَلَبُ الشَّفاعةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -أو مِن غَيرِه مِنَ الأمواتِ- لا يَجُوزُ، وهو شِركٌ أكبَرُ عند أهلِ العِلْمِ، لِأنَّه لا يَمْلِكُ شَيئًا بَعْدَ ما ماتَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، واللهُ يَقولُ {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}، الشَّفَاعَةُ مِلْكُهُ سُبحانَه وتَعالَى، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وغَيرُه مِنَ الأمواتِ لا يَمْلِكُون التَّصَرُّفَ بَعْدَ المَوتِ في شَفاعةٍ ولا في دُعاءٍ ولا في غَيرِ ذلك، المَيِّتُ (إِذَا مَاتَ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)؛ وإنَّما جاءَ أنَّها تُعْرَضُ عليه الصَّلاةُ (عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ)، ولِهذا قالَ {صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ}؛ وأمَّا حَدِيثُ {أَنَّه تُعْرَضُ عليه الأعمالُ فَما وَجَدَ فيها مِن خَيْرٍ حَمِدَ اللهَ، وما وَجَدَ فيها مِن شَرٍّ اِستَغفَرَ لنا} فَهو حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لا يَصِحُّ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ولو صَحَّ لم يَكُنْ فيه دَلَالَةٌ على أنَّنا نَطْلُبُ مِنْه الشَّفاعةَ؛ فالحاصِلُ أنَّ طَلَبَ الشَّفاعةِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو مِن غَيرِه مِنَ الأمواتِ أَمْرٌ لا يَجُوزُ، وهو مِنَ الشِّرْكِ الأكبَرِ، لِأنَّه طَلَبَ مِنَ المَيِّتِ شَيئًا لا يَقْدِرُ عليه، كَما لو طَلَبَ مِنْهُ شِفَاءَ المَرِيضِ، أو النَّصْرَ على الأعداءِ، أو غَوْثَ المَكْرُوبِين، أو ما أشْبَهَ ذلك، فَكُلُّ هذا، مِن أنواعِ الشِّركِ الأكبَرِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ طَلَبِ هذا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مِنَ الشَّيخِ عبدِالقادر، أو مِن فُلَانٍ أو فُلَانٍ، أو مِنَ البَدَوِيِّ، أو مِنَ الحُسَين، أو غَيرِ ذلك، طَلَبُ هذا مِنَ المَوْتَى أَمْرٌ لا يَجُوزُ، وهو مِن أقسامِ الشِّركِ، وإنَّما المَيِّتُ إذا كانَ مُسْلِمًا يُدْعَى له بِالمَغفِرةِ والرَّحمةِ. انتهى باختصار.

 

وقالَ الشيخُ بَكْر أبو زيد (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في كِتابِه (تَصحِيحُ الدُّعاءِ): سُؤَالُ حَيٍّ لِمَيِّتٍ وهو [أَيِ الحَيُّ] غائبٌ عن قَبْرِه بِأَنْ يَدْعُوَ اللهَ له، هذا النَّوْعُ لا يَختَلِفُ المُسلِمون بِأَنَّه شِرْكٌ أكبرُ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز الراجحي (الأستاذُ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) في (شَرْحُ "أُصولِ السُّنَّةِ لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ"): لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ أقولَ {يا رَسولَ اللهِ اِسْأَلِ اللهَ لِي} أو {يا رَسولَ اللهِ اِشْفَعْ لِي}، الحُكْمُ واحِدٌ، الصَّوَابُ أنَّه شِركٌ، لا يَجُوزُ لِإنسانٍ أنْ يَسْأَلَ المَيِّتَ مُطْلَقًا [أَيْ سَوَاءٌ سَأَلَ المَيِّتَ أنْ يَفْعَلَ شَيئًا أو سَأَلَه أنْ يَسْأَلَ اللهَ شيئًا، وسَوَاءٌ كانَ المَيِّتُ قَرِيبًا (أَيْ حاضِرًا) أو بَعِيدًا (أَيْ غائِبًا)]، المَيِّتُ يُدْعَى له، ويُتَرَحَّمُ عنه، وَلَا يُدْعَى ولا يُقالُ {اِسْأَلِ اللهَ لِي}، المَيِّتُ الآنَ اِنقَطَعَ عَمَلُه، فَكَيْفَ تَسْأَلُه وهو رَهِينٌ في قَبْرِه، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم وغَيْرُه سَوَاءٌ في هذا، لا يُسألُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا تَقُولُ {يا رَسولَ اللهِ اِسْأَلِ اللهَ لِي}، والصَّوَابُ أنَّه شِركٌ. انتهى بتصرف.

 

وفي هذا الرابط قالَ مَرْكَزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابعُ لإدارةِ الدعوةِ والإرشادِ الدينيِّ بوزارةِ الأوقافِ والشؤونِ الإسلاميةِ بدولةِ قطر: واعْلَمْ أنَّ الذِّهابَ إلى قُبورِ الأمواتِ وطَلَبَ الدُّعاءِ منهم هو اِستِغاثةٌ بِهم، وهو شِركٌ أكبَرُ، لِأنَّ هذا هو حُجَّةُ المُشرِكِين في دُعائهم لِآلِهَتِهم، فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَى عنهم {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}، وقالَ سُبحانَه على لِسانِهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. انتهى باختصار.

 

وقالَ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ خضير الخضير (المُتَخَرِّجُ مِن كُلِّيَّةِ أُصولِ الدِّينِ بـ "جامعة الإمام" بالقصيم عامَ 1403هـ) في (التَّوضِيحُ وَالتَّتِمَّاتُ على "كَشْفِ الشُّبُهاتِ"): قَولُهم {إنَّ الطَّلَبَ [يَعنِي طَلَبَ الدُّعاءِ] مِنَ الأمواتِ [عند قُبورِهم] ليس شِركًا أكبَرَ، إنَّما هو بِدْعةٌ فَقَطْ}، ويَنْقُلُون نُقُولاتٍ عنِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ في ذلك، لم يَفْهَمُوا مَعْنَى كَلِمةِ (بِدْعَةٍ) في سِيَاقِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: يَجِبُ أنْ يُفْهَمَ كَلامُ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ مُتَكامِلًا، والأَخْذُ بكَلَامِه في جَمِيعِ المَواضِعِ يُوَضِّحُ لك أنَّه يُكَفِّرُ بِالوَسائطِ (التي منها طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ الأَمْواتِ [عند قُبورِهم])... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: فكَوْنُ الشَّخْصِ يُفَسِّرُ كَلامَ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ بَعْضَه بِبَعضٍ، هذا أَوْلَى مِنَ اِقتِطاعِ بَعضِ كَلامِه دُونَ بَعضٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: أمَّا أَئِمَّةُ الدَّعوةِ، فَهذا بِالإجماعِ [يَعْنِي إجماعَ أئمَّةِ الدَّعوةِ النَّجْدِيَّةِ السَّلَفِيةِ]، يَرَوْنَ أنَّ طَلَبَ الدُّعاءِ مِنَ الأمواتِ [عند قُبورِهم] مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: والخُلَاصَةُ، أنَّ الصِّيغَتَين شِركٌ أكبرُ، سَوَاءٌ قالَ بِصِيغةِ {يا عبدَالقادرِ اِكْشِفْ كُرْبَتِي}، أو بِصِيغةِ {(يا عبدَالقادرِ اُدْعُ اللَّهَ لِي أنْ يَكْشِفَ كُرْبَتِي)، أو (اِشْفَعْ لِي عندَ اللَّهِ أنْ يَكْشِفَ كُرْبَتِي)}، فَكِلَا الصِّيغَتَين شِركٌ أكبَرُ، إلَّا أنَّ الصِّيغَةَ الأُولَى أعظَمُ شِرْكًا، لِأنَّ فيها بِالإضافةِ إلى الشِّركِ في الأُلُوهِيَّةِ الشِّركَ في الرُّبُوبِيَّةِ، لِأنَّه يَعتَقِدُ أنَّه [أَيِ المَيِّتَ] يَرْفَعُ ويَدْفَعُ وأنَّه رَبُّ مع اللَّهِ، أمَّا الثانِيَةُ فَفِيها شِركٌ في الأُلُوهِيَّةِ فَقَطْ، ومَعلومٌ أنَّ الشِّركَ مُتَفَاوِتٌ، بَعضُه أَغْلَظُ مِن بَعضٍ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ خضير الخضير أيضًا في (المُعتَصِرُ في شَرحِ كِتابِ التَّوحِيدِ): ما حُكْمُ الاستِعاذةِ بِالغائبِ [الحَيِّ]؟؛ أمَّا الاستِعاذةُ بِه فِيما يَقْدِرُ عليه، هذا جائزٌ إذا كانَ يَسْمَعُ كَما في الهاتِفِ؛ أمَّا إذا كانَ غائبًا عنك في مَكانٍ ولا يَسْمَعُ، فَهذا مِن جِنسِ الاستِعاذةِ بِالأمواتِ فِيما يَقْدِرُه الأَحْياءُ، وهو مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ عبدُاللطيف بْنُ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب في (مِصباحُ الظَّلامِ) رَادًّا على مَن قالَ {وإنَّما الشِّركُ طَلَبُ ما لا يَقْدِرُ عليه إلا اللهُ ولم يُعْطِهِ أَحَدًا مِن خَلْقِه}: فَإنَّ الأسبابَ العادِيَّةَ التي يَستَطِيعُها الإنسانُ في حَيَاتِه تَنقَطِعُ بِمَوتِه، كَما دَلَّ عليه الحَدِيثُ [يَعنِي حَدِيثَ {إِذَا مَاتَ اِبْنُ آدَمَ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ...}]، وبِذلك تَصِيرُ [أَيِ (الأسبابُ العادِيَّةُ) بَعْدَ المَوتِ] مُلْحَقَةً في الحُكْمِ والشَّرعِ بِما لا يَستَطِيعُه في حَيَاتِه كَهِدايَةِ القُلوبِ، وشِفاءِ المَرِيضِ، وإنباتِ النَّبَاتِ. انتهى. قُلْتُ: يَقْصِدُ الشيخُ مِن هذا بَيَانَ أنَّ مَن طَلَبَ مِنَ المَيِّتِ شَيئًا كان يَقْدِرُ عليه في حالِ حَيَاتِه، يَكونُ مُشْرِكًا، كَمَن طَلَبَ مِنَ الحَيِّ حالَ حَيَاتِه شَيئًا لا يَقْدِرُ عليه كَهِدايَةِ القُلوبِ، وشِفاءِ المَرِيضِ، وإنباتِ النَّبَاتِ.

 

وقالَ الشيخُ أبو ماريةَ النجديُّ في (وَقَفَاتٌ مع مَسٌألَةِ طَلَبِ الدُّعَاءِ والشَّفَاعَةِ مِنَ الأموَاتِ): فَلَوِ اِفْتَرَضْنا مَثَلًا أنَّ شَخصًا يَغْرَقُ بِالقُرْبِ مِن حافَّةِ البَحرِ، فَنَظَرَ إلى الحافَّةِ فَوَجَدَ قَبْرًا، فَقالَ لِلمَقبورِ {أَنْقِذْنِي مِنَ الغَرَقِ}، فَهذا ولا شَكَّ مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، مع أنَّ نَفْسَ الطَّلَبِ إنْ طَلَبَه مِن شَخصٍ حَيٍّ يَمْشِي بِجِوَارِ الحافَّةِ لم يَكفُرْ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ أبو ماريةَ النجديُّ أيضًا في (وَقَفَاتٌ مع مَسٌألَةِ طَلَبِ الدُّعَاءِ والشَّفَاعَةِ مِنَ الأموَاتِ): ومِن جُمْلَةِ الفِتَنِ التي أُصِيبَ بِها زَمانُنَا مَسألةُ طَلَبِ الدُّعاءِ والشَّفاعةِ مِنَ الأمواتِ، فَقَدِ اِنْقَسَمَ فيها أهلُ الزَّمانِ إلى أقوالٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ الفِرْقَةُ المُنْتَسِبَةُ إلى السَّلَفِيَّةِ، منهم مَن يَرَى التَّكفِيرَ بِها، مِثْلُ اِبنِ باز، وصالح الفوزان، والغنيمان، وشمس الدين الأفغاني، وصالح آل الشيخ، وغَيرِهم، ومنهم مَن يَراها لا تَرْبُو عن بِدْعَةٍ وَحَسْبُ، مِثْلُ اِبنِ عثيمين، والبراك، وبكر أبو زيد، وسليمان العلوان، وعبدالعزيز الطريفي، وغَيرِهم؛ الفِرْقَةُ المَنْسُوبةُ إلى التَّكفِيرِ حَصَلَ فيها نَفْسُ الانقِسامِ، فَعَلَى رَأْسِ مَن يَرَى التَّكفِيرَ بِها الحازميُّ، وحلمي هاشم، وعبدالحكم القحطاني، وزيدان الشريف الإدريسي المغربي، وغَيرُهم، وعَلَى رَأْسِ مَن يَرَاها بِدْعَةً ضياءُ الدِّين القدسي، وطلال البدوي (وجَمَاعَتُه "الاجتِنابُ المُطلَقُ")، وأبو مريم عبدُالرحمن [بْنُ طلاع] المخلف الكويتي، وغَيرُهم؛ وأَغْلَبُ النِّقاشاتِ في هذه المَسألةِ -إنْ لم تَكُ كُلُّها- مَحصورةٌ حَوْلَ تَحقِيقِ مَذهَبِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ، فمنهم مَن يَنْسُبُ إليه القَولَ بِالتَّكفِيرِ، ومنهم مَن يَنْسُبُ إليه القَولَ بِالتَّبدِيعِ، والمُتَأَمِّلُ في هذه النِّقاشاتِ يَشْعُرُ أَحْيانًا أنَّ الدَّلِيلَ المُعْتَمَدَ في المَسألةِ هو كَلامُ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ وَحَسْبُ!، لا الكِتابُ ولا السُّنَّةُ، ممَّا تَسَبَّبَ في زِيَادةِ فَجْوَةِ النِّزاعِ، وإطالَةِ الجَدَلِ العَقِيمِ في النِّقاشِ؛ وخُروجًا مِن هذه الطَّرِيقةِ المَطَّاطةِ في الطَّرْحِ، سَأُحاوِلُ في هذه الوَرَقاتِ بَيَانَ حَقِيقةِ المَسأَلةِ بِعَرْضِها على الأُصولِ الاعتِقادِيَّةِ العامَّةِ المُتَّفَقِ عليها بَيْنَ الجَمِيعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ عن بُعْدٍ، كَأَنْ تَكونَ في الصَّحَراءِ وتَقُولَ {يا نَبِيَّ اللهِ اُدْعُ اللهَ لي}، فَهذه الصُّورةُ مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، لِخَرْقِها لِتَوحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لُزُومًا قَطعِيًّا، مِن بابِ عَدَمِ إفرادِ اللهِ بِالسَّمْعِ المُطْلَقِ والعِلْمِ المُطْلَقِ، إذْ تَستَلزِمُ أنَّ المَيِّتَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ عن قُرْبٍ مع اِعتِقادِ الطالِبِ أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ جميعَ المَلَايِين الذِين يَطْلُبون منه ذلك في آنٍ واحِدٍ، ويَعْلَمُ طَلَباتِهم جَمِيعًا في نَفْسِ الآنِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ التي لم يَكُ يَعْلَمُها في حَيَاتِه!، فَهذه الصُّورةُ مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، لِأنَّه يَلْزَمُ منها قَطْعًا خَرْقُ توحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مِن جِهَةِ السَّمْعِ والعِلْمِ المُطْلَقَين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ عن قُرْبٍ، لَكِنَّه طَلَبَ هذا الطَّلَبَ في سِرِّه ولم يَجْهَرْ به صَوْتُهُ، كَمَنْ يَذهَبون إلى زِيارةِ قَبْرِ النَّبِيِّ اليَومَ في المَدِينةِ المُنَوَّرةِ، وتَرَاهم يَهْمِسُون بِذلك في سِرِّهم، فَهذه الصُّورةُ مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، لِخَرْقِها رُبُوبِيَّةَ اللهِ، إذْ يَلْزَمُ منها قَطْعًا بِدَلالةٍ ضِمْنِيَّةٍ أنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ الغَيْبَ، ويَعْلَمُ ما تُخْفِي صُدُورُ الناسِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ عن قُرْبٍ، لَكِنَّ الطالِبَ لَمَّا خَشِيَ أنْ لا يَستَجِيبَ المَيِّتُ لِطَلَبِه، قَرَّرَ أنْ يَطْلُبَه على وَجْهِ الخُضُوعِ المُطْلَقِ والذُّلِ المُطْلَقِ، كَيْ يُجِيبَ المَيِّتُ طَلَبَه ويَدعُوَ له، فَرَفَعَ الطالِبُ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ كَما يَرْفَعُها عند دُعاءِ اللهِ، وطَلَبَ مِنَ المَيِّتِ في تَضَرُّعٍ ورَهْبَةٍ ورَغْبَةٍ، وذُلٍ كامِلٍ وافتِقارٍ مُطْلَقٍ وإخلاصٍ تامٍّ، كَما يَطْلُبُ مِنَ اللهِ، ظَنًّا منه أنَّه كُلَّما أَخْلَصَ في طَلَبِه مِنَ المَيِّتِ وفي تَوَجُّهِه إليه ورَجائِه له، كُلَّما اِستَجابَ له المَيِّتُ، كَما هو الشَّأْنُ في الإخلاصِ لِلَّهِ، فالمَيِّتُ عنده لا يَرُدُّ سائلًا طَلَبَ منه بِإخلاصٍ، ولا يَرْفُضُ طَلَبًا أَتَاهُ على وَجْهِ الخُضُوعِ والتَّذَلُّلِ التَّامَّين، وهذه الصُّورةُ على هذا الوَجْهِ لا شَكَّ أنَّها مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ الخارِقِ لِلأُلُوهِيَّةِ، لِاشْتِمَالِها على مَعاني العِبادةِ القَلْبِيَّةِ كالخُضوعِ والذُّلِ والافتِقارِ والرَّجاءِ والرَّغبةِ، وإنْ زادَ الطالِبَ اِعتِقادُه السَّمْعَ -أو العِلْمَ- المُطْلَقَ، فَقَدْ خَرَقَ الرُّبُوبِيَّةَ كذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: الذي يَحْدُثُ مِنَ النَّاسِ عامَّةً ومِنَ القُبُورِيِّين خاصَّةً، في زَمانِنا هذا وفي الأزْمِنةِ المُتَقَدِّمةِ، هو طَلَبُ الدُّعاءِ مِنَ المَيِّتِ على الأَوْجُهِ الأربَعةِ الشِّرْكِيَّةِ المُتَقَدِّمةِ، وقد جَرَتِ العادَةُ أنَّه لا يُقْدِمُ على مِثْلِ هذا الطَّلَبِ إلَّا جُهَّالُ العَوَامِّ [قالَ الشيخُ اِبْنُ باز في (فَتاوَى "نُورٌ على الدَّربِ") على هذا الرابط: وأكثَرُ الناسِ جُهَّالٌ. انتهى]، وهؤلاء دَأْبُهم الشِّرْكُ، بَلْ وما قَدِمُوا على مِثْلِ هذا الطَّلَبِ إلَّا لاعتِقاداتِهم الخُرَافِيَّةِ الشِّركِيَّةِ في الأمواتِ، حتى إنَّك لا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا في الواقِعِ يَطْلُبُ مِنَ الأمواتِ الدُّعاءَ إلَّا وهو واقِعٌ أَصْلًا في دُعائهم والاستِغاثةِ بهم، وهذا شِرْكٌ أكبَرُ لا تَفْصِيلَ فيه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: وسَبَبُ الخِلَافِ [يَعنِي بَيْنَ القائلِين بِكُفْرِ مَن طَلَبَ الدُّعاءَ مِنَ المَيِّتِ، وبَيْنَ القائلِين بِبِدْعِيَّتِهِ فَقَطْ، وذلك في حالةِ ما كانَ الكَلامُ عنِ الطَّلَبِ بِشَكْلٍ عامٍّ، بِدُونِ تَقْيِيدِه بوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ الأَرْبَعَةِ سالِفَةِ الذِّكْرِ] مِن وِجْهَةِ نَظَرِي، هو اِختِلافُ تَصَوُّراتِ المَسأَلةِ، فَمَنَ نَظَرَ إلى الواقِعِ وفَهِمَه فَهْمًا جَيِّدًا حَكَمَ بِكُفْرِ الطالِبِين [الدُّعاءَ مِنَ المَيِّتِ]، أمَّا مَن حَكَمَ بِبِدْعِيَّتِها فَهو بِمَعْزِلٍ عنِ الواقِعِ لِأنَّه قد حَكَمَ عليها كَمَسأَلةٍ نَظَرِيَّةٍ بِنَاءً على صُورةٍ ذِهْنِيَّةٍ تَجْرِيدِيَّةٍ في العَقْلِ، ومِن هنا تَصِحُّ رُؤْيَةُ المُكَفِّرِين بِالمَسأَلةِ ما دامَتْ مُقَيَّدَةً بِالواقِعِ العَمَلِيِّ، وكذلك تَصِحُّ رُؤْيَةُ المُبَدِّعِين لها ما دامَتْ مُقَيَّدَةً بِالتَّأصِيلِ التَّنْظِيرِيِّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو ماريةَ-: وفي الخِتَامِ أقولُ {هذا ما تَوَصَّلْتُ له بعدَ بَحْثٍ مُسْتَفِيضٍ في المَسأَلةِ، تَذَبْذَبْتُ فيها تارةً، وتَرَجَّحَ لَدَيَّ القَولُ بِالتَّبْدِيعِ تارةً، وتارةً بِالتَّكفِيرِ، حتى بَحَثْتُها مِن وِجْهَةِ نَظَرِ كُلِّ فَرِيقٍ، وكأنِّي أَتَبَنَّاها تارةً وأَنْقُضُها أُخْرَى، فَتَبَيَّنَ لي بَعْدَ تَأَمُّلٍ ونَظَرٍ أنَّ الحَقَّ في التَّفصِيلِ، وإنْ بَدَا لِي خِلَافُ ذلك غَدًا، فَسَأَعُودُ}. انتهى باختصار.

 

وفي كِتابِ (المنتقى مِن فتاوى الشيخ صالح الفوزان)، يَقولُ الشيخُ: إنْ كانَ القَصْدُ مِن زِيارةِ القُبورِ الصَّلاةَ عندَها والدُّعاءَ عندَها، بِحَيْثُ يَظُنُّ أنَّ في ذلك فَضِيلةً، فَهذه زِيارةٌ بِدْعِيَّةٌ وهي وَسِيلةٌ مِن وَسائلِ الشِّركِ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عنِ الصَّلاةِ عندَ القُبورِ واتِّخاذِها مَساجِدَ وأماكِنَ لِلعِبادةِ والدُّعاءِ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ محمد الهبدان (عُضوُ رابِطةِ عُلَماءِ المُسلِمِين) على مَوقِعِه في هذا الرابط: دُعاءُ الإنسانِ لِلمَيِّتِ عندَ قَبرِه، مِنَ السُّنَّةِ، وهي مِن حِكَمِ مَشروعِيَّةِ زِيارةِ القُبورِ، وقد جاءَ في ذلك عِدَّةُ أحادِيثَ، منها ما رَواهُ مُسلِمٌ مِن حَدِيثِ عائشةَ الطَّوِيلِ، وفيه {فَقَالَ [القائلُ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُخاطِبًا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم] (إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)، قَالَتْ [أَيْ عائشةُ] (قُلْتُ "كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟")، قَالَ [صلى الله عليه وسلم] (قُولِي "السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ")}، وما رَواهُ مُسلِمٌ أيضًا عن بُرَيْدَةَ قالَ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ)، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ)}، ومنها ما أخرَجَه التِّرْمِذِيُّ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ {مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ (السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ)}، قال أَبُو عِيسَى [التِّرْمِذِيُّ] {حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ}، ومنها ما رَوَاهُ مُسلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ [أَيْ (أَنْتُمْ مُؤَجَّلُونَ إلى يَومِ القِيَامةِ)]، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِأهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ)}، ومنها حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ [يَعنِي (وَقَفَ عند قَبرِه)] فَقَالَ (اِسْتَغْفِرُوا لِأخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ)}، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، قالَ شيخُ الإسلامِ في كلامٍ له [في كِتابِ (الجَوابُ الباهِرُ في زِيارةِ المَقابِرِ)] عن أنواعِ الزِّيارةِ لِلقُبورِ {[وَأَمَّا] النَّوْعُ الثَّالِثُ، فَهُوَ زِيَارَتُهَا لِلدُّعَاءِ لَهَا، كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى اِسْتِحْبَابِهِ، لِأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ مَا يَقُولُونَ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ}، وَقَالَ النَّوَوِيُّ [في (المَجموع)] {يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ سَاعَةً [قالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في فتوى صَوتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ له على مَوقِعِه في هذا الرابط: فَقَدْ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فَرَغَ مِن دَفنِ المَيِّتِ وَقَفَ عليه وقالَ {اِسْتَغْفِرُوا لِأخِيكُمْ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ}، ولم يَكُنْ يَدعو بِهم دُعاءً جَماعِيًّا، بَلْ كُلُّ إنسانٍ يَدعو لِوَحْدِهِ، ولم يَكُنْ يُطِيلُ الوُقوفَ، ومِن عادةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا دَعَا دَعَا ثَلاثًا؛ وعليه فَيَكفِي أنْ تَقِفَ وتَقولَ {اللَّهُمَّ اِغفِرْ له، اللَّهُمَّ اِغفِرْ له، اللَّهُمَّ اِغفِرْ له، اللَّهُمَّ ثَبِّتْه، اللَّهُمَّ ثَبِّتْه، اللَّهُمَّ ثَبِّتْه} وتَنصَرِفَ، وأمَّا الجُلوسُ أو الوُقوفُ بِقَدْرِ ما تُنحَرُ الجَزورُ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، فَهذا قالَه عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنه وأَوصَى به، ولَكِنَّ هذا ليس مِنَ الهَدْيِ العامِّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولا لِلصَّحابةِ، فهو أَوصَى به اِجتِهادًا منه رَضِيَ اللهُ عنه. انتهى. وفي هذا الرابط على مَوقِعِ الشيخِ اِبْنِ باز، قالَ الشيخُ: فإذا تَيَسَّرَ الدُّعاءُ له وَقْتًا مِنَ الزَّمَنِ (خَمْسَ دَقائقَ، أو أقَلَّ، أو أكثَرَ) كَفَى والحَمْدُ لِلَّهِ بَعْدَ الدَّفنِ. انتهى] يَدْعُو لِلْمَيِّتِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَصْحَابُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الهبدان-: إنَّ قَصْدَ الإنسانِ القَبْرَ مِن أَجْلِ أنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِه عندها، مِنَ البِدَعِ المُحَرَّمةِ، فَلَوْ كانَ الدُّعاءُ عندَ الأَضْرِحةِ يُتَعَبَّدُ بِهِ اللهُ تَعالَى لَشَرَعَهُ اللهُ ورَسولُه، ولَفَعَلَهُ السَّلَفُ الصالِحُ، فَلَمْ يَرِدْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يَدُلُّ على مَشروعِيَّةِ تَحَرِّي الدُّعاءِ عند القَبرِ، مع كَثْرَةِ ما وَرَدَ في بابِ الأدْعِيَةِ، وكَثْرَةِ مُصَنَّفاتِ السَّلَفِ فيها التي ذَكَرُوا فيها آدابَها ومَوَاقِيتَها وأماكِنَها وغَيْرَ ذلك، ولم نَجِدْ أحَدًا منهم قالَ بِمَشروعِيَّةِ التَّحَرِّي لِلدُّعاءِ عند القَبرِ، فَدَلَّ هذا على أنَّه لم يَرِدْ في الشَّرْعِ، ولم يَفْعَلْه السَّلَفُ الصالِحُ، فَثَبَتَ أنَّه بِدْعَةٌ، إذ لو كانَ خَيْرًا لَسَبَقُونا إليه وَهُمْ أَحْرَصُ الناسِ على الخَيرِ، والدُّعاءُ عند القَبرِ ذَرِيعةٌ إلى دُعاءِ صاحِبِ القَبرِ، قالَ شيخُ الإسلامِ [في (اِقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)] {العَلَّةُ التي نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأجْلِها عنِ الصَّلاةِ عندَها [يَعنِي عندَ القُبورِ]، إنَّما هو لِئَلَّا تُتَّخَذَ ذَرِيعةً إلى نَوْعٍ [مِنَ] الشِّرْكِ، بِقَصْدِها وبِالعُكُوفِ عليها وتَعَلُّقِ القُلوبِ بِها رَغْبَةً ورَهْبَةً، ومِنَ المَعلومِ أنَّ المُضْطَرَّ في الدُّعاءِ الذي قد نَزَلَتْ به نازِلةٌ -فَيَدْعُو لِاستِجلابِ خَيرٍ كالاستِسقاءِ أو لِدَفْعِ شَرٍ كالاستِنصارِ- حَالُهُ بِافْتِتَانِهِ بِالقُبورِ إذا رَجَا الإجابةَ عندَها أَعْظَمُ مِن (حالِ مَن يُؤَدِّي الفَرْضَ عندها في حالِ العافِيَةِ)، فَإنَّ أكثَرَ المُصَلِّين في حالِ العافِيةِ لا تَكَادُ تُفْتَنُ قُلوبُهم بِذلك إلَّا قَلِيلًا، أمَّا الدَّاعُون المُضْطَرُّون فَفِتْنَتُهم بِذلك عَظِيمةٌ جِدًّا، فإذا كانَتِ المَفْسَدةُ والفِتْنةُ التي لِأجْلِها نَهَى [صلى الله عليه وسلم] عنِ الصَّلاةِ عندَها مُتَحَقِّقةً في حالِ هؤلاء، كانَ نَهْيُهم عن ذلك أَوْكَدَ وأَوْكَدَ}، وذلك لِأنَّ الحُكْمَ يَدُورُ مع العِلَّةِ وُجودًا وعَدَمًا، وقد تَحَقَّقَ وُجودُ العِلَّةِ هنا، فالدُّعاءُ عند القَبرِ ذَرِيعةٌ بِدُونِ شَكٍّ إلى دُعاءِ صاحِبِ القَبرِ، فَيَكونُ مَنْهِيًّا عنه عند القَبرِ، قالَ مَن حَمَلَ عِلْمَ السَّلَفِ شيخُ الإسلامِ اِبنُ تَيْمِيَّةَ [في (اِقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)] {وما أَحْفَظُ لا عن صَحَابِيٍّ ولا عن تابِعِيٍّ ولا عن إمامٍ مَعروفٍ أنَّه اِسْتَحَبَّ قَصْدَ شَيءٍ مِنَ القُبورِ لِلدُّعاءِ عنده، ولا رَوَى أحَدٌ في ذلك شَيئًا، لا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عنِ الصَّحابةِ ولا عن أحَدٍ مِنَ الأئمَّةِ المَعروفِين، وقد صَنَّفَ الناسُ في الدُّعاءِ وأوقاتِه وأمْكِنَتِه، وذَكَرُوا فيه الآثارَ، فَمَا ذَكَرَ أحَدٌ منهم في فَضْلِ الدُّعاءِ عند شَيءٍ مِنَ القُبورِ حَرْفًا واحِدًا (فِيما أعلَمُ)، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَكونَ الدُّعاءُ عندَها أَجْوَبَ وأفضَلَ، والسَّلَفُ تُنْكِرُه ولا تَعْرِفُه، وتَنْهَى عنه ولا تَأْمُرُ به}، [وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (إغَاثَةُ اللَّهْفَانِ مِنْ مَصَايِدِ الشَّيْطَانِ)] {مِنَ المُحالِ أنْ يَكونَ الدُّعاءُ عند القُبورِ مَشروعًا وعَمَلًا صالِحًا، ويُصْرَفُ عنه القُرونُ الثَّلَاثةُ (المُفَضَّلَةُ بِنَصِّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، ثم يُرْزَقُهُ الخُلُوفُ الذِين يَقولون ما لا يَفعَلون، ويَفعَلون ما لا يُؤْمَرُون، فَهذه سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في أهلِ القُبورِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً حتى تَوَفَّاه اللهُ تَعالَى، وهذه سُنَّةُ خُلَفَائِه الراشِدِين، وهذه طَرِيقةُ جَمِيعِ الصَّحابةِ والتابِعِين لهم بِإحسانٍ، هَلْ يُمْكِنُ بَشَرًا على وَجْهِ الأرضِ أَنْ يَأْتِيَ عن أحَدٍ منهم بِنَقْلٍ صَحِيحٍ أو حَسَنٍ أو ضَعِيفٍ أو مُنْقَطِعٍ، أنَّهم كانوا إذا كانَ لهم حاجةٌ قَصَدُوا القُبورَ فدَعَوْا عندها وتَمَسَّحُوا بها، فَضْلًا أنْ يُصَلُّوا عندها، أو يَسْأَلُوا اللهَ بِأصحابِها، أو يَسْأَلُوهم حَوَائجَهم؟، بَلْ [أَيْ ولَكِنْ] يُمْكِنُهم أنْ يَأْتُوا عنِ الخُلُوفِ التي خَلَفَتْ بَعْدَهم بِكَثِيرٍ مِن ذلك، وكُلَّما تَأَخَّرَ الزَّمانُ وطالَ العَهْدُ كان ذلك أكثَرَ، حتى لقد وُجِدَ في ذلك عِدَّةُ مُصَنَّفاتٍ ليس فيها عن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا عن خُلَفائِه الراشِدِين ولا عن أصحابِه حَرْفٌ واحِدٌ مِن ذلك [إغَاثَةُ اللَّهْفَانِ، بِتَصَرُّفٍ]}؛ ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ السَّلَفَ يَرَوْنَ الدُّعاءَ عندَ القَبرِ بِدْعةً، أنَّهم قالوا في الرَّجُلِ يُسَلِّمُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه لا يَدْعُو مُستَقبِلًا القَبْرَ الشَّرِيفَ، بَلْ عليه إذا أرادَ الدُّعاءَ أنْ يَستَقبِلَ القِبْلَةَ، قالَ شيخُ الإسلامِ [في (مَجموعُ الفَتَاوَى)] {وَلَمْ أَعْلَمِ الأَئِمَّةَ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ السُّنَّةَ اِسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، لَا اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ النَّبَوِيِّ}؛ ومِمَّا يَدُلُّ على بِدْعِيَّةِ تَحَرِّي الدُّعاءِ عندَ القُبورِ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنِ الصَّلاةِ عندَ القُبورِ وإليها، ونَهَى عنِ اِتِّخاذِها مَساجِدَ، فَتَبَيَّنَ مِن هذا أنَّ قَصْدَ الدُّعاءِ عندَ القُبورِ بِدْعةٌ مُنْكَرَةٌ، وإنْ لم تَصِلْ إلى الشِّركِ فَهي وَسِيلةٌ إليه، قالَ إمامُ الدَّعوةِ محمدُ بنُ عبدالوهاب [في كِتابِ (مُؤَلَّفاتُ الشيخِ الإمامِ محمد بنِ عبدالوهاب)] {أمَّا بِنَاءُ القِبابِ عليها فيَجِبُ هَدْمُها [يَعنِي هَدْمَ القِبابِ التي بُنِيَتْ على القُبورِ]، ولا عَلِمْتُ أنَّه يَصِلُ إلى الشِّركِ الأكبَرِ، وَكَذَلِكَ الصَّلاةُ عندَه [أَيْ عند القَبرِ]، وقَصْدُه لأَجْلِ الدُّعاءِ، فَكَذَلِكَ لا أعْلَمُه يَصِلُ إلى ذلك، ولَكِنَّ هذه الأُمورَ مِن أسبابِ حُدوثِ الشِّركِ، فَيَشْتَدُّ نَكِيرُ العُلَماءِ لِذلك}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الهبدان-: إذا لم يَتَحَرَّ [أَيِ الدَّاعي] الدُّعاءَ عند القَبرِ، وجاءَ عندَ القَبرِ لِلزِّيَارةِ فَقَطْ، أو مَرَّ علَى المَقبَرةِ، فَسَلَّمَ ودَعَا لِأهلِ المَقبَرةِ ثم دَعَا لِنَفْسِه، فَلا بَأْسَ به لِأنَّه وَقَعَ ضِمْنًا وتَبَعًا ولم يُقْصَدْ، ويَدُلُّ على ذلك الأحادِيثُ الواردةُ في السَّلَامِ علَى أهلِ القُبورِ، فَقَدْ وَرَدَ في حَديثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَولُه صلى الله عليه وسلم {أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ}، وفي حَدِيثِ عائشةَ مَرفوعًا {وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ}، وهذا الدُّعاءُ الذي لم يُتَحَرَّ فيه يَكونُ في الغالِبِ يَسِيرًا وخَفِيفًا كَما في الحَدِيثَين السابِقَين، ولا بُدَّ أيضًا في هذا الدُّعاءُ أنْ يَكونَ ضِمْنًا وتَبَعًا لا اِستقلالًا، وأنْ لا يَحْصُلَ به تَغْرِيرٌ على غَيرِه. انتهى باختصار.

 

وقالَ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ خضير الخضير في (المُعتَصِرُ في شَرحِ كِتابِ التَّوحِيدِ): ما حُكْمُ قَولِ القائلِ {وامُعتَصِمَاهُ} أو {يا رَسولَ اللهِ، لو كُنْتَ حاضِرًا ورَأَيْتَ...} أو {أينَ أنتَ يا صَلَاحَ الدِّينِ}؟، هذه الألفاظُ لا يُقْصَدُ بها النِّداءُ الحَقِيقيُّ، فَإنْ قَصَدَ بها النِّداءَ الحَقِيقيَّ واعْتَقَدَ أنَّه يَسْمَعُه ويَنْفَعُه، فَهذا لا شَكَّ أنَّه مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، أمَّا إذا كانَ لا يَقْصِدُ بِها النِّداءَ وقَصَدَ بِها اِسْتِثارةَ الهِمَمِ، فَلَا يَنْبَغِي اِستِعمالُ هذه الألفاظِ المُوهِمَةِ (التي يُمْنَعُ منها سَدًا لِلذَّرِيعَةِ). انتهى.

 

وقالَ الشيخُ عبدُاللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب في (مجموعة الرسائل والمسائل النَّجْدِيَّة): تَلَطَّفَ الشَّيطانُ في كَيْدِ هؤلاء الغُلاةِ في قُبورِ الصالِحِين، بِأَنْ دَسَّ عليهم تَغيِيرَ (الأسماءِ والحُدودِ الشَّرعِيَّةِ والألفاظِ اللُّغَوِيَّةِ)، فَسَمَّوُا الشِّرْكَ وعِبادةَ الصالِحِين تَوَسُّلًا ونِدَاءً وَحُسْنَ اِعتِقادٍ في الأَوْلِياءِ وتَشَفُّعًا بِهم واستِظهارًا بِأَرْوَاحِهم الشَّرِيفةِ، فاستَجابَ له صِبْيانُ العُقولِ وخَفَافِيشُ [خَفَافِيشُ جَمْعُ خُفَّاشٍ، وهو طائرٌ يَكْرَهُ الضَّوْءَ ولا يَطِيرُ إلَّا في اللَّيلِ، ويُطْلَقُ عليه أيضًا (الوَطْوَاط)] البَّصائرِ، ودَارُوا مع الأسماءِ ولم يَقِفُوا مع الحَقائقِ!. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ عبدُاللهِ بْنُ عبدِالرَّحمن أبو بُطَين (مُفْتِي الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ، الْمُتَوَفَّى عامَ 1282هـ) في كِتابِه (الانتِصارُ لِحِزْبِ اللهِ المُوَحِّدِين والرَّدُّ على المُجادِلِ عنِ المُشرِكِين): فإذا عَلِمَ الإنسانُ وتَحَقَّقَ مَعْنَى (الإلَهِ) وأنَّه المَعْبُودُ، وعَرَفَ حقيقةَ العِبادةِ، تَبَيَّنَ له أنَّ مَن جَعَلَ شيئًا مِنَ العِبادةِ لِغَيرِ اللهِ، فَقَدْ عَبَدَه واتَّخَذَه إلَهًا، وإنْ فَرَّ مِن تَسْمِيَتِه مَعبودًا وإلَهًا وسَمَّى ذلك تَوَسُّلًا وتَشَفُّعًا والْتِجَاءً ونَحْوَ ذلك؛ فالمُشرِكُ مُشرِكٌ شاءَ أَمْ أَبَى، كَما أنَّ المُرَابِيَ مُرابٍ شاءَ أَمْ أَبَى وإنْ لم يُسَمِّ ما فَعَلَه رِبًا، وشارِبَ الخَمْرِ شارِبٌ لِلخَمرِ وإنْ سَمَّاها بِغَيرِ اِسْمِها؛ وفي الحَدِيثِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَأْتِي أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَشْرَبُون الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اِسْمِهَا}، فَتَغْيِيرُ الاسْمِ لا يُغَيِّرُ حَقِيقةَ المُسَمَّى ولا يُزِيلُ حُكْمَه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أبو بُطَين-: ومِن كَيْدِ الشَّيطانِ لِمُبتَدِعةِ هذه الأُمَّةِ -المُشرِكِين بِالبَشَرِ مِنَ المَقْبورِين وغيرِهم-، لَمَّا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ أنَّ كُلَّ مَن قَرَأَ القُرآنَ أو سَمِعَه يَنْفِرُ مِنَ الشِّركِ ومِن عِبادةِ غَيرِ اللهِ، أَلْقَى في قُلوبِ الجُهَّالِ أنَّ هذا الذي يَفعَلونه مع المَقْبورِين وغَيرِهم ليس عِبادةً لهم، وإنَّما هو تَوَسُّلٌ وتَشَفُّعٌ بِهم والْتِجاءٌ إليهم ونَحْوُ ذلك، فسَلَبَ العِبادةَ والشِّركَ [يَعْنِي عِبادةَ غَيرِ اللهِ والشِّركَ به] اِسْمَهُما مِن قُلُوبِهم، وكَسَاهُما أَسْماءً لا تَنْفِرُ عنها القُلوبُ، ثم اِزْدادَ اِغْتِرارُهم وعَظُمَتِ الفِتْنةُ، بِأنْ صارَ بَعضُ مَن يُنْسَبُ إلى عِلْمٍ ودِينٍ يُسَهِّلُ عليهم ما ارْتَكَبوه مِنَ الشِّركِ، ويَحْتَجُّ لهم بِالحُجَجِ الباطِلةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. انتهى.

 

وقالَ اِبنُ تَيْمِيَّةَ في (مجموع الفتاوى): فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ لَفْظَ (الْوَسِيلَةِ) وَ(التَّوَسُّلِ)، فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ، يَجِبُ أَنْ تُعْرَفَ مَعَانِيهِ، وَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَيُعْرَفُ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ، وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ الصَّحَابَةُ وَيَفْعَلُونَهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ، وَيُعْرَفُ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنِ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الإِجْمَالِ وَالاِشْتِرَاكِ فِي الأَلْفَاظِ وَمَعَانِيهَا، حَتَّى تَجِدَ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُ فِي هَذَا الْبَابِ فَصْلَ الْخِطَابِ؛ فَلَفْظُ (الْوَسِيلَةِ) مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وَفِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، فَالْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ [يُشِيرُ إلى قَولِه تَعالَى (وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)] وَأَخْبَرَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَهَا إلَيْهِ [يُشِيرُ إلى قَولِه تَعالَى (يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)] هِيَ مَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ والمُسْتَحَبَّاتِ، فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِابْتِغَائِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا، فَالْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ فَأَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوِ اِسْتِحْبَابٍ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَجِمَاعُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ بِابْتِغَائِهَا هُوَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لَا وَسِيلَةَ لِأحَدٍ إلَى اللَّهِ إلَّا ذَلِكَ؛ وَالثَّانِي [أَيْ بَعْدَ أنْ كانَ الكَلامُ في الأَوَّلِ عن لَفْظِ (الْوَسِيلَةِ) فِي الْقُرْآنِ]، لَفْظُ (الْوَسِيلَةِ) فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وَقَوْلُهُ {مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ (اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَه إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ}، فَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَهَا لِلرَّسُولِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ لَهُ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... ثم قالَ -أَيِ اِبنُ تَيْمِيَّةَ-: التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ، يُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ [حالَ حَيَاتِه وحُضُورِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا حَالَ مَوْتِه أو غِيَابِه] وَشَفَاعَتِهِ؛ وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الإِقْسَامُ بِهِ [أَيْ بِذاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَالسُّؤَالُ بِهِ كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ [وهذا لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ]؛ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ؛ فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الأَوَّلَانِ -الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ- فَأَحَدُهُمَا هُوَ أَصْلُ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالإِيمَانِ بِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَبِطَاعَتِهِ، وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ [وصُورةُ ذلك، أنْ يَسألَ أحَدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حالِ حَيَاتِه وحُضُورِه أنْ يَدْعُوَ له] كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ {اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا [أَيْ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا] فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا} أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ؛ وقَوْلُه تَعَالَى {وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيِ الْقُرْبَةَ إلَيْهِ [أَيْ إلى اللهِ] بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ، قَالَ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، فَهَذَا التَّوَسُّلُ الأَوَّلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَشَفَاعَتِهِ -كَمَا قَالَ عُمَرُ- فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ [حالَ حَيَاتِه وحُضُورِه] لَا بِذَاتِهِ، وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ [أَيْ بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفاتِه] إلَى التَّوَسُّلِ بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ [يعني بِدُعاءِ الْعَبَّاسِ لا بِذَاتِ الْعَبَّاسِ]، وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّلِ بِهِ [أَيْ بِذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] إلَى التَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ [يعني بِدُعاءِ الْعَبَّاسِ لا بِذَاتِ الْعَبَّاسِ] عُلِمَ أَنَّ مَا [كان] يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ التَّوَسُّلِ الَّذِي هُوَ الإِيمَانُ بِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَالطَّاعَةُ لَهُ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا... ثم قالَ -أَيِ اِبنُ تَيْمِيَّةَ-: فَلَفْظُ (التَّوَسُّلِ) يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ؛ أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]؛ وَالثَّانِي التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ [وحُضورِه]، وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ)؛ وَالثَّالِثُ التَّوَسُّلُ بِهِ، بِمَعْنَى الإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ. انتهى باختصار.

 

وفي (مَجموعُ فَتاوَى الشيخِ صالحٍ الفوزان)، سُئِلَ الشيخُ: هناك بَعْضُ الناسِ يَدْعُون بِدُعاءٍ يَعتَقِدون أنَّه يَشْفِي مِنَ السُّكَّرِ [أَيْ مَرَضِ السُّكَّرِي]، وهو كَما يَلِي {الصَّلاةُ والسَّلامُ عليك وعلى آلِكَ يا سَيِّدِي يا رَسولَ اللهِ، أنتَ وَسِيلَتِي خُذْ بِيَدِي، قَلَّتْ حِيلَتِي فأَدْرِكْنِي}، ويَقولون هذا القَولَ {يا رَسولَ اللهِ، اِشْفَعْ لِي}، وَبِمَعْنًى آخَرَ {اُدْعُ اللهَ يا رَسولَ اللهِ لي بِالشِّفَاءِ}، فَهَلْ يَجُوزُ أنْ يُرَدَّدَ هذا الدُّعاءُ، وهَلْ فيه فائدةٌ كَما يَزْعُمون؟. فَأجابَ الشيخُ: هذا الدُّعاءُ مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، لِأنَّه دُعاءٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وطَلَبٌ لِكَشْفِ الضُّرِّ والمَرَضِ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم (وهذا لا يَقْدِرُ عليه إلَّا اللهُ سُبحانَه وتَعالَى، فَطَلَبُه مِن غَيرِ اللهِ شِركٌ أكبَرُ)؛ وكذلك طَلَبُ الشَّفاعةِ منه صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوتِه، هذا مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ، لِأنَّ المُشرِكِين الأَوَّلِين كانوا يَعبُدون الأَولِياءَ ويَقولون {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}، فاللهُ سُبحانَه وتَعالَى عابَ ذلك عليهم ونَهَاهم عن ذلك {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}؛ وكُلُّ هذا مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ والذَّنْبِ الذي لا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ إلى اللهِ سُبحانَه وتَعالَى منه والتِزامِ التَّوحِيدِ وعَقِيدةِ الإسلامِ، فَهو دُعاءٌ شِرْكِيٌّ لا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يَتَلَفَّظَ به ولا أنْ يَدْعُوَ به ولا أنْ يَستَعمِلَه، ويَجِبُ على المُسلِمِ أنْ يَنْهَى عنه وأنْ يُحَذِّرَ منه، والأَدْعِيَةُ المَشروعةُ التي يُدْعَى بِها لِلمَرِيضِ ويُرْقَى بِها المَرِيضُ أدعِيَةٌ ثابِتةٌ ومَعلومةٌ، يُرْجَعُ إليها في مَظَانِّهَا مِن دَوَاوِينِ الإسلامِ الصَّحِيحةِ، كَصحِيحِ البُخَارِيِّ وصَحِيحِ مُسلِمٍ، وكذلك قِراءةُ القُرآنِ على المَرِيضِ مَرَضَ السُّكَّرِ -أو غَيْرَ مَرَضِ السُّكَّرِ- وبِالذاتِ قِراءةُ سُورةِ الفاتِحةِ على المَرِيضِ، هذا فيه شِفاءٌ وفيه أَجْرٌ وفيه خَيرٌ كَثِيرٌ، واللهُ سُبحانَه وتَعالَى قد أغْنَانا بِذلك عنِ الأُمُورِ الشِّرْكِيَّةِ. انتهى.

 

وجاءَ في (المُنتَقَى مِن فَتَاوَى الشيخِ صالِحٍ الفوزان) أنَّ الشيخَ قالَ: إذا كانَ التَّوَسُّلُ بِالغائبِ والمَيِّتِ، بِمَعْنَى أنَّه [أَيِ الداعِيَ] يَدْعُو اللهَ سُبحانَه وتَعالَى ويَجْعَلُ هذا [أَيِ الغائبَ أو المَيِّتَ] واسِطةً فَيَقولُ [مُتَوَجِّهًا إلى اللهِ] {أَسْأَلُك بِحَقِّ فُلَانٍ}، فَهذا بِدْعَةٌ، لا يَصِلُ إلى حَدِّ الشِّركِ الأكبَرِ، لَكِنَّه بِدعةٌ مُحَرَّمةٌ وهو وَسِيلةٌ إلى الشِّركِ وبابٌ إلى الشِّركِ، فَلا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِالأمواتِ والغائبِين بِهذا المَعْنَى، فإنْ كانَ يَطْلُبُ منهم الحاجَةَ فَهذا شِركٌ أكبَرُ، قال اللهُ تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. انتهى باختصار.

 

وقالَ الشيخُ عبدُالله بن عبدالعزيز بن حمادة الجبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض) في (مختصر تسهيل العقيدة الإسلامية): التَّوَسُّلُ في الاصطِلاحِ له تَعرِيفان؛ الأَوَّلُ، تَعرِيفٌ عامٌّ، وهو التَّقَرُّبُ إلى اللهِ تَعالَى بِفِعْلِ المَأموراتِ وتَرْكِ المُحرَّماتِ؛ الثاني، تَعرِيفٌ خاصٌّ بِبابِ الدُّعاءِ، وهو أنْ يَذْكُرَ الداعِي في دُعائِه ما يَرْجُو أنْ يَكونَ سَبَبًا في قُبولِ دُعائه، أو أنْ يَطْلُبَ مِن عَبْدٍ صالِحٍ أنْ يَدْعُوَ له؛ والتَّوَسُّلُ في أَصْلِه يَنْقَسِمُ إلى قِسمَين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجبرين-: القِسمُ الأَوَّلُ، التَّوَسُّلُ المَشروعُ، وهذا القِسمُ يَشمَلُ أنواعًا كَثِيرةً، يُمْكِنُ إجمالُها فِيما يَلِي؛ (1)التَّوَسُّلُ إلى اللهِ تَعالَى بِأسمائه وصِفاتِه، كَمَا قالَ تَعالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وذلك بِأنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعالَى بِأسمائه كُلِّها، كَأَنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأسمائك الحُسْنَى أنْ تَغْفِرَ لِي}، أو أنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعالَى باسْمٍ مُعَيَّنٍ مِن أسمائه تَعالَى يُناسِبُ ما يَدْعُو به، كَأَنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ يَا رَحْمَنُ ارْحَمْنِي}، أو أنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأنَّك أنتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أنْ تَرْحَمَنِي}، أو أنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعالَى بِجَمِيعِ صِفاتِه، كَأنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بصِفاتِك العُلْيَا أنْ تَرْزُقَنِي رِزْقًا حَلَالًا}، أو أنْ يَدْعُوَه بِصِفةٍ واحِدةٍ مِن صِفاتِه تَعالَى تُناسِبُ ما يَدْعُو به، كَأَنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي}، أو يَقولَ مَثَلًا {اللَّهُمَّ انْصُرْنا علَى القَومِ الكافِرِين إنَّك قَوِيٌّ عَزِيزٌ}؛ (2)الثَّنَاءُ على اللهِ تَعالَى والصَّلاةُ على نَبِيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم في بِدايَةِ الدُّعاءِ، لِمَا ثَبَتَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنَّه سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَحْمِدِ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (عَجِلَ هَذَا)، ثم دَعَاه فَقالَ له (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لْيَدْعُ بِمَا شَاءَ)}، قالَ [أَيْ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ] {وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي فَمَجَّدَ اللَّهَ وَحَمِدَهُ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ (اُدْعُ تُجَبْ وَسَلْ تُعْطَ)}، ومِن ذلك أنْ يُثْنِي على اللهِ تَعالَى بِكَلِمةِ التَّوحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، التي هي أعظَمُ الثَّناءِ على اللهِ تَعالَى، كَما تَوَسَّلَ بها يُونُسُ عليه السَّلامُ في بَطْنِ الحُوتِ، ثم يُصَلِّي على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ في تَوَسُّلِه مَثَلًا {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي}؛ (3)أنْ يَتَوَسَّلَ العَبدُ إلى اللهِ تَعالَى بِعِباداتِه القَلْبِيَّةِ أو الفِعْلِيةِ أو القَولِيَّةِ، كَما في قَولِه تَعالَى {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}، وكَما في قِصَّةِ الثَّلاثةِ أَصْحابِ الغارِ، فأَحَدُهم تَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بِبِرِّه بِوالِدَيْهِ، والثانِي تَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بإعْطَاءِ الأَجِيرِ أَجْرَهُ كامِلًا بَعْدَ تَنْمِيَتِهِ له، والثالِثُ تَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بِتَرْكِه الفاحِشةَ، وقالَ كُلُّ واحِدٍ منهم في آخِرِ دُعائِه {اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلك اِبْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ}، ومِن ذلك أنْ يَقولَ الدَّاعِي {اللَّهُمَّ إنِّي أَسأَلُك بِمَحَبَّتِي لك ولِنَبِيِّك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولِجَمِيعِ رُسُلِك وأَوْلِيائك أَنْ تُنَجِّيَنِي مِنَ النَّارِ}، أو يَقولَ {اللَّهُمَّ إنِّي صُمْتُ رَمَضَانَ اِبْتِغَاءَ وَجْهِكَ فارْزُقْنِي السَّعادةَ في الدُّنيَا والآخِرَةِ}؛ (4)أنْ يَتَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بِذِكْرِ حالِه، وأنَّه مُحْتَاجٌ إلى رَحْمَةِ اللهِ وعَوْنِه، كَما في دُعاءِ مُوسَى عليه السَّلامُ {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [قالَ الشيخُ عبدُالرحمن بنُ ناصر السعدي في تفسيره: أَيْ (إِنِّي مُفْتَقِرٌ لِلْخَيْرِ الَّذِي تَسُوقُهُ إِلَيَّ وَتُيَسِّرُهُ لِي)، وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْهُ بِحَالِهِ، وَالسُّؤَالُ بِالْحَالِ أَبْلَغُ مِنَ السُّؤَالِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ. انتهى]، فَهو عليه السَّلامُ تَوَسَّلَ إلى رَبِّه جَلَّ وعَلَا بِاحتِياجِه أنْ يُنْزِلَ عليه خَيْرًا، ومِن ذلك قَولُ الداعِي {اللَّهُمَّ إنِّي ضَعِيفٌ لا أتَحَمَّلُ عَذابَ القَبرِ ولا عَذابَ جَهَنَّمَ فَأَنْجِنِي منهما}، أو يَقولُ {اللَّهُمَّ إنِّي قد آلَمَنِي المَرَضُ فَاشْفِنِي منه}، ويَدْخُلُ في هذا الاعتِرافُ بِالذَّنبِ وإظهارُ الحاجَةِ لِرَحْمَةِ اللهِ ومَغْفِرَتِه، كَما في قَولِه تَعالَى {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ (5)التَّوَسُّلُ بِدُعاءِ الصالِحِين رَجَاءَ أنْ يَستجِيبَ اللهُ دُعاءَهم، وذلك بِأنْ يَطْلُبَ مِن مُسْلِمٍ حَيٍّ حاضِرٍ أنْ يَدْعُوَ له، كَما في قَولِ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ عليه السَّلامُ له {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}، وكَما في قِصَّةِ الأَعْرَابِيِّ الذي طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَدْعُوَ بِنُزُولِ المَطَرِ فَدَعَا صلى الله عليه وسلم، وكَما في قِصَّةِ المَرأةِ التي طَلَبَتْ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لها بِأنْ لا تَتَكَشَّفُ، وكما طَلَبَ عُمَرُ -ومعه الصَّحابةُ- في عَهْدِ عُمَرَ مِنَ العَبَّاسِ أنْ يَسْتَسْقِيَ لهم، أَيْ أنْ يَدْعُوَ اللهَ أنْ يُغِيثَهم بِنُزُولِ المَطَرِ، فَهذه التَّوَسُّلاتُ كُلُّها صَحِيحةٌ، لِأنَّه قد ثَبَتَ في النُّصوصِ ما يَدُلُّ على مَشروعِيَّتِها، وأَجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على ذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجبرين-: القِسْمُ الثانِي، التَّوَسُّلُ المَمنوعُ، لَمَّا كانَ التَّوَسُّلُ جُزْءًا مِنَ الدُّعاءِ، والدُّعاءُ عِبَادَةٌ مِنَ العِباداتِ كَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ {الدُّعاءُ هو العِبَادةُ}، وقد وَرَدَتِ النُّصوصُ الصَّحِيحةُ الصَّرِيحةُ بِتَحْرِيمِ إحداثِ عِبَادةٍ لم تَرِدْ في النُّصوصِ الشَّرعِيَّةِ، فَإنَّ كُلَّ تَوَسُّلٍ لم يَرِدْ في النُّصوصِ ما يَدُلُّ على مَشروعِيَّتِه فَهو تَوَسُّلٌ بِدْعِيٌّ مُحَرَّمٌ [قُلْتُ: إذا كانَ المُتَوَسِّلُ مُتَوَجِّهًا بِدُعائِه إلى اللهِ ومُتَوَسِّلًا بِحَقِّ مَخلوقٍ أو جَاهِهِ أو ذاتِهِ، فَهذا تَوَسُّلٌ بِدْعِيٌّ مُحَرَّمٌ، وهو وَسِيلةٌ إلى الشِّركِ، وأمَّا إذا كانَ المُتَوَسِّلُ مُتَوَجِّهًا إلى مَيِّتٍ أو غائبٍ، فَإنَّ تَوَسُّلَه في هذه الحالةِ يَكونُ شِرْكًا أكبَرَ؛ وذلك على ما مَرَّ بَيَانُه مِن كَلامِ أهلِ العِلْمِ]، ومِن أمْثِلةِ هذه التَّوَسُّلاتِ المُحَرَّمةِ؛ (1)أنْ يَتَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بِذاتِ نَبِيٍّ أو عَبْدٍ صالِحٍ، أو [بِذاتِ] الكَعْبةِ أو غَيرِها مِنَ الأشياءِ الفاضِلةِ، كَأَنْ يَقولَ {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُك بِذَاتِ أَبِينا آدَمَ عليه السَّلامُ أنْ تَرْحَمَنِي}؛ (2)أنْ يَتَوَسَّلَ بِحَقِّ نَبِيٍّ أو عَبْدٍ صالِحٍ، أو [بِحَقِّ] الكَعْبةِ أو غَيرِها؛ (3)أنْ يَتَوَسَّلَ بِجَاهِ نَبِيٍّ أو عَبْدٍ صالحٍ، أو [بِ]بَرَكَتِه أو [بِ]حُرْمَتِه، ونَحْوِ ذلك؛ فَلا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعالَى بِشَيءٍ مِن هذه التَّوَسُّلَاتِ، ولِذلك لم يَثْبُتْ في رِوايَةٍ صَحِيحةٍ صَرِيحةٍ أنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحابةِ أو التَّابِعِين تَوَسَّلَ إلى اللهِ تَعالَى بِشَيءٍ منها، ولو كانَ خَيْرًا لَسَبَقُونا إليه، وقد نُقِلَتْ عنهم أَدْعِيَةُ كَثِيرةٌ جِدًا، وليس فيها شَيءٌ مِن هذه التَّوَسُّلَاتِ، وهذا إجماعٌ مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والتَّابِعِين على عَدَمِ مَشروعِيَّةِ جَمِيعِ هذه التَّوَسُّلَاتِ. انتهى باختصار.

 

وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز آل عبداللطيف في كِتابِه (دَعَاوَى المُنَاوِئِين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب): إنَّ الشيخَ الإمامَ [محمدَ بْنَ عبدِالوهاب] كَفَّرَ مَنِ اِسْتَغاثَ بِالأمواتِ سَوَاءٌ كانوا [أَيِ الأمواتُ] أنبِياءَ أو أَوْلِيَاءَ، ولو سُمِّيَتْ تلك الاستِغاثةُ تَوَسُّلًا، فالعِبرةُ بِالحَقائقِ والمَعانِي ولَيْسَتْ بِالأسماءِ والمَبانِي، فالتَّوَسُّلُ عند عُبَّادِ القُبورِ [قُلْتُ: إذا كانَ المُتَوَسِّلُ مُتَوَجِّهًا بِدُعائِه إلى اللهِ ومُتَوَسِّلًا بِحَقِّ مَخلوقٍ أو جَاهِهِ أو ذاتِهِ، فَهذا تَوَسُّلٌ بِدْعِيٌّ مُحَرَّمٌ، وهو وَسِيلةٌ إلى الشِّركِ، وأمَّا إذا كانَ المُتَوَسِّلُ مُتَوَجِّهًا إلى مَيِّتٍ أو غائبٍ، فَإنَّ تَوَسُّلَه في هذه الحالةِ يَكونُ شِرْكًا أكبَرَ؛ وذلك على ما مَرَّ بَيَانُه مِن كَلامِ أهلِ العِلْمِ. وقد قالَ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ خضير الخضير (المُتَخَرِّجُ مِن كُلِّيَّةِ أُصولِ الدِّينِ بـ "جامعة الإمام" بالقصيم عامَ 1403هـ) في (التَّوضِيحُ وَالتَّتِمَّاتُ على "كَشْفِ الشُّبُهاتِ"): أمَّا أَئِمَّةُ الدَّعوةِ، فَهذا بِالإجماعِ [يَعْنِي إجماعَ أئمَّةِ الدَّعوةِ النَّجْدِيَّةِ السَّلَفِيةِ]، يَرَوْنَ أنَّ طَلَبَ الدُّعاءِ مِنَ الأمواتِ [عند قُبورِهم] مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ. انتهى] يُطْلِقونه على الاستِغاثةِ بِالمَوْتَى وطَلَبِ الحاجَاتِ منهم. انتهى.

 

 

المسألة الثامنة والعشرون

 

زيد: لو تَجاوَزْنا مسألةَ وُجودِ قبرٍ في مسجدٍ، فإنَّه مِنَ المَعروفِ أنَّ أَئِمَّةَ المساجدِ التي بِداخِلها قبورٌ هُمْ مِنَ القُبُورِيِّين؛ فَهَلْ تَصِحُّ الصلاةُ خَلْفَ قُبُورِيٍّ؟.

 

عمرو: قالَ الشيخُ ابنُ جبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء) في (شرح اعتقاد أَهْلِ السُّنَّةِ): فإذا عَرَفْتَ -مَثَلًا- أنَّ هذا الخَطيبَ أو أنَّ هذا الإمامَ مُشْرِكٌ يَعبُدُ أهْلَ البَيتِ، عَلِيًّا أو ذُرِّيَّتَه، كالرافِضةِ، أو يَعبُدُ عَبْدَالْقَادِر، أو ابْنَ علوان، أو البَدَوِيَّ، أو نحوَهم مِنَ المَعبوداتِ، بمَعْنَى أنَّه يَطُوفُ بالقبرِ، أو يَدْعُو المَيِّتَ نَفْسَه، فيقولُ يا معروفُ! أو يا جُنَيْدُ! أو يا ابنَ علوان! أو يا عَبْدَالْقَادِر!، أو يا كذا وكذا! أَنَا في حَسْبِك، أو ما لِي إلَّا اللهُ وأنتَ، أو نحوَ ذلك، فإنَّ هذا يُعتبَرُ مُشرِكًا، فلا تَصِحُّ الصلاةُ خَلْفَه، لأنَّ شِرْكَه أخْرَجَه مِنَ الإسلامِ، فإذا اُضْطُرَّ الإنسانُ إلى أنْ يُصلِّيَ خَلْفَهم فإنَّا نَأْمُرُه بالإعادةِ، ولكنْ مَتَى يكونُ مُضْطَرًّا؟، مَوجُودٌ في كثيرٍ مِنَ البلادِ الإفْرِيقِيَّةِ أنَّ وُلاةَ الأَمْرِ وأئمَّةَ وخُطَباءَ المساجدِ مِن هؤلاء المُتَصَوِّفةِ، ومعهم كثيرٌ مِنَ البِدَعِ المُكَفِّرةِ، ومِن أشهرِها أنَّهم يَدْعُون الأمواتَ ويَعتقِدون فيهم، أو أنَّهم غُلَاةٌ في التَّصَوُّفِ، بمَعْنَى أنَّهم مَلَاحِدةٌ أو اتِّحادِيَّةٌ، فيَقولُ بعضُ أهْلِ الخَيرِ {إذا لم نُصَلِّ خَلْفَهم آذَوْنَا واتَّهَمُونا بأنَّنا نُخالِفُهم أو نُكَفِّرُهم، فيُؤذُوننا ويَسْجُنوننا ويَقْتُلوننا ويُشَرِّدوننا ويَطْرُدوننا، فماذا نَفْعَلُ؟}، فنقولُ، إنْ وَصَلَتِ البِدْعةُ إلى التكفيرِ فإنَّك تُصَلِّي معهم مُداراةً لهم وتُعِيدُ، وإنْ لم تَصِلِ البِدْعةُ إلى التكفيرِ فصَلِّ معهم، فصلاتُك لك وصلاتُهم لهم؛ وأجازَ بعضُ العلماءِ أنْ تَدْخُلَ معهم وأنت تَنْوِي الانْفِرادَ، فتُتابِعُ الإمامَ ولكِنَّك مُنْفَرِدٌ تُصلِّي لِنَفْسِك، فتَقْرَأُ ولو كان يَقْرَأُ، وتُسَمِّعُ بقولِك {سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه}، وتُصلِّي صلاةً كاملةً بِنِيَّةِ أنَّك مُنْفَرِدٌ إذا خَشِيتَ على نَفْسِك مِن أنْ يَتَّهِمُوك بأنَّك ثَوْرِيٌّ أو إرهابِيٌّ أو مُخالِفٌ أو نحوُ ذلك فيَضُرُّوك، فَلَكَ أنْ تَتَّقِيَ شَرَّهم بذلك، وإنْ تَمكَّنْتَ مِن أنْ تُصَلِّيَ وَحْدَك، أو وَجَدْتَ مسجدًا -ولو بعيدًا- فيه إمامٌ مستقيمٌ، فهو الأَوْلَى. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على مَوقِعِ الشيخِ ابنِ باز، سُئِلَ الشيخُ: يُوجَدُ إمامُ مسجدٍ في إحدى القُرَى مِنَ الذِين يَزُورون القِبَابَ، ويَسألون أصحابَها الأمواتَ النَّفْعَ وجَلْبَ المَصالحِ، وكذلك يَلْبِسُ الحُجُبَ ويَتَبَرَّكُ بالحِجَارةِ التي على الأَضْرِحةِ؛ السؤالُ، هَلْ تَجوزُ الصلاةُ خَلْفَه؟ وإذا كانتِ الإجابةُ بالنَّفْيِ فماذا نَفْعَلُ؟ مع العلمِ أنَّه ليس هناك مسجدٌ آخَرُ؟. فكان مِمَّا أجابَ به الشيخُ: مَن كان يَزُورُ القُبورَ ويَدْعُو أهْلَها مِن دُونِ اللهِ لِيَستَغِيثَ بهم، ويَتَمَسَّحُ بقُبورِهم، ويَسألُهم شِفَاءَ المَرْضَى والنَّصْرَ على الأعداء، فهذا ليس بمُسلِمٍ، هذا مُشْرِكٌ، لِأنَّ دُعاءَ الأمواتِ والاستغاثةَ بالأمواتِ والنَّذْرَ لهم، مِن أنواعِ الكُفْرِ باللهِ، فلا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إمامًا، ولا يُصَلَّى خَلْفَه، وإذا لم يَجِدِ المسلمون مسجدًا آخَرَ صَلُّوا قَبْلَه أو بَعْدَه، صَلُّوا في المسجدِ الذي يُصَلِّي فيه، لكنْ بَعدَه أو قَبْلَه، فإنْ تَيسَّرَ عَزْلُه وجَبَ عَزْلُه، وإنْ لم يَتَيسَّرْ فإنَّ المسلمِين ينتظرون صلاةَ هؤلاء ثم يُصَلُّون بعدَهم، أو يَتَقَدَّمونهم إذا دَخَلَ الوقتُ ويُصَلُّون قَبْلَهم إذا أمْكَنَ ذلك، فإنْ لم يُمْكِنْهم صَلُّوا في بُيُوتِهم. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على مَوقِعِ الشيخِ ابنِ باز يقولُ الشيخُ: الصلاةُ لا تَصِحُّ خَلْفَ المُشرِكِ، فالذي يَعْبُدُ القبورَ لا يُصَلَّى خَلْفَه، كعُبَّادِ الحُسَينِ وعُبَّادِ البَدَوِيِّ وأَشْباهِهم، وعُبَّادِ الشَّيْخِ عَبْدِالْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ وعُبَّادِ الأصنامِ وغيرِ هذا، كُلُّ مَن كان يَعْبُدُ غيرَ اللهِ، يَدعُوه ويَستغيثُ به، أو يَطُوفُ بقَبرِه ويَسْأَلُه قَضَاءَ الحاجَةِ، أو يُصَلِّي له، أو يَذبَحُ له [قالَ الشيخُ فيصلٌ الجاسمُ (الإمامُ بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكُوَيْتِ) في مقالة بعنوان (حُكْمُ الذَّبْحِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ وشُكرًا له على إعادةِ فَتْحِ المَساجِدِ) على مَوقِعِه في هذا الرابط: فقد كَثُرَ الكلامُ حولَ قِيامِ بعضِ الجَمعِيَّاتِ الخَيرِيَّةِ بِذَبْحِ مِائةٍ شاةٍ بِجِوارِ (المَسجِدِ الكَبِيرِ [بالكُوَيْتِ]) شُكْرًا لِلَّهِ على إعادةِ فتحِ المَساجِدِ بَعْدَ (إغلاقِها بَسَبَبَ وَباءِ "كورونا")، بِتارِيخِ 18 شوال 1441هـ المُوافِقِ 10 يونيو 2020م، ما بَيْنَ قابِلٍ ومانِعٍ؛ ولِأهَمِّيَّةِ الموضوعِ أَحْبَبْتُ أنْ أَذكُرَ بعضَ الأمورِ المُعِينةِ على معرفةِ الحُكمِ الشرعيِّ فيما وَقَعِ؛ فأقولُ؛ أوَّلًا، ثَمَّةَ [(ثَمَّةَ) اِسمُ إشارةٍ لِلمَكانِ البَعِيدِ بِمَعْنَى (هُنَاكَ)] فَرْقٌ بَيْنَ الذَّبْحِ على وَجهِ القُربةِ، وهو ما يُعَبَّرُ عنه بـ (ذَبْحِ القُرْبَانِ)، وبَيْنَ الذَّبْحِ على غير وَجهِ القُربةِ [قالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في (فتاوى الحرم المكي): الذي يُتَقَرَّبُ بالذَّبْحِ فيه أربَعةُ أنواعٍ، الأضاحِي والْهَدْيِ وَالْفِدْيَةِ والعَقِيقةِ، كَمْ صارَتْ؟، أَربَعةً، هذه يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ تَعالَى بذَبْحِها، وأمَّا ما عَدا ذلك فَلَا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ ابنُ عثيمين-: الوَلِيمةُ، هَلِ الإنسانُ يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ بِذَبْحِها أو بِلَحْمِها؟، لا يَظهَرُ لي أنَّها مِن بابِ التَّعَبُّدِ بِالذَّبْحِ، ولَكِنَّها مِن بابِ التَّعَبُّدِ باللَّحْمِ. انتهى باختصار. وفي هذا الرابط قالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوِزَارةِ الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر: فَلَيسَ شُهودُ الأُضْحِيَّةِ شَرْطًا في إجزائها، بَلْ مَن وَكَّلَ غَيرَه في ذَبْحِ أُضْحِيَّتِه أَجزَأَه ذلك وإنْ لم يَشهَدْها، وإنْ كانَ شُهودُ الأُضْحِيَّةِ مُستَحَبًّا. انتهى. قُلْتُ: يُمكِنُكَ في ذَبْحِ القُرْبَانِ أنْ تُوَكِّلَ غَيرَك في القِيَامِ بِالذَّبْحِ، ولا يُشتَرَطُ في ذلك نِيَّةُ الوَكِيلِ، لَكِنْ يَلْزَمُ مَن يَقومُ بِالذَّبْحِ التَّسمِيَةُ عند الذَّبْحِ]، وهو (الذَّبْحُ بِقَصدِ اللَّحْمِ)، فَصورةُ ذَبحِ القُربةِ [هي] إزهاقُ الرُّوحِ تَقَرُّبًا لِلَّه تعالى، حيث يكونُ المقصودُ مِنَ الفِعلِ إزهاقُ الرُّوحِ على وَجهِ التَّقَرُّبِ، وأمَّا الانتفاعُ باللَّحْمِ فهو مُتَمِّمٌ له وليس مَقصودًا أصالةً، وعلى هذا فالقُربةُ تَحْصُلُ بِذاتِ الذَّبحِ لا بِالانتِفاعِ به، كَما في قَولِه تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}، وهذا النَّوعُ مِنَ الذَّبْحِ هو الذي يَتَقَرَّبُ به المُشرِكون لِأصنامِهم وأوثانِهم، ومنه الذَّبْحُ للقُبورِ والأضرِحةِ، والذَّبْحُ لِلجِنِّ والشَّياطِين، فَإنَّ مقصودَ هؤلاء المُشرِكِين التَّقَرُّبُ بِالذَّبحِ لِمَعبوداتِهم، وهذا النَّوعُ مِنَ القُربةِ لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالذَّبحِ، فَلَوْ ذَبَحَ رَجُلٌ ذَبِيحةً نَهَارَ الأَضْحَى لِإطعامِ أهلِ بَيتِه ثم نَوَاهَا أُضْحِيَّةً لم تَصِحَّ [لِأنَّه لم يَنْوِ عند الذَّبحِ التَّقَرُّبَ بها]، وَلَوِ اِشتَرَى ذَبِيحةً مِن مَحَلَّات اللُّحومِ لِيَجعَلَها عَقِيقةً لم تَصِحَّ [لِأنَّه لم يَنْوِ عند الذَّبحِ التَّقَرُّبَ بها]، ومِثْلُه يُقالُ في الْهَدْيِ وَالْفِدْيَةِ [الْهَدْيُ هو مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ تَقَرُّبًا إِلى اللهِ تعالى، وما يَجِبُ بِسَبَبِ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ أو إِحْصَارٍ؛ وأما الْفِدْيَةُ هي ما يجب على الْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ بِسَبَبِ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ]، إذِ المَقصودُ أنْ تُذْبَحَ الذَّبِيحةُ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ، أُضْحِيَّةً كانَتْ أوْ عَقِيقةً أو هَدْيًا أو فِدْيَةً، قالَ الشيخُ العثيمين [في المجموع المتين من فقه وفتاوى العمرة والحج] {وليس الحِكمةُ مِنَ الأُضْحِيَّةِ حُصولَ اللَّحْمِ وأَكْلَ اللَّحْمِ، ولِكِنَّ الحِكمةَ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَعالَى بِذَبْحِها... ظَنَّ بعضُ الناسِ أنَّ المَقصودَ [أَيْ مِنَ الأُضْحِيَّةِ] الأَكْلُ والانتِفاعُ بِاللَّحْمِ، وهذا ظَنٌّ قاصِرٌ، بَلْ أَهَمُّ شَيءٍ أنْ تَتَعَبَّدَ لِلَّهِ تَعالَى بِذَبحِها}، ومِن هُنا فَلا يُشتَرَطُ في هذا النَّوعِ [وهو الذَّبْحِ على وَجهِ القُربةِ] وُجودُ المُنتَفِعِين بِاللَّحْمِ، بَلْ لَوْ قُدِّرَ أنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أو يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ، ولا يُوجَدُ في قَريَتِه مَن يَنتَفِعُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ، لِعِلَّةٍ أو مَرَضٍ في أهلِ القَريَةِ، لم يُمْنَعْ مِنَ الذَّبْحِ، إذِ المَقصودُ حاصِلٌ بِذاتِ الذَّبْحِ وإزهاقِ الرُّوحِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ، لا بِالانتِفاعِ بِاللَّحْمِ، وإنَّما الانتِفاعُ مُتَمِّمٌ له وليس أَصلًا، قالَ اِبنُ الْهُمَامِ [ت861هـ] في الهَدْيِ [وهو مَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ تَقَرُّبًا إِلى اللهِ تعالى، وما يَجِبُ بِسَبَبِ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ أو إِحْصَارٍ] {ليس المُرادُ مُجَرَّدُ التَّصَدُّقِ باللَّحْمِ، وإلا لَحَصَلَ التَّصَدُّقُ بالقِيمةِ أو بِلَحْمٍ يَشتَرِيه، بَلِ المُرادُ التَّقَرُّبُ بالإراقةِ، مع التَّصَدُّقِ بلَحْمِ القُربانِ وهو تَبَعٌ مُتَمِّمٌ لِمَقصودِه}، وأمَّا الذَّبْحُ بِقَصدِ اللَّحْمِ، فالمقصودُ منه هو اللَّحْمُ، والذَّبْحُ وَسِيلةٌ، كَمَن يَذْبَحُ لإطعامِ أهلِ بَيْتِه، أو يَذْبَحُ لِعَمَلِ مَأْدُبةٍ بِمُناسَبةِ سُكْنَى مَنزِلٍ جَدِيدٍ، أو بِمُناسَبةِ تَخَرُّجٍ أو تَرْقِيَةٍ ونحوِ ذلك، فالمقصودُ مِن هذا النَّوعِ مِنَ الذَّبْحِ هو الإطعامُ والإكرامُ والصَّدَقةُ والهَدِيَّةُ، هذا هو وَجْهُ القُرْبَةِ فيه، فَيَكونُ داخِلًا في عُمومِ الصَّدَقاتِ والهَدايَا والهِبَاتِ، ولذلك قد يُطعِمُ الإنسانُ ضُيوفَه أو يُهْدِي أو يَتَصَدَّقُ، بِلَحْمٍ مِن لَحْمِ بَيْتِه أو قد يَشتَرِيه مَذبوحًا مِنَ الخارِجِ، لِأنَّ المقصودَ حاصِلٌ بالإطعامِ والإكرامِ والصَّدَقةِ والهَدِيَّةِ، و[جاء] في الموسوعة الفقهية في تعريف الأُضْحِيَّةِ {فَلَيسَ مِنَ الأُضْحِيَّةِ ما يُذَكَّى لِغَيرِ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تَعالَى، كالذَّبائحِ التي تُذْبَحُ لِلبَيعِ أو الأَكْلِ أو إكرامِ الضَّيفِ}، إذا تَبَيَّنَ هذا، عُرِفَ الفَرْقُ بين الذَّبْحِ على وَجْهِ القُربةِ وبين الذَّبْحِ بِقَصدِ اللَّحْمِ، وعُرِفَ الخَلْطُ الحاصِلُ عند بَعضِ الناسِ في إدخالِهم الذَّبْحَ بِمُناسَبةِ زَواجٍ أو تَخَرُّجٍ أو سُكنَى مَنزِلٍ جَدِيدٍ، في ذَبْحِ القُرْبَةِ، فَتَراهُمْ يَنْقُلون كَلامَ العُلَماءِ في الذَّبْحِ بِقَصدِ اللَّحْمِ والصَّدَقةِ به، مُستَدِلِّين به على ذَبْحِ القُرْبَةِ، و[الواقِعُ أنَّ] مَنْ أطلَقَ مِنَ العُلَماءِ لَفْظَ (القُرْبَةِ) على هذا النَّوعِ مِنَ الذَّبْحِ إنَّما أرادَ به التَّقَرُّبَ لِلَّهِ بِإطعامِ اللَّحْمِ والصَّدَقةِ به أو إهدائه، لا بِذاتِ الذَّبْحِ وإزهاقِ الرُّوحِ، وهذا [أَيِ التَّقَرُّبُ لِلَّهِ بِإطعامِ اللَّحْمِ والصَّدَقةِ به أو إهدائه] هو وَجْهُ كَونِه [أَيِ كَونِ الذَّبْحِ بِقَصدِ اللَّحْمِ] شُكرًا لِلَّهِ، إذْ هو داخِلٌ في عُمومِ الصَّدَقةِ والقُربةِ، ومِنَ المَعلومِ أنَّه لو كانَ قُربةً مَحْضَةً كَذَبْحِ القُربانِ لَجازَ فِعلُه حتى لو لم يُوجَدْ مَنْ يَنتَفِعُ به، وهذا ما لا يَقولُه العُلَماءُ؛ ثانِيًا، أنَّ الذَّبْحَ بِقَصدِ اللَّحْمِ، متى ما خَرَجَ عن صُورَتِه إلى صُورةِ الذّبْحِ تَقَرُّبًا لِغَيرِ اللهِ فإنَّه يُمنَعُ منه مع قَطْعِ النَّظَرِ عن نَيَّةِ الذابِحِ، كالذَّبْحِ في طَرِيقِ السُّلطانِ أو أمامَ المُعَظَّمِين مِنَ الناسِ وإراقةِ الدَّمِ أمامَهم، لِكَونِ ظاهِرِه يَدُلُّ على التَّقَرُّبِ لِلسُّلطانِ أَوِ المُعَظَّمِ، في حين لو ذَبَحَ الإنسانُ في مَوضِعِ الذَّبْحِ [المعتاد] أو في بَيْتِه وأَطعَمَ الناسَ فَرَحًا بِقُدومِ السُّلطانِ أو المُعَظَّمِ لم يُمنَعْ منه، فالحُكْمُ في مِثلِ هذه الحالِ [التي خَرَجَ فيها (الذَّبْحُ بِقَصدِ اللَّحْمِ) عن صُورَتِه إلى صُورةِ (الذّبْحِ تَقَرُّبًا لِغَيرِ اللهِ)] يَتَعَلَّق بِظاهِرِ الفِعْلِ، لا بِنِيَّة الفاعِلِ، ومِن هنا مَنَعَ العُلَماءُ مِن كُلِّ ذَبْحٍ يُوهِمُ شِركًا أو بِدْعةً، أو في ظاهِرِه مُشابَهةٌ لِلمُشرِكِين كَمَنْعِهم الذَّبْحَ وَقْتَ الأمراضِ والأَوبِئةِ، وهذا بابٌ عَظِيمٌ اِعتَنَى الشَّرعُ بِسَدِّ بابِه ومَنْعِ وسائلِه وذَرائعِه، فالذَّبْحُ بِقَصدِ اللَّحْمِ مَتَى أَوهَمَ شِرْكًا وذَبْحًا لِغَيرِ اللهِ مُنِعَ منه حَسمًا لِمادَّةِ الشِّركِ وسَدًّا لِذَرائعِه، ومنه الذَّبْحُ عند وُقوعِ الأَوبِئةِ والأمراضِ والطَّواعِينِ سَدًّا لِذَرِيعةِ الشِّركِ ومَنْعًا مِن مُشابَهةِ المُشرِكِين، قالَ الشيخُ سَعْدُ بْنُ حَمَدِ بْنِ عَتِيقٍ [في (حُجَّةُ التَّحرِيضِ على النَّهيِ عنِ الذَّبْحِ عند المَرِيضِ)] {فاعلَمْ أنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يَذبَحُ عند المَرِيضِ لِغَيرِ مَقصِدٍ شِركِيٍّ، وإنَّما يَقصِدُ بِالذَّبْحِ التَّقَرُّب إلى اللهِ بِالذَّبِيحةِ والصَّدَقةِ بِلَحْمِها على مَن عنده مِنَ الأقارِبِ والمَساكِينِ وغَيرِهم، ولا يَخفَى أنَّ قاعِدةَ (سَدِّ الذَّرائعِ المُفْضِيَةِ إلى الشَّرِّ) و(دَرْءِ المَفاسِدِ) تَقتَضِي المَنْعَ مِن فِعْلِ ذلك والنَّهيَ عنه، لِأنَّ ذلك ذَرِيعةٌ قَوِيَّةٌ وفَتْحُ بابِ فِعْلِ الشِّركِ المُحَرَّمِ، لِمَا قد عَرَّفْناك أنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ يَذْبَحُ عند المَرِيضِ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ لِلجِنِّ ولَكِنَّه يُخْفِي قَصْدَه عنِ النَّاسِ، وهذا يَعْلَمُه مَن عَرَفَ أحوالَ الناسِ}؛ ثالِثًا، هَلْ يَجُوزُ التَّقَرُّبُ لِلَّهِ بِالذَّبْحِ [يَعنِي التَّقَرُّبَ بِالذَّبْحِ أَصالةً، بِحيث يَكونُ الانتِفاعُ بِاللَّحمِ أو التَّصَدُّقُ به تَبَعًا] على وَجْهِ الشُّكْرِ أو على وَجْهِ الصَّدَقةِ ونَحْوِ ذلك؟، إذا عُرِفَ أنَّ ذَبْحَ القُرْبانِ عِبادةٌ وقُرْبةٌ، فَإنَّ الأصلَ في العِباداتِ المَنْعُ إلَّا ما دَلَّ عليه الدَّلِيلُ، ولم يَأْتِ في النُّصوصِ ما يَدُلُّ على التَّقَرُّبِ لِلَّهِ بِالذَّبْحِ في غَيرِ (الْهَدْيِ والأُضْحِيَّةِ والعَقِيقةِ وَالْفِدْيَةِ)، والأصلُ ألَّا يُتَعَبَّدَ لِلَّهِ إلَّا بما شَرَعَ، فإذا لم يَأْتِ في النُّصوصِ ولا في عَمَلِ الصَّحابةِ ما يَدُلُّ على جَوازِ التَّقَرُّبِ لِلَّهِ تَعالَى بِالذَّبْحِ بِغَيرِ المَذكوراتِ، يَكونُ التَّقَرُّبُ لِلَّهِ تَعالَى به مِنَ المُحْدَثاتِ كَما نَصَّ عليه العُلَماءُ، وقالَ العثيمين [في (فتاوى الحرم المكي)] {فَكُلُّ عَمَلٍ صالِحٍ تَتَقَرَّبُ به إلى اللهِ فإنَّه شُكْرٌ، فَعَلَى هذا إذا حَصَلَ لِلإنسانِ نِعْمةٌ فَإنَّه يُشرَعُ له أنْ يَسجُدَ سُجودَ شُكْرِ، ولا بَأْسَ أنْ يَتَصَدَّقَ أو أنْ يُعْتِقَ، أو ما أَشبَهَ ذلك، مِن أَجْلِ شُكْرِ اللهِ تَعالَى على هذه النِّعْمةِ، وأمَّا الذَّبْحُ، فالذي يُتَقَرَّبُ به إلى اللهِ مِنَ الذَّبحِ (الأضاحِي والْهَدْيُ وَالْفِدْيَةُ والعَقِيقةُ)}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالح آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في (كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد): الذَّبْحُ فيه شَيئان مُهِمَّان؛ الأوَّلُ، الذَّبْحُ بِاسم اللهِ (أو الذَّبْحُ بِالإهلالِ بِاسمٍ ما)؛ والثانِي، أنْ يَذبَحَ مُتَقَرِّبًا [أَيْ بِذاتِ الذَّبْحِ] لِمَا يُرِيدُ أنْ يَتَقَرَّبَ إليه [لا يُشتَرَطُ في الذَّبْحِ أنْ يَنْوِيَ الذابِحُ التَّقَرُّبَ بِالذَّبِحِ إلى اللهِ، إلَّا ما كانَ مِن ذَبْحِ القُرْبَانِ]؛ فإذَنْ ثَمَّ [(ثَمَّ) اِسمُ إشارةٍ لِلمَكانِ البَعِيدِ بِمَعْنَى (هُنَاكَ)] تَسمِيَةٌ، وثَمَ القَصْدُ؛ أما التسميةُ فَظاهِرُ أنَّ ما ذُكِرَ اِسمُ الله عليه فإنه جائزٌ {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}، وأنَّ ما لم يُذكَرِ اِسمُ اللهِ عليه فَهذا الذي أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ، يعني ذُكِرَ غيرُ اِسمِ اللهِ عليه، فَهذا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، التسميةُ على الذبيحةِ مِن جهةِ المَعْنَى اِستِعانةٌ، فإذا سَمَّى اللهَ فإنه اِستَعانَ في هذا الذَّبْحِ بِاللهِ جل وعلا، لِأنَّ الباءَ في قولِك {بِسمِ اللهِ} يعني أَذْبَحُ مُتَبَرِّكًا ومُستَعِينًا بِكُلِّ اِسمٍ للهِ جل وعلا، أو بِاللهِ جل وعلا الذي له الأسماءُ الحُسْنَى، فإذَنْ جِهةُ التسميةِ جِهةُ اِستِعانةٍ؛ وأمَّا القَصْدُ، فهذه جِهةُ عُبودِيَّةٍ ومَقاصِدَ [لا يُشتَرَطُ في الذَّبْحِ أنْ يَنْوِيَ الذابِحُ التَّقَرُّبَ بِالذَّبِحِ إلى اللهِ، إلَّا ما كانَ مِن ذَبْحِ القُرْبَانِ]؛ فَ[مَنْ] ذَبَحَ بِاسمِ اللهِ للهِ، كانَتِ الاستعانةُ بالله، والقَصْدُ مِنَ الذَّبْحِ أنه لِوَجهِ اللهِ (تَقَرُّبًا للهِ جل وعلا)... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ صالحٌ-: فَصارَتِ الأحوالُ عندنا أربَعةً؛ الأوَّلُ، أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ اللهِ للهِ، وهذا هو التوحيدُ؛ الثانِيَةُ، أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ اللهِ لِغَيرِ اللهِ، وهذا شِركٌ في العِبادةِ؛ الثالِثةُ، أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ غَيرِ اللهِ لِغَيرِ اللهِ، وهذا شِركٌ في الاستِعانةِ وشِركٌ في العِبادةِ أيضًا؛ الرابِعةُ، أنْ يَذْبَحَ بِغَيرِ اِسمِ اللهِ ويَجْعَلَ الذَّبِيحةَ [يَعْنِي (ذاتَ الذَّبْحِ)] للهِ، وهذا شِركٌ؛ فَإذَنِ الأحوالُ عندنا أربَعةٌ؛ [الحالةُ الأُولَى]، أنْ يَكونَ تَسْمِيَةٌ [بِاللهِ]، مع القَصْدِ لله جل وعلا وَحْدَه، وهذا هو التوحيدُ، فالواجِبُ أنْ يَذْبَحَ للهِ قَصْدًا (تَقَرُّبًا) [لا يُشتَرَطُ في الذَّبْحِ أنْ يَنْوِيَ الذابِحُ التَّقَرُّبَ بِالذَّبِحِ إلى اللهِ، إلَّا ما كانَ مِن ذَبْحِ القُرْبَانِ]، وأنْ يُسَمِّيَ اللهَ على الذَّبيحةِ، فَإنْ لم يُسَمِّ اللهَ جل وعلا وتَرَكَ التسميةَ عَمْدًا [قالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين في فتوى صَوتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ له على موقعه في هذا الرابط: ولهذا كانَ القَولُ الصَّحِيحُ في هذه المَسألةِ ما اِختارَه شيخُ الإسلامِ اِبنُ تيميةَ رَحمِه اللهُ، وهو أنَّ الذَّكاةَ يُشتَرَطُ فيها التَّسمِيَةُ، وأنَّ التَّسمِيَةَ في الذَّكاةِ لا تَسقُطُ سَهوًا ولا جَهلًا ولا عَمدًا، وأنَّ ما لم يُسَمَّ اللهُ عليه فهو حَرامٌ مُطلَقًا وعلى أيِّ حالٍ، لِأنَّ الشَّرطَ لا يَسقُطُ بِالنِّسيَانِ ولا بِالجَهلِ. انتهى] فَإنَّ الذَّبِيحةَ لا تَحِلُّ، وإنْ لم يَقْصِدْ بالذبيحة [يَعْنِي (بِذاتِ الذَّبْحِ)] التَّقَرُّبَ إلى الله جل وعلا ولا التَّقَرُّبَ لِغَيرِه، وإنَّما ذَبَحَها لِأجْلِ أَضْيَافٍ عنده أو لِأجْلِ أنْ يَأْكُلَها -يعني ذَبَحَها لِقَصْدِ اللَّحْمِ (لم يَقْصِدْ بها التَّقَرُّبَ)- فهذا جائزٌ وهو مِنَ المَأْذونِ فيه، لِأنَّ الذَّبْحَ [الغَيرَ داخِلٍ في ذَبْحِ القُرْبَانِ] لا يُشتَرَطُ فيه أنْ يَنْوِيَ الذابِحُ التَّقَرُّبَ بِالذبيحةِ [يَعْنِي (بِذاتِ الذَّبْحِ)] إلى الله جل وعلا، فَإذَنْ صارَ عندك في الحالةِ الأُولَى أنْ تَعْلَمَ أنَّ ذِكْرَ اسمِ اللهِ على الذبيحة واجبٌ، وأنْ يكونَ قَصْدُك بالتَّقَرُّبِ بهذه الذبيحةِ -إنْ نَوَيْتَ بها تَقَرُّبًا- أنْ يكونَ للهِ لا لِغَيرِه، وهذا مِثْلُ ما يُذبَحُ مِنَ الأضاحِي أو يُذبَحُ من الْهَدْيِ أو نَحوِ ذلك مِمَّا يَذْبَحُه المَرْءُ تَعظِيمًا للهِ جل وعلا، فهذا تَذْبَحُه للهِ، يعني أنْ تَقْصِدَ التَّقَرُّبَ للهِ بِالذبيحةِ [يَعْنِي (بِذاتِ الذَّبْحِ)]، فَهذا مِنَ العباداتِ العظيمةِ التي يُحِبُّها اللهُ جل وعلا، وهي عِبادةُ النَّحْرِ والذَّبْحِ، قد يَذْبَحُ بِاسمِ اللهِ، لَكِنْ [يَقولُ] {أُرِيدُها لِلأضْيَافِ، أُرِيدُها لِلَّحْمِ (لِآكُلَ لَحْمًا)، ولم أتَقَرَّبْ بها لِغيرِ اللهِ، أيضًا لم أتَقَرَّبْ بها للهِ}، فَنَقولُ، هذه الحالةُ جائزةٌ لِأنَّه سَمَّى بِاسمِ اللهِ ولم يَذْبَحْ لِغيرِ اللهِ، فليس داخِلا في الوَعِيدِ ولا في النَّهْيِ، بَلْ ذلك مِنَ المَأْذونِ فيه؛ الحالةُ الثانِيَةُ، أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ اللهِ، ويَقْصِدَ التَّقَرُّبَ بِأنَّ هذه الذَّبِيحةَ [يَعْنِي (هذا الذَّبْحَ)] لِغيرِ اللهِ، فَيَقولُ مَثَلًا {بِسمِ اللهِ} ويَنْحَرُ الدَّمَ، وهو يَنْوِي بِإزهاقِ النَّفْسِ وبِإراقةِ الدَّمِ، يَنْوِي التَّقَرُّبَ لهذا العَظِيمِ المَدفونِ (لِهذا النَّبِيِّ، أو لِهذا الصالِحِ)، فهو ذَبَحَ بِاسمِ اللهِ، [ولَكِنْ مع ذلك] فإنَّ الشِّركَ حاصِلٌ مِن جِهةِ أنَّه أراقَ الدَّمَ تَعظِيمًا لِلمَدفون، تَعظِيمًا لِغيرِ اللهِ، كذلك يَدخُلُ فيه أنْ يَذكُرَ اِسمَ اللهِ على الذبيحةِ أو على المَنحورِ ويكونُ قَصْدُه بِالذَّبْحِ أنْ يَتَقَرَّبَ به لِلسُّلطانِ أو لِلمُلوكِ أو لِأمِيرٍ ما، وهذا يَحدُثُ عند بَعضِ البادِيَةِ وكذلك بَعضِ الحَضَرِ، إذا أرادوا أنْ يُعَظِّموا مَلِكًا قادِمًا، أمِيرًا قادِمًا، أو أنْ يُعَظِّموا سُلطانًا أو شَيخَ قَبِيلةٍ، فإنَّهم يَستَقبِلونه بِالجِمَالِ، يَستَقبِلونه بِالبَقَرِ، يَستَقبِلونه بِالشِّيَاهِ، وَيذْبَحونها في وَجْهِه [أَيْ وَجْهِ المُعَظَّمِ] فَيَسِيلَ الدَّمُ عند إقبالِه، هذا ذَبْحٌ سُمِّيَ اللهُ عليه لَكِنَّ الذبيحةَ [يَعْنِي (الذَّبْحَ)] قُصِدَ بها غيرُ اللهِ جل وعلا، وهذه أفْتَى العُلَماءُ بِتَحرِيمِها، لِأنَّ فيها إراقةَ دَمٍ لِغيرِ اللهِ جل وعلا، فَلا يَجوزُ أَكْلُها، ومِن بابٍ أَوْلَى قَبْلَ ذلك لا يَجوزُ تَعظِيمُ أولئك بِمِثْلِ هذا التَّعظِيمِ لِأنَّ إراقةَ الدَّمِ إنَّما يُعَظَّمُ به اللهُ جل وعلا وَحْدَه [قالَ الشيخُ صالح آل الشيخ في مَوضِعٍ آخَرَ مِن (كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد): والحالةُ الثانِيَةُ، صُورةٌ منها أنْ يَذبَحَ لِسُلطانٍ أو نحوِه، بَعضُ العُلَماءِ ما أَطلَقَ عليها أنَّها (شِرْكٌ)، وإنَّما قالَ {تَحْرُمُ}، لِأجْلِ أنَّه لا يَقْصِدُ بذلك تَعظِيمًا كَتَعظِيمِ اللهِ جَلَّ وعَلَا. انتهى]؛ الحالةُ الثالثةُ، أنْ يَذْكُرَ غيرَ اِسمِ اللهِ وأنْ يَقْصِدَ بِالذبيحةِ [يَعْنِي (بِذاتِ الذَّبْحِ)] غَيْرَ اللهِ جل وعلا، فَيَقولُ مَثَلًا {بِاسمِ المَسِيحِ} وَيَقْصِدُ التَّقَرُّبَ [بِالذَّبْحِ] لِلمَسِيحِ، فَهذا الشِّركُ جَمَعَ شِركًا في الاستِعانةِ وشِركًا في العِبادةِ، أو أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ (البَدَوِيِّ)، فَيَذْبَحُ بِاسمِه ويَنْوِي حين يَذْبَحُ أنْ يُرِيقَ الدَّمَ تَقَرُّبًا لِهذا المَخلوقِ، فَهذا الشِّركُ جاء مِن جِهَتَين، الجِهةُ الأُولَى جِهةُ الاستِعانةِ، والجِهةُ الثانِيَةُ جِهةُ العُبودِيَّةِ والتَّعظِيمِ وإراقةِ الدَّمِ لِغَيرِ اللهِ جلَّ وعلا؛ وَ[الحالةُ] الرابِعةُ، أنْ يَذْبَحَ بِاسمِ غَيرِ اللهِ ويَجْعَلَ ذلك [أَيِ الذَّبْحَ] لِلَّهِ جَلَّ وعَلا -وهذا نادِرٌ- [مِثْلَ] أنْ يَذْبَحَ [بِاسمِ] (البَدَوِيِّ) أو نحوِ ذلك، ثم يَنْوِيَ بِهذا [أَيْ بِالذَّبْحِ] أنْ يَتَقَرَّبَ إلى اللهِ جَلَّ وعلا، وهذا في الحَقِيقةِ راجِعٌ إلى الشِّركِ في الاستِعانةِ والشِّركِ في العِبادةِ... ثم سُئِلَ الشيخُ صالِحٌ {عندنا عادةٌ، وهي أنَّ مَن حَصَلَ بينه وبين شَخْصٍ عَدَاوَةٌ أو بَغْضَاءُ بِتَعَدٍّ مِن أحَدِهما على الآخَرِ، فَيَطلُبون مِن أحَدِهما [وهو المُتَعَدِّي] أنْ يَذْبَحَ، ويَسَمُّون ذلك ذَبْحَ صُلْحٍ، فَيَذْبَحُ [أَيِ المُتَعَدِّي]، ويُحضِرون معهم مَن حَصَلَتْ معه هذه العَداوةُ [وهو المُتَعَدَّي عليه]، فَما حُكْمُ ذلك؟}، فَقالَ الشيخُ: ذَبْحُ الصُّلْحِ الذي تَعمَلُه بَعضُ القَبائلِ في صُورَتِه المُشتَهِرةِ المَعروفةِ لا يَجوزُ، لِأنَّهم يَجعَلون الذَّبْحَ أمامَ مَن يُرِيدون إرضاءَه، ويُرِيقون الدَّمَ تَعظِيمًا له أو إجلالا لِإرضائه، وهذا يَكونُ مُحَرَّمًا، لِأنَّه لم يُرِقِ الدَّمَ للهِ جَلَّ وعَلا وإنَّما أراقَه لِأجْلِ إرضاءِ فُلانٍ، وهذا الذَّبْحُ مُحَرَّمٌ، والذبيحةُ لا يَجوزُ أكْلُها لِأنَّها لم تُذْبَحْ لله جل وعلا وإنَّما ذُبِحَتْ لِغَيرِه؛ فإنْ كانَ الذَّبْحُ الذي هذا صِفَتُه مِن جِهةِ التَّقَرُّبِ والتَّعظِيمِ صارَ شِركًا أَكبَرَ، وإنْ لم يَكُنْ مِن جِهةِ التَّقَرُّبِ والتَّعظِيمِ صارَ مُحَرَّمًا لِأنَّه لم يَخْلُصْ مِن أنْ يَكونَ لِغَيرِ اللهِ؛ فَصارَ عندنا في مِثْلِ هذه الحالةِ، وكذلك في الذَّبْحِ لِلسُّلطانِ ونَحوِه في المَسألةِ التي مَرَّتْ علينا [سابِقًا]، أنْ يَكونَ الذَّبْحُ في مَقْدَمِه وأنْ يُراقَ الدَّمَ بِقُدومِه وبِحَضْرَتِه، هذا قد يَكونُ على جِهةِ التَّقَرُّبِ والتَّعظِيمِ، فَيَكونَ الذَّبْحُ حِينَئِذٍ شَركًا أَكبَرَ بِاللهِ جَلَّ وعَلا لِأنَّه ذَبَحَ وأَراقَ الدَّمَ تَعظِيمًا لِلمَخلوقِ وتَقَرُّبًا إليه، وإنْ لم يَذْبَحْ تَقَرُّبًا أو تَعظِيمًا، وإنَّما ذَبَحَ لِغايَةٍ أُخرَى مِثْلِ الإرضاءِ ولَكِنَّه شابَهَ أَهْلَ الشِّركِ في ما يَذْبَحونه تَقَرُّبًا وتَعظِيمًا، فَنَقولُ، الذبيحةُ لا تَجوزُ ولا تَحِلُّ والأَكْلُ منها حَرامٌ؛ ويُمْكِنُ لِلإِخْوَةِ الذِين يَشِيعُ عندهم في بِلادِهم أو في قَبائلِهم مِثْلُ هذا المُسَمَّى (ذَبْحِ الصُلْحِ) ونَحوِه، أنْ يُبدِلوه بِخَيرٍ منه، وهو أنْ تَكُونَ وَلِيمةً لِلصُّلْحِ، فَيَذْبَحون لِلضِّيَافةِ، يَعْنِي يَذْبَحون لا بِحَضْرةِ مَن يُرِيدون إرضاءَه، ويَدعُونهم ويُكْرِمونهم، وهذا مِنَ الأَمْرِ المُرَغَّبِ فيه، فَيَكُونَ الذَّبْحُ كَما يَذْبَحُ المُسلِمُ عادةً لِضِيَافةِ أَضْيَافِه ونَحْوِ ذلك. انتهى باختصار. وقالَ (موقعُ الإسلام سؤال وجواب) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط: فإنْ قِيلَ {كَيْفَ نُفَرِّقُ بين ما يَكونُ إكرامًا، وبين ما يَكونُ تَقَرُّبًا لِغَيرِ اللهِ؟}؛ فالجَوابُ، أنَّه في حالِ التَّقَرُّبِ لِغَيرِ اللهِ لا يُقْصَدُ بِالذَّبِيحةِ [يَعْنِي (بِذاتِ الذَّبْحِ)] اللَّحْمُ، وإنَّما يُقْصَدُ بها تَعظِيمُ المَذْبوحِ له، ويُصْرَفُ اللَّحْمُ لأُناسٍ آخَرِين، كَمَن يَذْبَحُ أَمَامَ رَئِيسٍ لِمَقْدِمِه مِن سَفَرٍ أو نَحوِ ذلك ثم يُعطِي الذَّبِيحةَ أُناسًا آخَرِين لِيَأْكُلوا منها، فَهذا ما ذُبِحَ لِلرَّئِيسِ إلَّا تَعظِيمًا له وإجلالًا، فَيَكونَ داخِلًا في الشِّركِ الأكبَرِ. انتهى]، وما أَشْبَهُ ذلك، فهؤلاء لا يُصَلَّى خَلْفَهم، لِأنَّ ظاهِرَهُمُ الكُفرُ فلا يُصَلَّى خَلْفَهم. انتهى.

 

زيد: لكِنَّ أَئِمَّةَ المَساجِدِ القُبُورِيِّين هؤلاء، منهم عُلَماءُ يَدْعُون إلى مَذاهِبِهم الضَّالَّةِ، ومنهم عَوَامٌّ تابِعون لهؤلاء العُلَماءِ ويَجْهَلون خَصائِصَ مَذاهِبِهم الضَّالَّةِ، فهَلْ يَسْتَوُون في الحُكْمِ؟.

 

عمرو: نعم، يَسْتَوُون... وسَيَأْتِيك بَيَانُ ذلك لاحِقًا في سُؤالِ زَيدٍ لِعَمرٍو (ما هي طُرُقُ ثُبوتِ الحُكْمِ بالإسلامِ؟).

 

 

تَمَّ الجُزءُ الثانِي بِحَمدِ اللَّهِ وَتَوفِيقِهِ

الفَقِيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ

أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِي

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

تابع الشيخ أبا سلمان الصومالي على:
فيسبوك
تويتر
يوتيوب
tgstat

 

 

 

 

Free Web Hosting